آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » حول الموقف من دستور قيس سعيد *

حول الموقف من دستور قيس سعيد *

حول الموقف من دستور قيس سعيد *

منذ 25 جويلية الماضي شهدت مواقف المجموعات اليسارية الثورية تغيّرات مثيرة للاهتمام، انقسمت بين متحمّسين للمسار ورافضين له ومنتظرين لما سيفرزه. ولكنّ الجميع يتشاركون في أمر تشبثوا به على مدى سنوات، ويكاد يكون هو العنصر الوحيد الجامع بين كلّ من ينسب نفسه إلى هذا اليسار الثوري، هو غياب القدرة على الفعل السياسي المؤثر في حركة الصراع الطبقي والوطني.

يبدو أنّ المبدأ الذي قاد الرفاق في هذا السياق هو الابتعاد عن التصورات الدغمائية المعتادة والإجابات الجاهزة التي تربّيْنا عليها داخل أطرنا النضالية، وهذا سليمٌ جداً من حيث المبدأ. فلا أحد منّا ما زال ينظر باحترام إلى الرفيق الذي يُخرج موقفه السياسي من ثلاجة ماركسية مُجمَّداً بلا طعم ولا رائحة ومعرَّضاً للتعفّن بسرعة بعد أيّام.
المبدأ الثاني الذي يقود هؤلاء هو حُبٌ قائم على نزعات رومنطيقية للجماهير. نعني بذلك تصوراً للجماهير على أساس كونها حين تتحرّك بأعداد واسعة في اتجاه سياسي ما فهي دائماً صحيحة. ويجب على الشيوعي الحقّ واليساري المقاوم أن يكون مع أبناء شعبه وفي مقدّمتهم مسلِّحاً إياهم بحكمته وقدراته القيادية وحامياً لهم من مختلف المتربصين بهم ممّن يريدون إعادة توجيه مسار حركتهم. وطبعاً ينسى الرفيق هنا أنّ أبناء شعبه مُهَيْمَنٌ عليهم ثقافياً على مدى عقود ومهيَّؤون لتبنّي أكثر الأفكار بساطة وتخلّفاً.
المبدأ الثالث الذي أدّى إلى مثل هذا الذوبان الكامل هو الإحباط. إحباطٌ من عقد بلا ثمار ومن دون أيّ مراكمة حقيقية في اتجاه بناء الرافعة التنظيمية لأفكار تخدم مصالح هذا الشعب. ونحن مقتنعون أنّ هذا الإحباط يأتي من كون الكثير من الرفاق يريدون من دون وعي منهم أن تحدُث الثورة في عهدهم من دون غيرهم وفي أسرع وقت ممكن، ومن دون بذل الكثير من التضحيات ومع الحفاظ على نمط حياة مريح في أغلب ردهات ما نسمّيه نضالاً. هذا قد يدفع البعض إلى التشبّث بقيس سعيد كتشبّث سام بتلابيب أبيه نوح وهما وسط الطوفان. فهو الملاذ الأخير والفرصة الباقية للبقاء من دون وجود «خوانجية» يعكّرون صفو عملنا الثوري ويهدّدون وجودنا بحدّ ذاته.
طبعاً لن نتحدّث عن حالات الرغبة في التموقع وسيَلان اللعاب مع أوّل فرصة وهمية للتواجد في السلطة. فذلك الأمر كان حاضراً معنا منذ تأسيس النواة الأولى للأمميّة الثالثة في تونس إلى حدود اللحظة.
إنّ كل هذه العناصر تجعلنا اليوم أمام أنصار متحمّسين للرئيس مدافعين عنه بلا هوادة، وطبعاً مدافعون عن دستوره الجديد الذي لم يشُذّ عن غيره من دساتير دول الجنوب المستباحة من الإمبريالية المعولمة:
– كثير من الأحاديث الجميلة عن السيادة والمساواة والعدالة، وهي لن تُطبَّقَ لأسباب بنيوية تخصّ طبيعة النظام القائم.
– محاولة الجهة التي كتبت الدستور تأبيد سلطتها، سواء عبر إعطاء كل السلطات لرمزها أو عبر النكوص إلى تقاليد مؤسساتية تمنع المنافسين من المنافسة.
– بعض الفصول المُعَدَّة لإثارة جدل هوويِّ عقيم حتى تجد «نخبتنا» ذات القلب الشرقي والعقل الغربي عضماً تقضّي وقتها في عضعضته.
الموقف الثاني للمجموعات اليسارية الموجودة في تونس الآن هو موقف على النقيض من الأوّل، لكن المبادئ التي تقوده لا تجعله مختلفاً جداً رغم الاحتراب الظاهر. وهو موقف قائم أيضاً على تصورات لا علاقة لها باستراتيجيا ولا بتكتيك.
إنّنا هنا نتحدث عن مرض هجين عضال استولى على عائلة يسارية كاملة تأثرت ببرنامج الحريات السياسية الذي قدمه حزب العمال الشيوعي التونسي في أوائل التسعينيّات. أيديولوجيا الحريات السياسية واستحضار فهم مشوَّه للتناقضات مع خلطة مُعَدَّة ممّا كتبه ديميتروف عن الجبهة ستجعلنا أمام تكتيكات تذكرنا بقصة الغراب الذي أراد التحول إلى حمامة فلوّن نفسه بالأبيض.

قوام هذه التكتيكات هو التالي:
– نحن شيوعيون ولكنّنا في نفس الوقت ندافع عن الديموقراطية ونريد انتخابات يشارك فيها زعماؤنا، حتى بقواعد مُعَدَّة سلفاً من قِبل الكمبرادور.
– الحرية السياسية هي أهمّ أهدافنا في هذه اللحظة لأنّها ستكفل لنا الحديث بحرّية. صحيح أنّ ذلك سيكون بمرافقة جهاز دعائي جبار يفرض هيمنة ثقافية لا قبل لنا بها، ولكننا مع ذلك لنا أمل في قدراتنا الشيوعية الخارقة التي لم نعرفها بعد.
– نحن لا نختار حلفاءنا انطلاقاً من طبيعتهم ومواقفهم التاريخية وأفق تطورهم الذي قد يؤدّي إلى إفنائنا. بل نختارهم انطلاقاً من مواقفهم الآن وهنا. فنحن لا ننظر إلّا إلى أقدامنا ولا قدرة لنا على استشراف ما يحمله المستقبل مع حلفائنا هؤلاء.
– أيّ زعيم عدا زعيمنا هو دكتاتور بالضرورة ولا مصلحة للشعب فيه…
إنّنا أمام كتلة غريبة من الديموقراطيين الليبراليين الذين ينطقون جملاً من كتب ماركس وأنغلز ولينين وستالين كي يبرّروا بها خيارات لو طُبّقَت في وقت ستالين لاختفى أصحابها في قاع نهر الفولغا.
وخيارات هؤلاء اليوم هي خيارات أقرب للجذل الفكري. ونحن نشعر بهذا الفرح والجذل حين نستمع إلى مواقفهم السريعة من كلّ ما يفعله قيس سعيّد. فالرجل بالنسبة لهم لا يمثّل ظاهرة معقدة تستوجب التفكيك والفهم وفق معايير علمية. بل هو بالنسبة لهم عودة لنموذج بن علي أين كانت حياتهم أسهل من زاوية إصدار المواقف. إنّه الفرح بعودة البساطة، أي بعودة الكسل الفكري. كأنهم المتخصصون في مقاومة الدكتاتورية وحدهم من دون غيرهم، وحين عاشوا فقداناً كاملاً للبوصلة من دون بن علي استعادوها أخيراً عبر استحضار روح الجنرال في جسد قيس سعيّد.

هذا الدستور ليس سوى عقد قانوني يتغيّر إن تغيّرت موازين القوى. وعلى هذا الأساس فإننا نرفض انحراف النقاش إلى مستوى قانوني يجعلنا في مشهد طالب قانون فاشل

حتى لو عبّر قيس سعيد عن أكثر المواقف جذرية ستجدهم في الطرف الآخر. فما بالك بهذا الدستور الذي اعتُبر من قبل هذه الطائفة حراماً بعد ثانيتين من نزوله في الرائد الرسمي. هو الكسل في التفكير ومرض أيديولوجيا الحريات السياسية العضال.
نحن نعتقد أنّ تاريخ اليسار الماركسي في تونس لم يشهد لحظة كانت فيها الأمراض والنزعات العاطفية الذاتية هي المحدّدة للمواقف كمثل هذه اللحظة.
وبين الوهم والكسل نجد أنفسنا مطالبين بموقف من هذا الدستور وما أوصلنا إليه وما قد يُفرزه.
إنّ مسار 25 جويلية منذ انطلاقه لم يكن بأي حال مطمئناً إلا من زاوية واحدة. فحالة التعفن غير المسبوقة التي شهدتها البلاد في تلك اللحظة كانت محتاجة لحجر يُلقى في البركة. وقد دفع هذا الحجر بكلّ العفن إلى الخارج وصار مرئياً ومعترَفاً به لا مسكوتاً عنه من قِبل كلّ البُنى التي تشكّل مجتمعنا. وهو أيضاً ما دفعنا إلى الأمل لا في ظهور مخلّص بل في نقلة كمية في وعي شرائح واسعة من أبناء شعبنا، لعَلّ انطلاق مسار 25 جويلية يدفعها خطوة أخرى في طريق التنظم من أجل مصالحها. هذا الأمل بدأ في الخفوت تدريجياً لسببين رئيسيّين:

 

– تم حصر المسار في شخص المخلّص قيس سعيد. وقد تم تأكيد هذه الفكرة مراراً وتكراراً عبر العنف الرمزي الذي تحدّث عنه بورديو. وقد استعمُلت لذلك كل أدوات الهيمنة الثقافية للنظام. (بعض الرفاق مشكورون أيضاً على إسهاماتهم الشغوفة غير المؤثرة في هذا الاتجاه).
– مرة أخرى لم تكن هنالك أيّ جهة مستعدة للاستثمار والبناء على حدث من هذا النوع، لا سياسياً ولا تنظيمياً.
وهكذا وجدنا أنفسنا في مسار يُغتال فيه العقل الجمعي ليوم 24 جويلية ليحلَّ مكانه عقلٌ جمعيّ آخر مهيمَن عليه بنفس الوسائل ومن قِبل نفس المؤسسات، وبخطاب جديد شكلياً لكن من دون مضامين جديدة.
قد يجيبنا هنا البعض بأنّ مسار قيس سعيد حمل وعوداً بتغيير شكل السلطة السياسية ومؤسساتها ممّا يسمح لنا بعمليات اختراق قد تساعدنا في حرب المواقع مع النظام.
الإجابة على هذا أنها كانت وعوداً فقط لكن مقترح الدستور الجديد يحمل مؤشرات خطيرة في ما يتعلق بهذه المسألة. فمن الصحيح أن هنالك مجلساً جديداً للأقاليم والجهات قد يُستحدث في المستقبل، لكن الفصول التي تجعل من رئيس الجمهورية هو مرجع النظر الأكبر وزناً في مؤسسات الدولة تنسف أي إمكان للتحريض والدعاية لبرامج عبر مؤسّسة من هذا النوع.
وإن تعمّقنا أكثر في النقاش قد يقول أصحابنا هؤلاء أنّ ضمان دور المؤسسات الشعبية الجديدة هو النزعة الايطيقية لدى قيس سعيد. هنا تحديداً ندخل في منطقة أقرب للرجم بالغيب، والثوريون لا يبنون تكتيكاتهم على النوايا الطيبة طبعاً. ولكن حتى هذه الحجة قد تسقط مباشرة لو رأينا مجموعة من الأحداث المرتبطة بهذا الشخص، مثل اختياراته للمسؤولين (هشام المشيشي، نادية عكاشة، كأمثلة) أو تعامله مع كاتبي دستوره الذين ألقي بعملهم في ملحق جريدة «الصباح». والأهم من ذلك: هل وضع أصحابنا فرضية ما بعد قيس سعيد؟ انتخاب رئيس آخر مثلاً أو فنائه البيولوجي ببساطة؟ الفرضية الأخرى المرتبطة بشخص قيس سعيد الضامن للمشروع لدى أصحابنا تتمثّل في بقائه على رأس هرم السلطة لفترة أطول من مدتين انتخابيتين، وهو ما يعني أنّ الرجل لا علاقة له ايطيقياً بما يعبّر عنه من مبادئ قائمة على طقوس عبادة القانون وقيم المواطنة، كما يراها هو.

إنّنا نريد من رفاقنا المساندين، من دون نقد في أغلب الأحيان، أن يستوعبوا أنهم قد ربطوا مصير رؤيتهم لمجتمع أجمل بمشروع لا أفق له إلا الرضوخ للفساد والاستبداد والتبعية والعمالة أو العودة إلى الأنظمة ذات التوجه الوطني على شاكلة عبد الناصر وصدام حسين وحافظ الأسد. ونحن نعرف ما أنتجت تلك الأنظمة حين عمّها الفساد، مع مراعاة الفوارق الكمية بينها. ونعرف أكثر من ذلك أثرها على الحركات التحررية الحقيقية في الوطن العربي، وكيف وُئدَت وأُجهضَت كل المجهودات للبناء تحت وطأة عبادة الفرد وفساد الحاشية والشعوذة السياسية المعمَّمة.
إنّ الموقف من مسار 25 جويلية يجب ألّا يتجاوز فكرة كونه ساعدَنا عبر خلقه لتناقضات جديدة داخل النظام. هذه التناقضات تمثّل لنا متنفساً من سطوة الرجعيين خلال ما أسموه انتقالاً ديموقراطياً. لم يكن من المفترض أن نعتنق مسار 25 جويلية كما لم يكن من المفترض رفضه بطريقة بافلوفية. كان من المفترض أن نتنفس الصعداء ونضع برنامجاً جدياً للعمل الثوري بشروط نضال أفضل. والفرصة لذلك ما زالت موجودة لحدّ اللحظة.
إنّ الجدل حول الدستور لا يمثّل إلّا فصلاً جديداً لنقاش هذه الفكرة تحديداً. فهذا الدستور ليس سوى عقد قانوني يتغيّر إن تغيّرت موازين القوى. وعلى هذا الأساس فإننا نرفض انحراف النقاش إلى مستوى قانوني يجعلنا في مشهد طالب قانون فاشل يرى وجوده مرتبطاً بالقوانين حصراً، فقط لأنه يمكن له الثرثرة في هذا المجال أكثر من غيره. إننا نريد أن نناقش موازين القوى التي أنتجت هذا الدستور وطبعاً طرق تغيير معادلاتها.
أمّا بالنسبة للاستفتاء فإننا لا نرى الدعاية من أجل مقاطعته أو المشاركة فيه أمراً مجدياً.
إنّ أحد أهم الدروس التي يمكن استخراجها بعد سنوات من انتفاضة 2011 هو أن الموقف السياسي سلاح مهم. وهو يراكم دائماً لمصلحة الجهة التي تعبّر عن نفس الموقف الأقدر على الدعاية، ويعود عليها بالمنفعة. فإن دعونا إلى المقاطعة فلن يستفيد من ذلك إلا دعاة المقاطعة الجدد من حُثالة «مواطنون ضدّ الانقلاب» وجثث سياسية أخرى. أمّا إن دعونا إلى المشاركة فسنُسهم في زرع الوهم وفي تبرير استعمال أدوات الهيمنة التي يستعملها النظام الآن.
على هذا الأساس فإننا ندعو إلى نقل الجهود والتفكير إلى مجال آخر يقوم على الثنائية التالية: كيف نفهم التغيرات التي نشهدها الآن وما هي الخطة السياسية والتنظيمية التي تجعلنا قادرين على الفعل والتأثير في المستقبل القريب خارج التموقع مع أجنحة النظام؟
سيرياهوم نيوز3 – الأخبار
x

‎قد يُعجبك أيضاً

بعد الفيتو الامريكي على وقف القتل: خطوتان مجديتان

  ا. د. جورج جبور       الخطوة الأولى: *انتقال صلاحيات مجلس الأمن الى الحمعية العامة بموحب قرار التوحد من أجل السلم. يتخذ قرار ...