كمال خلف الطويل
تتداعى أمام الناظر رزمة أسئلة في الجيوبوليتيك تلحّ ألا تظلّ حائرة، فكلّها مفتاحية، ولذا واجبة الإجابة، أو، أقلّه، محاولتها.لكن ما ألحّ بأكثر كانت ملاحظاتٌ ثلاث استحقّت سبْقَ الحوار، موطّأً لجدليته:
1- إن الفترة الممتدّة حتى نهاية ربيع 2025 حبلى بزلازل تقلب الأرض عاليها سافلها، أكان كونياً أم إقليمياً. فمع انطلاق الغرب الجماعي من عقاله في حملةٍ عارمة ابتغت حماية هيمنته وتوكيدها، بل وتأبيدها، باتت كلّ الأسلحة عنده مستباحة، وبلغ علوّ منسوب المخاطرة لديه ذراه. بُعثَت من جديد أطروحة هنري كيسنجر/1957: الأسلحة النووية والسياسة الخارجية، فرشةً نظريةً تسوّغ لجوء الولايات المتحدة إلى السلاح النووي في مواجهتها ما احتسبته «محور الشرّ» أمامها: روسيا والصين وكوريا الشمالية، وحتى إيران. لا يدع ذلك، وما سبقه ووازاه، من سبيل أمام مقاومي هيمنتها الكونية سوى ثالوث تشرشل عند مفتتح الحرب الثانية: ليس أمامنا سوى الدم والعرق والدموع.
2- إن حروب اليوم والغد لم تعد تعرف للنصر مكاناً، بما عناه من سحق طرفٍ للإرادة السياسية للطرف المقابل بالتمام والكمال. لقد باتت سويّات مخرَجاتها تراوح بين التكافؤ بينهما في المنزلة الأدنى… إلى منزلة بين منزلتين مثّلت رجحان طرفٍ على آخر بالنقاط، وبما لا يكفل للراجح مراده السياسي غير منقوص… إلى الفوز كأقصى مدى، وبما يجعل الفائز جانياً لمردود سياسي فاق مردود خصمه بما لا يقاس؛ إنْ لم يحرمه منه. من ثمّ، باتت الحروب جولاتٍ تنضاف واحدةٌ على سابقاتها حتى يصل مردودها السياسي لأيّ من خائضيها إلى كتلة حرجة وحاكمة.
3- إن التحوّل النسيجي للرأسمالية الغربية، منذ انتهاء الحرب الباردة، من إنتاجية الطابع إلى مالية الغلَبة، قلّص قاعدتها المادية الفعلية لحجم رأسٍ مدبّب فيما سقفها عريض وهشّ في آن؛ فما هو سوى عرطلة رهونات تريلونية غير مسنَدة… حالٌ إنْ لم تداره سطوة الغرب الجماعي على الموارد الطبيعية للقارات الثلاث: آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، لمضت إلى إفلاس عميم. ما معنى هذا الكلام؟ معناه التوغّلُ في الهيمنة ما استطاع المهيمن إليها سبيلاً. ولعمري، فما كان فعلاً ماضياً ما عاد من مستقبلٍ له.
نأتي الآن إلى جدلية الحوار: هل واشنطن جادّة فعلاً في صفقة توقف الحرب في وعلى غزّة؟
ليست جادة؛ ففي وقف الحرب، كشرطِ حماس، هزيمة لها بمقدار ما لتل أبيب؛ وجلّ مرادها تجميدها في شكل هدنة حتى:
1- تفرغ من الانتخابات عندها، ثم يلتقط كلبها – الجيش الإسرائيلي – أنفاسه قبل أن تطلقه من جديد لنهش حماس، ومن بعدها حزب الله، ثمّ حتى إيران؛ ولكن بالشراكة معها.
2- تحاول بالمليان تحويل نكسة تكتيكية وازنة لروسيا، بغزو القوات الأوكرانية والناتوية لأراضيها، إلى هزيمة استراتيجية لها، تؤمّن لواشنطن المسرح الأوروبي بالتمام، قبل أن تمضي بقضّها وقضيضها إلى المسرح الآسيوي قاصدةً إلحاق الصين بما حاق بروسيا. في قراءتي أن هناك هزيمة استراتيجيةً في الأوراق؛ ولكن لأوكرانيا.
هل تسعى إسرائيل لأخذ إيران إلى حرب شاملة الآن؟
ليست لديها من قدرةٍ عليها بانفراد، سيما وجيشها منهكٌ حتى الثمالة. هي تحتاج إلى الولايات المتحدة قاطرةً تتوسّدها، والأخيرة ليست في صدد ذلك قبل فراغها مما سبق ذكره، فضلاً عن أن مخزونها من الذخيرة وقطع الغيار وبعض السلاح منقوص الآن، بما يجعلها غير قادرة على خوض الحرب في مسرحين بتزامن. أولويتها الآن محاولة كسر روسيا قبل الانزياح شرقاً.
هل إيران مقبلة على الانتقال من برزخ العتبة النووية إلى ناصية امتلاك السلاح النووي، ووسائط حمله؟ وهل بإمكانها حرمان واشنطن من استباق استخباري؟ وهل يكون الإشهار بإعلان الانسحاب من معاهدة حظر السلاح النووي، ومن دون تجربة نووية، مستكفيةً بتجربة كومبيوترية؟ وما هو حافز إيران على انتقال كذاك الآن، إن وُجد؟
نعم للكلّ. في التحليل أن اتّخاذ طهران قرار الانتقال من برزخ العتبة إلى ناصية الامتلاك المحمّل قد اكتنف واقعة نيسان/أبريل الفائت، بل ربما قبلها؛ إذ بدونها تبقى عرضةً للنَّيل، وبها تتحصّن منه بقدرٍ طاغٍ.
هل «استرداد» إيران، بمعنى تدمير مشروعيها الصاروخي والنووي؛ بل وإسقاط نظامها، هدف ثابت للمتروبول الأميركي، وامتداده المناطقي إسرائيل، وبكل الوسائط بما فيها القوة العسكرية؟ وهل في وسع الولايات المتحدة شنّ حرب شاملة عليها تتغافل عن مخاطرها الفادحة؟ وهل يمكن اشتمال ذلك على استخدام أسلحة نووية تكتيكية؟
نعم للرغبة بل وللمحاولة، وبخصوصٍ إن تأكّدا من قرب امتلاكها لسلاح نووي قابل للتحميل. لكن التغافل عن المخاطر مكْلفٌ، لا بل مدمّر، فضلاً عن أن استهدافاً أميركياً للمواقع النووية تطلّب وجوداً برّياً لها هناك، وهو ما ليس في الأوراق. ثم إنّ استعمال النووي/أو النيوتروني ضدها يستدعي، بالضرورة، مظلّةً نووية أوراسية تكفل لها ردّاً متناسباً، من ذاك الصنف أم ما كافأ.
هل نمّ «7 أكتوبر» عن فقدان الغرب، وإسرائيله، المبادأة الاستراتيجية لصالح أعدائه في الإقليم؟
ذلك صحيح بمقدار؛ وما استماتة إسرائيل في محاولة استعادة ردعيتها، ولهاث الولايات المتحدة على تمكينها منه، سوى برهان على أن كسر عظمٍ لإسرائيل يعني رضّاً شديداً لأربطة ومفاصل سيّدتها. وما لبثت الولايات المتحدة تثابر على حقن إسرائيلها بالهرمونات والمقويات بعد كل وكسةٍ أحاقت بها، أكان في تشرين-1/أكتوبر 73، أم في مطالع 91، أم في صيف 2006، أم الأخطر عليها بامتياز منذ 7 تشرين-1/أكتوبر 2023، فهي لم تفقد بعدُ الأمل في إيقافه على قدميه سيّداً للإقليم بالوكالة. في المقابل، فـ«المحور»، وقد قام طرفه الفلسطيني بتهشيم ردعية إسرائيل في 7 أكتوبر، لا يقدر على تحمّل استعادة إسرائيل الأميركية لها، لا بالطول ولا بالعرض.
لنضع جانباً الحافز الشخصي لنتنياهو في إدامة الحرب، وكذا حافز القادة العسكريين على مماشاته ستراً لفضيحة إخفاقهم الجسيم في 7 أكتوبر… هل هناك اعتقاد حقيقي لدى أصحاب القرار في أن إدامتها لا بدّ وأن تنتهي بفوز محقّق فيها؛ بمعنى كسر حماس… يستحقّ الصبر على جُرف رزايا الحرب المتراكم فوق رأس اسرائيل؟
يتنازعهم رأيان متفارقان؛ واحدٌ يرى ذلك ممكناً مع الوقت؛ وآخر يراه خارج المدار، ما اقتضى الحاجة إلى وقف نارٍ لحين. كلاهما، في قراءتي، مصيبتان لا مصيبان، لمعتنقيهما.
هل «المحور» في صدد أخذ المبادرة لشنّ حرب واسعة على إسرائيل في عام 2025، تُذهب ريحها بالمليان؟ وهل لذلك التوقيت علاقة باستباق أي مفعول معيق للقبّة الليزرية؟ وما تصوّر شكل الحرب: هل مثلاً اكتساح أصبع الجليل ومقايضة الانسحاب منه بتحرير الضفة الغربية – وفيها القدس الشرقية – احتلالاً واستيطاناً؟
أفترض، بالتحليل، أن ذلك في الأوراق.
ماذا لو كانت الدولة العميقة وقتها قد صُفّيت على يد الترامبية، وأعادت الأخيرة تشكيلها على صورتها، نائيةً عن خوض حروب؟
في أمر إسرائيل لا يختلف الجمعان. شعار الترامبية هو أميركا أولاً وإسرائيل في العروة.
هل ارتفاع منسوب الاشتباك في الشمال ومن جنوب الجنوب متأتٍّ من استحكام الموقف في غزة؟
نعم، الحال فيها هو بين مقاومة متعَبة ولكن متماسكة، لتكيّفها – هيكلياً، عددياً، أدائياً – مع متغيّرات الميدان؛ لكنّ كعب أخيلها بحرٌ من عذابات الناس يزنّرها… وبين جيش محتلّ منهك متعثّر لا يزال يبحث عن الأنفاق بمصباح ديوجين في النهار، ولم يلقَها إلا بنسبة الخُمس، ما يمنع حدوث فالقٍ بين المقاومة وحاضنتها هو مساواة عدوهما للاثنتين في إباديته.
هل مرونة حماس «الصينية» – فضلاً عن تظهيرها اللامرجعية الأميركية – منبعثة من قناعة أن الأساس هو مقاومتها، وعليه رضاها بالشراكة في منظمة تحريرٍ شربت إكسير القيامة، وأبطلت ذرائع المتأبّط شراً؟
نعم، ومع تظهير أن قائد الميدان هو قائدها من ألفها إلى يائها، بما عناه من توكيدٍ على أنّ سلطويتها هي في خدمة مقاومتها.
هل روسيا على توافق غالب مع إيران في «الشام»، على منوال توافقهما في أوكرانيا وبينياً، أم ما فتئ نأيها عن أذيّة إسرائيل ساري المفعول؟
نعم في مجمل.
هل السعودية جادّةٌ في طلب ضمان أمن أميركي [معاهدة وخلافه]؟ هل تصدّق جدّياً أن ما جرى معها في 90/91 قابل للتكرار أميركياً؟ وهل، بناءً عليه، تتحيّن الخروج على اتفاقها «الصيني» مع إيران؛ إذ ما كان سوى أداة ضغط لنيل المَرام؟ وهل تمضِ الرياض فعلاً إلى تطبيع وفاقي مع إسرائيل إبادية، مجتاحةً للأقصى، ورافضة لدولة فلسطينية؟
عندي أنها تريد «الحسنيين»: ضمان أمني أميركي منصوص، وتعاون اقتصادي مفتوح المدى معها كما مع الصين وروسيا. مشكلتها إن أصرّ الأميركي على أحاديته. لعلها تراهن على عسرة إحراجه لها. أمّا لجهة تطبيع إبراهيمي، فكلّي شكّ في استطاعتها التجرّؤ عليه والحرب دائرة، أو حتى إن توقّفت دون كسر حماس. بنفس المقياس، فمنافع انفراج علاقتها بإيران ما فتئت تعلو عن سلبياته.
هل فكرة حلف أميركي – إسرائيلي – عربي/سنّي قابلة للاستيلاد، ليس ظرفياً فحسب، وإنما مستداماً، وعلى كل الصُّعد الاستراتيجية والتكتيكية والعملانية؟
واقعة نيسان الفائت، وما قد يتكرّر لاحقاً، يشيران إلى إمكانية ذلك. لكن أفق تلك الإمكانية يشحب باتّساق مكانة «المحور» مع دعم كلٍّ من روسيا والصين له. مثال ذلك، غياب ممانعتهما نووية إيران، قياساً لسابق رفضهما إياها لحدّ بضع سنواتٍ خلت.
هل الشراكة الروسية – الصينية ذاهبةٌ إلى حلف أوراسي يجمع إلى «شنغهاي» اتّفاقات روسيا والصين المنفردة مع المحيط؟ وهل «آسيا الوسطى» مساحة تكامل بينهما، أم هناك بعدُ بعضٌ من تفاضل؟
نعم، في مجمل.
هل في الأوراق تطبيعٌ صيني – هندي يستعيد شراكة «باندونغ»، ويرسي مع روسيا ثالوثاً قائداً لـ«بريكس»؟ وهل يعني ذلك خروج الهند، بشويش، من اتفاقيها الأطلسييْن: واحدٌ في المحيطين الهندي والهادئ (تريدهما واشنطن واحداً)، والثاني بين الخليج والمتوسط؟
إن دلت أخيراً «الثورة الناعمة»، الأميركية الصنع، في بنغلادش عن أمر فهو إلقاء واشنطن كلّ قفّازاتها سعياً لتصفية مواقع المعارضات المناطقية لسياساتها في الهيمنة. إن أضفنا حدث بنغلادش على إشعال وكالة المخابرات المركزية الأميركية، قبل برهة، لحرب أهلية مسلّحة في ميانمار، بل ومحاولتها الفاشلة تزوير انتخابات تايلاند، ثم تمترسها في بحر الصين الجنوبي خلف عميل فيليبيني مزمنٍ سلالياً، للمسنا كيف أنّ خليج البنغال، وجنوب شرق آسيا، مهمّان لها بغية قطع الطريق على طريق/حزام الحرير الصيني. أضف أن حدث بنغلادش مؤذٍ للهند التي طالما زعمت واشنطن أنها مشروع حليفٍ وأثير. ما جمع الصين والهند، في حسابات اليوم، ليس فقط حاجتهما إلى بعض [سيما الهند] بل مشتركُ استهداف مصالحهما أميركياً. لذا، فعندي أن ثالوثاً جمعهما مع روسيا في الأوراق، وأن تسلّل الهند خارج تربيطات واشنطن في الأوراق أيضاً.
ما مدى تراصّ «بريكس» و«أخواته» ومدى مُخرجاته الجيو-اقتصادية، وبالأخصّ نسبةً إلى عضوية السعودية والإمارات، واحتمال دخول تركيا فيه؟
لا يفتر دأب واشنطن على بثّ الشقاق في صفوف تجمّع «بريكس»، أملاً في تقويضه قبل أن يستوي على الأرض صرحاً كامل الأوصاف. نتيجة حرب أوكرانيا فاصلةٌ لجهة نجاح ذلك من فشله… للحوار بقيّة
سيرياهوم نيوز١_الاخبار