آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » حينما يُقصى المفكر العربي والإسلامي في أمته ويُحتفى به أوربيا ابن رشد (520 ـ 595هـ) أنموذجاً

حينما يُقصى المفكر العربي والإسلامي في أمته ويُحتفى به أوربيا ابن رشد (520 ـ 595هـ) أنموذجاً

موفق هاشم

لقد عانت الفلسفة الإسلامية المشرقية في القرن السادس الهجري عداءً وإقصاءً وتهميشا؛ نتيجة عوامل عديدة أغلبها دينية وسياسية, ووصلت بذلك الى الاضمحلال والجمود والانعزال عدا بعض المناطق والأقاليم, فبعد سيطرة السلاجقة على مقاليد الأمور فرضوا رؤاهم ومعتقداتهم على الآخرين, خصوصا وأن تلك الرؤى والعقائد والأفكار تتقاطع مع العقل الحر والفكر الثاقب, الذي يشكل خطرا على سلطانهم وعلى المنظومة التي تؤمّن لهم ديمومة السيطرة على الرعية وسلاسة قيادتها, وفي الوقت ذاته تضمن لهم تجنب بواعث الثورة ضدهم, من خلال سيادة فقه مبتنٍ على المعنى النصي الظاهري, وفرض عقائد دون تفكر بها وتعقلها, كما ساعد ذلك على تشكّل تحالف استراتيجي بين المؤسستين السياسية والدينية, لتقدما معا ضربة قاصمة للفكر الفلسفي ورجالاته, ولعل ما قام به أبو حامد الغزالي (ت 505هـ) في كتابه الشهير (تهافت الفلاسفة) يمثل ضربة موجعة التي قصمت ظهر الفلسفة في كثير من مناطق المشرق الإسلامي بعد ما يقرب من ثلاثة قرون من شيوعها وازدهارها.

ولما كان حال الفلسفة في المشرق هكذا فإنها في المغرب الإسلامي ـ ولاسيما الأندلس ـ كانت في حال مختلف نسبيا, إذ وصلت ذروة ازدهارها مع الفيلسوف الطبيب ابن رشد القرطبي, ورغم أن دولة الموحدين كانت تبغض الفلسفة والفلاسفة, إلا أن أحد رجالها وهو الأمير أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن بن علي (ت580هـ) كان محبا للعلم والفلسفة, وقد قدّم ابن الطفيل إلى هذا الأمير ابن رشد في عام 548هـ, ورحب الأمير بالمقدَم كثيرا وقرّبه منه, إلا أن هذا الود والاحترام لم يدم مع ابن رشد والفلاسفة الآخرين, إذ عمل الوشاة فعلتهم وجعلوا الحاكم الذي خلف أبي يعقوب ينقلب على ابن رشد وينفيه خارج مدينته, وبدأت حينئذ محنة ابن رشد وختم بها حياته.

ورغم تلك الحرب على الفلسفة والفلاسفة ولاسيما ابن رشد, إلا أن العبقرية الفكرية في الأندلس ضلت متقدة, تشع بنورها لكل من يرغب أن يقتبس منها, بل استلهمها الأوربيون وعكفوا على دارستها والإحاطة بها, وأضحوا أكثر من استفاد من فلسفة ابن رشد فائدة كبيرة, مشكلين مدرسة رائجة سمّيت بالمدرسة الرشدية, بل يمكن لنا أن نقول أن فلسفة المغاربة (خصوصا الأندلسيين) كان لها من السمو والرفعة عند الأوربيين ما شكّل عوضا عن نظرة المؤرخين المشارقة, الذين نظروا إلى المنجز المغاربي عموما والأندلسي خاصة في الفلسفة والعلوم والأدب نظرة لا تخلو من الازدراء والدونية وعدم الاحترام!

كان ابن رشد الى جانب اشتغاله بالفلسفة طبيبا وفقيها, وفي عام 565هـ تولى القضاء على اشبيلية وبعدها بقليل تولى القضاء في قرطبة, وحينما صار أبو يعقوب خليفة عام 578هـ اتخذ ابن رشد طبيبا خاصا له, غير أن تلك الحفاوة بالفلاسفة لم تدم على حالها مثلما كانت سابقا, إذ تنكرت السلطات التالية للفلاسفة وسخطت عليهم وعملت على حربهم والقضاء على تراثهم, فطال جزء من ذلك السخط وتلك الحرب ابن رشد رغم شيخوخته, وقام الحاكم بإبعاده ونفيه عن مدينته الى مدينة أخرى, وقد مات في مراكش عاصمة المملكة, وكان ذلك في العام 595هـ[1].

لقد كان للفكر الرشدي تأثيرا كبيرا في أوربا إبان العصور الوسطى, وخاصة تأثيره الفلسفي رغم ردود بعض رجال الدين المسيحيين واليهود السلبية تجاه كتابات ابن رشد, إلا أن ذلك لم يمنع من تعاطي مراكز البحث الأوربية وجامعاتها مع الفكر الرشدي, حتى أن مؤلفاته أصبحت تُدرس في جامعات رصينة ومشهورة كجامعة باريس مثلا, وكان الأوربيون يسمونه (Averroes), واستمر فكر ابن رشد مهيمنا على الحركة الفلسفية الأوربية إلى مجيء القرن السادس عشر من الميلاد, حيث بدأت الفلسفة الحديثة تدبّ هناك بفعل نتاج الفيلسوفين: الانكليزي فرنسيس بيكون (ت 1626م) والفرنسي رينيه ديكارت (ت 1650م).

 وقد اشتهر ابن رشد بكونه فيلسوفا أكثر من كونه فقيها وطبيبا, رغم أنه في هذين المجالين الأخيرين كان مقدما وعظيما, فقد تسنّم مسؤولية القضاء كما تسنم وظيفة طبيب الأمير الخاص في قصر الأمارة, وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أنه كان يتمتع بعلمية عالية في الفقه والطب على السواء, بل كان فيلسوفنا بارعا في الفيزياء والفلك والرياضيات والنفس واللغة والأدب والنقد وغيرها, إلا أن براعة ابن رشد برزت في مجال الفلسفة أكثر من غيرها من العلوم, حتى وصلت شهرته الى ذروتها على أنه الممثل الأبرز لأرسطو آنذاك, ولا سيما في شرح كتب المعلم الأول المنطقية والفلسفية, فاستحق بجدارة لقب (الشارح) لما قدمه من نتاجات وشروحات قيّمه, وجد البعض أنه قد تجاوز بها نتاجات الفارابي وابن سينا في هذا الجانب! خصوصا وأنه نقد كثيرا من آرائهما التي رأى أنها لم تقف على حقيقة آراء أرسطو ومراده منها!

إن نكبة الفلسفة في بلاد المغرب الإسلامي والأندلس خصوصا كانت هي الأخرى بفعل عدوها اللدود أبي حامد الغزالي, ويرى الفرنسي آرنست رينان أن مؤسس دولة الموحدين التي عاصرها ابن رشد كان تلميذا للغزالي[2], ولعله عنى بالتلمذة هذه الوفاء للفكر والمنهج؛ لأن الحديث عن لقاء ابن تومرت بصاحب (تهافت الفلاسفة) لا يمكن أن يصمد أمام التاريخ المؤكد والثابت, فابن تومرت شدّ رحاله لطلب العلم سنة 500هـ أو 501هـ متوجها الى مكة والمدينة ثم بغداد, بينما الغزالي قبل هذا التاريخ ترك بغداد ورجع الى موطنه (طوس) حتى وفاته فيها عام 505هـ, ولم يتعدَ ابن تومرت بغداد تجاه خراسان ومدنها التي رجع إليها الغزالي قبل مجيء الأمير الموحدي الى العراق بسنوات.

يمكن تقسيم الفلسفة الرشدية الى قسمين: الأول وهي النتاج الذي استلهمه الأوربيون, وهو القائم على شرح مؤلفات أرسطو الفلسفية, التي تميزت قراءاته لها بالدقة والعمق والتحقيق, فأتى بأفكار مغايرة لما أثبتها الفلاسفة المشرقيون على أنها أفكار أرسطو, كتلك التي جاء بها الفارابي وابن سينا منسوبة الى المعلم الأول. أما القسم الثاني فكان ذا جانبين: الأول تناول فيه مسألة التوفيق بين الدين (الشريعة) والفلسفة (الحكمة), أو فلنقل بين العقل والنقل, في حين كان الجانب الثاني مركزا على فلسفته الخاصة ودفاعه عن الفلسفة بشكل عام, وقد برز ذلك جليا في كتابه (تهافت التهافت), الذي ردّ به هجوم الغزالي على الفلاسفة في كتابه (تهافت الفلاسفة).

وتمثل شروحات فيلسوفنا أهم ما تناوله الغربيون وأخذوه عنه, وقد عمل على شرح كتب أرسطو بعد أن قام بقراءتها قراءة دقيقة وفاحصة ومتأنية, وقام كذلك بالمقارنة بين الشروحات التي سبقته, يقول ت. ج. دي بور: ((وكثيرا ما نقل ابن رشد من كتب الفارابي وابن سينا [أشياء لأرسطو] فخالفهما في فهمهما, وكان أصح منهما فهما))[3], وكان فيلسوفنا شديد الإعجاب بأرسطو, الى الحد الذي كان يعتبره ((أسمى صورة تمثل فيها العقل الإنساني, حتى إنه ليميل الى تسميته بالفيلسوف الإلهي))[4].

ويعد فيلسوف قرطبة أبرز مفكر تعاطى مع مسألة التوفيق بين الدين والفلسفة والعلاقة بينهما, بل يعد أبرز من قدم حلولا لتلك العلاقة التي نظر إليها البعض نظرة تناقض وتضارب وتنافر, وهي نظرة لا تخلو من الارتياب والتشويش, وما قدمه ابن رشد في مجال ردم الهوة الظاهرة في بعض الجوانب بين العقل والنقل كان في كتابيه: (فصل المقال) و(مناهج الأدلة).

ويرى ابن رشد أن البرهان لا يختلف عن ما جاء به الدين, فكلاهما حق والحق لا يناقض الحق, ويقول في هذا الجانب: ((وإذا كانت هذه الشريعة حقا, وداعية الى النظر المؤدى الى معرفة الحق, فإنا ـ معشر المسلمين ـ نعلم, على القطع, أنه لا يؤدى النظر البرهاني الى مخالفة ما ورد به الشرع, فإن الحق لا يضاد الحق, بل يوافقه ويشهد له))[5].

إن النص الديني أو المراد الشرعي بشكل عام قد يوافق البرهان العقلي وهذا لا نقاش فيه, أو يتقاطع معه ظاهرا, وهنا لابد من الالتجاء الى التأويل وفق آليات اللغة, التي فيها من المجاز ما يمكن الاعتماد عليه في فك هذا التصادم الظاهري, ويؤكد على ذلك بالقول: ((نقطع قطعا أن كل ما أدى إليه البرهان, وخالفه ظاهر الشرع, أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي, وهذه القضية لا يشك فيها مسلم, ولا يرتاب بها مؤمن, وما أعظم ازدياد اليقين بها عند من زاول هذا المعنى وجربه, وقصد هذا المقصد من الجمع بين المعقول والمنقول))[6].

ويذهب فيلسوف التأويل الديني الى أنه على الرغم من وضوح العلاقة بين الفلسفة والدين أو بين الحكمة والشريعة إلا أنه قد عرض لها من الأمور ما أفسدها, ويعلل ذلك الفساد ويرجعه الى بعض المنتسبين الى الفلسفة والحكمة من جهة, وبعض المنتسبين الى الدين والشريعة من جهة أخرى, بسبب تطرّف كل جهة من هؤلاء وتعصبها ضد الطرف الآخر, فحدث فصل بين الدين والفلسفة, رغم أن ((الحكمة هي صاحبة الشريعة, والأخت الرضيعة […] وهما المصطحبتان بالطبع, والمتحابتان بالجوهر والغريزة))[7].

إن ما قدمه فيلسوف التنوير القرطبي في مجال التوفيق بين الفلسفة والدين وإن قوبل بالعداء والحرب والتكفير في وقته إلا أنه في وقت لاحق انبعث واستمر حتى الحاضر ينظر إليه بإعجاب وثناء واحترام, وهذا يؤكد أن الأفكار كالبشر قد تمتهن في زمان ما ولكنها في زمان آخر تصير جديرة بالتبجيل والتكريم.

ومن المفارقات العجيبة أن ابن رشد عانى من تهمتين متناقضتين! واحدة تتهمه بالكفر والإلحاد المضمر والزندقة!! وأخرى تجعل منه سلفيا جامدا حاول توظيف الفلسفة وجعلها خادمة للنص الديني الظاهري!! والأعجب من ذلك وجدت خلال قراءاتي عن ابن رشد أن بعض الكتاب المستشرقين على ما هم عليه من الفكر والثقافة قد وقعوا في هذه الإشكالية! فمنهم من يراه مضمرا للإلحاد مهدما للدين بطريقة هادئة وذكية, وبعضهم الآخر نقده وجعل منه متكلما لا أكثر! وهذه آراء بعض الكتاب الغربيين في حق ابن رشد, وهي كتابات تناوبت بين مدحه وذمه, فهذا ماكدونالد يصرح بأن ابن رشد قد وضع بكتابه (تهافت التهافت) سياجا سميكا حول زندقته من أن تكتشف! في حين رأى ماكدونالد أن فيلسوفنا في رسائله التي أراد بها التوفيق بين الدين والفلسفة لم يدع فيها نافذة مفتوحة ـ على حد تعبيره ـ أمام فلسفته الحقيقية[8]. وقد اتهمه الكاتب ميرين بأنه جعل الفلسفة خادمة للدين, وهو كغيره من فلاسفة العرب والمسلمين لم يخرجوا عن دائرة الدين والعقيدة, لكننا نجد الكاتب ميجيل أزين يرى في ابن رشد عقلا متحررا, وكذلك يراه ليون جوتييه عندما أوجز في مسألة تأويل ابن رشد للنصوص الدينية وجعلها في حالة من التوافق مع الفلسفة[9].

[1] ـ ينظر: تاريخ الفلسفة في الإسلام, ت. ج. دي بور, ترجمة: د. محمد عبد الهادي أبو ريده, دار النهضة للطباعة والنشر, بيروت ـ لبنان, ط3, 1954م: 315 ـ 316.

[2] ـ ينظر: ابن رشد والرشدية, آرنست رينان, ترجمة: عادل زعيتر, طبع بدار إحياء الكتب العربية, عيسى البابي الحلبي وشركاؤه, القاهرة, 1957م: 49.

[3] ـ تاريخ الفلسفة في الإسلام, ت. ج. دي بور: 316.

[4] ـ المصدر نفسه: 317.

[5] ـ فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال, ابن رشد, تحقيق: د. محمد عمارة, دار المعارف, مصر, 1972م: 31 ـ 32.

[6] ـ المصدر نفسه: 33.

[7] ـ المصدر نفسه: 67.

[8] ـ ينظر: الفلسفة الإسلامية في المغرب, د. محمد غلاب, 1948م: 118.

[9] ـ ينظر: المصدر نفسه: 120 ـ 126.

(سيرياهوم نيوز-رأي اليوم١-٣-٢٠٢١)
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حفر اسمه بأحرف من نور نجماً متلألئاً في سماء الإبداع والتميز … عبد اللطيف عبد الحميد.. عاشق السينما السورية وعلامتها الفارقة … حقق فيلم «رسائل شفهية» نجاحاً جماهيرياً كبيراً سيبقى في ذاكرة السوريين طويلاً

وائل العدس   كان عاشقاً للسينما حد الثمالة، تعامل معها كامرأة وحيدة في حياته، أعطاها كل جهده، لم يبخل عليها بشيء، فنجح في حفر اسمه ...