| محمد سيد رصاص
منذ اندلاع الحرب الأوكرانية في 24 شباط الماضي، والتي هي حرب روسية مع حلف الأطلسي عبر الوكيل الأوكراني، يكرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كلمة «الغرب» في خطاباته، وواضح من سياق الكلام أنه لا يقصد مكاناً جغرافياً محضاً بل مكاناً هو يكون «الآخر» صاحب الهوية الحضارية-الثقافية المختلفة والمتجابه مع روسيا. وفي خطابات الرئيس الروسي هناك مقولات تتتالى مثل «الوطن الأم» عند الإشارة إلى الروس في الاتحاد الروسي وفي خارجه، في إحالة من قبله إلى أن ليس هناك من توحّد بين الجغرافيا والديموغرافيا الروسيتين، مع تعريفه للروسي في خطاب 30 أيلول بأنه الذي «يحدد نفسه روسياً وفق الثقافة والدين والتقاليد واللغة ويرى نفسه جزءاً من روسيا» في إشارة إلى روس المناطق الأربع التي ضمّها بوتين يومها من أوكرانيا، وهو ما يمكن أن يشمل مستقبلاً روس جمهوريات البلطيق الثلاث وكازاخستان. في خطابه المذكور هناك إشارة إلى روسيا بوصفها «حضارة كاملة» مع «قيم» و«فلسفة». يترافق هذا مع اتهامه للغرب بـ«العنصرية، والأبارتهايد، والبربرية في معاملة الشعوب»، مع اتهامه له بمحاولة «إضعاف وتحطيم وتقسيم روسيا». في خطاب 21 شباط 2022، والذي كان استهلالاً تمهيدياً للحرب، اتهم بوتين لينين والبلاشفة بـ«تقسيم وتقطيع ما كان تاريخياً أرضاً روسية» أثناء تكوينهم لأوكرانيا مع تأسيس الاتحاد السوفياتي في 30 كانون الأول 1922 «من دون أن يسألوا ملايين الناس الذين يعيشون هناك ماذا يريدون».
بهذا الصدد، يمكن أن نتذكر العروبيين والإسلاميين مع خطابات بوتين عندما كانوا، ومنذ عشرينيات القرن الماضي، يستخدمون مصطلحات «الغرب» بكل ما يحويه خطابهم من رؤية لـ«الذات» و«الآخر»، وأيضاً عبر لحظة تصادمية عندهم مع «الغرب». عند الرئيس الروسي، وهذا كثير الوضوح، هناك رؤية إيديولوجية تمتزج فيها القومية الروسية بالديانة الأرثوذكسية زائد العداء للغرب، مع اتجاه لـ«إرجاع روسيا إلى مجدها». في هذه الرؤية هناك اتجاه صريح معادٍ لليبرالية، مع ملامح اتجاه لتحديد دوائر روسيا في «الاستدارة شرقاً» نحو الصين وربما نحو العالم الإسلامي جنوباً، وليس صدفة اللهجة الجديدة التي يتحدّث بها بوتين عن الإسلام بالتزامن مع عالم ما بعد 24 شباط.
ولكنّ اتجاه بوتين في العداء للغرب يتعارض مع اتجاه تغريبي روسي بدأه بطرس الأكبر (1682-1725) وتابعه البلاشفة ثم يلتسن، والرئيس الروسي الذي تولى منصبه في اليوم الأخير من عام 1999 ينهي ثلاثة قرون من مسار غالب لهذا الاتجاه. هذا المسار التغريبي الذي تحوّل إلى اتجاه فكري–سياسي عند الحركة الديسمبرية عام 1825 وعند مفكرين مثل هرتزن وبليخانوف، وأدباء مثل تورجينيف وتولوستوي وتابعه الليبراليون والماركسيون الروس. وكان قياصرة روس على اتجاه بطرس الأكبر التغريبي، مثل كاترين الثانية (1762-1796)، وألكسندر الثاني (1855-1881) الذي ألغى نظام القنانة. فيما كان الاتجاه السلافي-الأرثوذكسي المعادي للتغريب موجوداً عند قياصرة مثل نيقولا الأول (1825-1855)، وهو الذي قضى على الحركة الديسمبرية التي قادها ضباط تأثروا بأفكار الثورة الفرنسية بعد أن دخلوا باريس عام 1815 إثر هزيمة نابليون بونابرت في معركة واترلو أمام الجيوش البريطانية والنمسوية والبروسية والروسية، وعند نيقولا الثاني الذي أطيح به في ثورة شباط 1917. وكان هذا الاتجاه مدعوماً من الكنيسة ويمكن أن نجده عند أديب مثل دوستويفسكي وعند حركات سياسية امتزجت عندها النزعة الفلاحية بالقومية الروسية مثل «النارودينيين- الشعبيين» الذين أسسوا الحزب الاشتراكي الثوري، وعند مفكرين مثل نيقولاس بيرديائيف الذي كتب كتاب: «منابع الشيوعية الروسية ومعناها».
بوتين لا يفكر، رغم تأييده للقوميين الصرب، في السلافية، بل يركز على توحيد الديموغرافيا الروسية، حيث يتوزع الروس في بلدان كانت جمهوريات سوفياتية سابقة، في «الوطن الأم»
يمكن هنا العودة للوراء: كان تأسيس الدولة الروسية الأولى في كييف متبوعاً بعد قليل بتبني المسيحية الأرثوذكسية في عام 988 وفي الانخراط بالدائرة الحضارية البيزنطية-الأرثوذكسية في عالم كان مركزه الحضاري في القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية التي كانت تسمى «روما الثانية» في مواجهة روما عاصمة الكثلكة. بعد سقوط القسطنطينية بأيدي العثمانيين عام 1453 كان تأسيس الدولة الروسية الثانية عام 1547 مع القيصر إيفان الرهيب، مرفوقاً مع مشروع لتحويل العاصمة موسكو إلى «روما الثالثة»، حيث امتزجت القومية الروسية بالمسيحية الأرثوذكسية. كان تغريب بطرس الأكبر مرفوقاً مع نقل العاصمة من موسكو إلى سانت بطرسبورغ ومع تحجيم نفوذ الكنيسة، وهذا اتجاه ظل يتعارض بشكل خطي مع نزعة سلافية كانت معادية للتغريب ومتحالفة مع الكنيسة حتى سقوط الحكم القيصري عام1917. ويمكن هنا أن نجد سلافية-أرثوذكسية نيقولا الأول كيف امتزجت بعدائه للعثمانيين ومحاولته استقطاب سلافيي الدولة العثمانية ومع تحوله إلى «مخفر» أوروبي ضد الثورات مثل تدخله العسكري وسحقه للثورة المجرية عام 1849.
ولكن بوتين يمثّل حيرة روسية في تحديد الانتماء الحضاري؛ نجده عند إيفان الرهيب وعند بطرس الأكبر، وبوتين هو عودة لاتجاه عام 1547 الذي هزم عبر خط بطرس الأكبر-لينين- يلتسين. وربما كان فلاديمير بوتين يؤمن بما قاله أوزوالد اشبنغلر في كتابه: «تدهور الحضارة الغربية» في عام 1919 عن البلشفية، وكل الاتجاه التغريبي الروسي منذ بطرس الأكبر، عن أنه «تشكّل تاريخي كاذب» يشكّل طبقة سطحية رقيقة فوق البنية التاريخية العميقة، ومتنبئاً بانهيار النظام البلشفي وعودة الشعب الروسي إلى «شكل حياته الخاص ودينه وتاريخه الخاصين» (الجزء الثالث، دار مكتبة الحياة، بيروت 1964، ص22).