آخر الأخبار
الرئيسية » يومياً ... 100% » حنين الوصاية الفرنسية على سورية

حنين الوصاية الفرنسية على سورية

 

بقلم: المهندس باسل قس نصر الله

في كلّ مرةٍ تلوح فيها بوادرُ تعافٍ وطنيٍّ في سورية، تعود فرنسا ــ السِياسَة وليسَ الشَعب الفرنسي المُحترم – كما لو كانت توقّفت عند لحظة انتدابها، لتضع أنفها في شؤوننا، ولكن هذه المرّة بثوبٍ جديدٍ قديم: “حماية الأقليّات”، ولا سيّما المسيحيّين.

آخر هذه المحاولات تجلّت في مؤتمرٍ رعته “التنسيقيّة الفرنسيّة من أجل مسيحيّي الشرق الذين في خطر”، والمعروفة باسم “كريدو”، والتي أجزِمُ بصِلَتها الوثيقة مع وزارة الخارجيّة الفرنسيّة، حيث حضره بعض رؤساء الطوائف الكاثوليكيّة والبروتستانتيّة، ولم تحضره طائفةُ الروم الأرثوذكس والسريان الأرثوذكس، واللذان يُشكّلان سويّةً نسبةً تفوق 70٪ من مسيحيّي سورية. وقد تحدّث فيه البعض بشكلٍ مستفزٍّ عن “ضرورة زيادة تمثيل المسيحيّين في الحكومة السوريّة”، وشرح البعض الآخر الوضعَ بشكلٍ واعٍ. ولا يفوتنا أنّه من الناحية الديموغرافيّة، تتراوح نسبة المسيحيّين في سورية اليوم بين 3٪ و5٪ من إجمالي السكّان، أي أنّهم لا يتجاوزون عددياً ما يُخوّلهم تمثيلًا زائداً عن حضورهم الوطني، وإن كانت مساهماتهم أكبر من عددهم بمراحل، وهذه شهادةُ تاريخٍ لا مَنّة.

إنّ هذا النوع من الطروحات يُذكّرُنا بزمنٍ أراد فيه الغرب أن يُقنع العالم بأنّ وجوده في بلادنا ضرورةٌ حضاريّة، فجاء الردُّ ــ كما يجب أن يكون اليوم ــ من قلب المسجد الأمويّ، عندما اعتلى فارس الخوري منبره أيّام الاحتلال الفرنسيّ وقال للمسلمين: “أنا نائب النصارى، أطلب الحماية منكم وأرفض فرنسا”. وهو لم يطلب فعلاً حماية، بل وجّه رسالةً للفرنسيّين بأنّ أبناء هذا البلد يحتمون ببعضهم، وأنّ التفاهم الوطنيّ الحقيقيّ لا ما يُفرض من الخارج تحت ذريعة “حماية الطوائف”.

أمّا من أراد أن يعرف معنى “حماية الآخر”، فليقرأ عن الأمير عبد القادر الجزائريّ، المسلم الذي احتمى به المسيحيّون في دمشق عام 1860 حين هاجمتهم غوغاء الفتنة. لم يكتب الأمير بيانَ شجب، بل ركب جوادَه، وفتح قلعتَه، وصرخ بوجه المهاجمين: “العارُ لكم! لن أُسلِّمكم مسيحيّاً واحداً. إنّهم إخوتي!”.

هذا هو الإسلام الحقيقيّ، لا ما تحاول فرنسا تجزئتَه لتغدو وصيّةً على مسيحيّيه.

فرنسا التي تتشدّق بالعلمانيّة، ترغب أن تعود من باب حماية الأقليّات في سورية، متجاهلةً أنّها كانت ذاتها مَن حرمت المسلمين من الجيش السوريّ أيّام الانتداب، وشجّعت على انتقاء الأقليّات لضرب وحدة البلاد.

وقضيّة دمشق عام 1840، التي استُخدمت لتبرير التدخّل بحجّة “حماية اليهود”، كانت صناعةً فرنسيّةً كذلك. كانوا يُشعلون الفتن ليبرّروا الاستعمار، وهو الأسلوب نفسه المتّبع الآن، لكن بخطابٍ ملوَّن بلغة الديمقراطيّة والحقوق.

وفي سان ريمو عام 1920، مُنح الانتداب لفرنسا بغطاءٍ دوليّ، وكان مطلب المسيحيّين اللبنانيّين وقتها بضمّ البقاع وحاصبيّا وراشيّا مبنيّاً على “الحدود التاريخيّة والأغلبيّة السكانيّة المسيحيّة”. ولم تلبث فرنسا أن رسمت حدوداً للمشرق على أساسٍ طائفيٍّ ومذهبيّ، متجاهلةً بذلك المبادئ التي تتغنّى بها في باريس.

من المُخزي أن نرى بعض الأصوات تسير اليوم في الطريق نفسه، من دون أن تفقه أنّ فرنسا لم تكن يومًا حامية، بل مستغِلّة، وأنّ الوجود المسيحيّ في سورية استمرّ، لا بفضل الخارج، بل بفضل عيشه المشترك مع محيطه، وبدفءِ علاقةٍ تاريخيّةٍ امتزجت فيها المآذنُ مع الأجراس. ومهما كانت الظروف المحيطة بسورية الآن، فيجب أن نضع ثقتَنا ببعضنا، وأنا واثقٌ بصدق النوايا.

أقولها بوضوح: لسنا بحاجةٍ إلى حمايةِ أحد، ولا إلى تمثيلٍ فاقعٍ لا يعكس إلا رغبةَ الخارج في العودة إلينا عبر ثغرةِ الطوائف. نحن، أبناءَ هذا البلد، نحمي بعضَنا بعضًا، ونبني وطنَنا بأيدينا، ونحفظ تنوّعَنا بوحدتِنا لا بانقسامِنا.

نعم… نحن لم نعتد الكثير ممّا يحدث في سورية… وجوهٌ جديدة… قراراتٌ جديدة… توازناتٌ جديدة… أمورٌ لم نكن نتصوّرها… كنّا في مياهٍ هادئةٍ بلا تيّارات، وفجأةً وجدنا أنفسَنا في دوّاماتٍ سياسيّةٍ ومجتمعيّةٍ ودينيّةٍ لم نعتدْ عليها خلال أكثر من ستّين عامًا… ولكنّ الثقة ــ ويجب أن تكون متبادَلة ــ هي أساسُ بناءِ سورية.

أقول: ثقةٌ متبادلة… فليس كلُّ الذين أتَوا من بُقعةٍ جغرافيّةٍ واحدةٍ هم المُحقّون فقط، وليس كلُّ الذين بقوا هم من شبيحة النظام البائد.

لن نكون أدواتِكم … ولا شهودَ زورٍ على تقسيمٍ جديد.

وإنْ كان لا بدَّ من حماية، فليحمِ كلٌّ منّا الآخر، كما فعلها فارس الخوري يومًا، وكما صاح الأمير عبد القادر في دمشق: “إنّهم إخوتي!”

اللهمّ اشهد أنّي بلّغت.
(موقع أخبار سوريا الوطن-٢)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

3 قِيَم لوحدة وتماسك الوطن

    م.مكرم عبيد     بين الحرية والديمقراطية والمساواة في الوطن ارتباط متبادل ووثيق يعكس القيم الأساسية التي تسعى المجتمعات لتحقيقها.   1. الحرية:تعبر ...