بقلم المهندس باسل قس نصر الله
بعد صورة اجتماع الرئيس الأميركي “دونالد ترامب” مع زعماء أوروبا ورئيس أوكرانيا في البيت الأبيض لإملاء رؤيته، واتفاقه مع الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” حول فرض الحل لإنهاء الحرب في أوكرانيا، تبادر إلى ذهني مباشرة تسلسل صعود دور أميركا منذ عهد الرئيس “وودرو ويلسون” حتى الآن بشكل مبسط جداً.
عندما وقف السيد المسيح أمام تلاميذه مشيراً إلى الدينار قائلاً: “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله”، ظلّ السؤال عبر القرون: من هو قيصر هذا العصر؟
قدّمت الولايات المتحدة نفسها على أنها صاحبة رسالة سماوية لإدارة العالم، وسار رؤساؤها كما لو كانوا مفوضين من السماء. ففي مؤتمر فرساي عام 1919، اشتكى الفرنسيون من الرئيس الأميركي “وودرو ويلسون”، وكتبوا أنه “يفاوض وكأنه المسيح”. حتى أن رئيس وزراء فرنسا “كليمنصو” علّق ساخراً على نقاطه الأربع عشرة قائلاً: “لماذا جاء الرب بعشر فقط؟”
لكن وراء هذه الصورة المثالية، مارست واشنطن سياسات حادة: فبِاسم الديمقراطية أسقط “ويلسون” رئيس المكسيك “فيكتوريانو هويرتا”، وأدخل بلاده الحرب العالمية الأولى بحجة أن “الحق يعلو على السلام”. ومنذ تلك اللحظة، ارتسمت ملامح الدور الأميركي: “التدخل باسم القيم، مع السعي وراء النفوذ”.
جاء “فرانكلين روزفلت” ليكرّس هذا الدور؛ فكتب إلى “هتلر” و “موسوليني” عام 1939 يطلب التزاماً بعدم الاعتداء على 29 دولة، وكأنه معلّم مدرسة يريد ضبط طلابه. ثم جاء لقاؤه الشهير عام 1945 على متن البارجة “كوينسي” مع الملك “عبد العزيز آل سعود”، ليؤسس لتحالف “النفط مقابل الحماية”، وهو تحالف ما زال يرسم العلاقات الدولية حتى اليوم.
ولم يقتصر الأمر على السياسة، بل استعان “روزفلت” بصهاينة في صياغة بياناته، حتى قال مازحاً: “كم سيدفع غوبلز مقابل صورة لرئيس أميركا يتلقى تعليماته من حكماء صهيون؟”، في إشارة إلى وزير إعلام ألمانيا النازية.
بعد الحرب العالمية الثانية، تسلّمت واشنطن دفة القيادة العالمية. أنشأت “خطة مارشال” لإعادة إعمار أوروبا، لكنها ربطتها بشروط اقتصادية وسياسية ضمنت تبعية اقتصادات القارة العجوز لها. ثم أسست “حلف الناتو” عام 1949، لتتحول من دولة عابرة للمحيط إلى قوة عسكرية متغلغلة في قلب أوروبا.
وفي شرق آسيا، قادت حرب كوريا “1950 – 1953” تحت شعار “الدفاع عن الحرية”، لكنها في العمق كانت معركة لإيقاف تمدد النفوذ السوفييتي. وبعدها خاضت حرب فيتنام التي استمرت عقدين، لتتحول صور قصف هانوي وقرى الفيتكونغ إلى مثال حيّ على الوجه الآخر لـ”الرسالة الأميركية”.
مع نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي، بدا أن واشنطن باتت القطب الأوحد. فحرب الخليج 1991 دشّنت “النظام العالمي الجديد”، كما وصفه جورج بوش الأب، حيث لم يعد هناك رادع أمام تدخلاتها. وتوالت بعد ذلك محطات أخرى: غزو أفغانستان 2001 بذريعة محاربة الإرهاب، ثم غزو العراق 2003 بذريعة أسلحة الدمار الشامل التي لم تُعثر أبداً.
هذه التدخلات لم تكن محصورة بالبعد العسكري فقط. فواشنطن تمتلك “أسلحة ناعمة” لا تقل خطورة: صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، اللذان حوّلا الكثير من دول أميركا اللاتينية وأفريقيا إلى ساحات تجارب اقتصادية قاسية. ثم جاءت سياسة “الثورات الملوّنة” في أوروبا الشرقية، حيث دُعمت حركات سياسية ووسائل إعلام لتوجيه مسارات الدول بما يخدم المصالح الأميركية.
ومع صعود الصين وعودتها لاعباً اقتصادياً عالمياً، أخذت واشنطن تتحدث عن “احتواء بكين” بنفس اللغة التي استُخدمت سابقاً ضد الاتحاد السوفييتي. فالحرب التجارية، والتوتر حول تايوان، وبناء تحالفات مثل “أوكوس AUKUS” ليست سوى امتداد لمحاولة الحفاظ على الزعامة الأميركية للعالم.
لكن التجارب تثبت أن الشعوب لا تُقاد دائماً بالعصا ولا بالجزرة. فالهزيمة في فيتنام، ثم الانسحاب المذل من أفغانستان عام 2021، أظهرا أن القوة العسكرية مهما بلغت، لا تضمن فرض الهيمنة إلى الأبد. وكما قالت إلينور روزفلت يوماً: “لا أحد يستطيع أن يجعلك تشعر بالدونية من غير إذنك”.
يبقى السؤال: هل تستطيع أميركا أن توازن بين صورة “القيصر المفوض إلهياً” وواقع القوة الذي يفرض عليها حدوداً؟ أم أن التاريخ سيعيد التذكير بما تعلمناه من تراثنا الروحي: “وتلك الأيام نداولها بين الناس”.
اللهم اشهد أني بلّغت
(موقع اخبار سوريا الوطن-2)