د. سلمان ريا
مع التحولات العميقة التي تشهدها سوريا عقب سقوط النظام الاستبدادي، تعود الأسئلة الوجودية إلى الواجهة: كيف نطوي صفحة الماضي دون أن نمحو ذاكرته؟ وهل يمكن أن نستند إلى تراثنا الفكري لبناء تسامح سياسي لا يقوم على السذاجة ولا على الثأر، بل على عقد اجتماعي جديد يُعلي من قيمة الإنسان، ويجعل من التعددية ركيزة، ومن السلطة أداة لخدمة المواطنين لا وسيلة للهيمنة عليهم؟
في سياق ما بعد الصراع، لا يمكن للتسامح أن يكون ترفًا أو ضعفًا؛ بل هو أسمى مظاهر القوة السياسية والأخلاقية. فمشاريع الانتقام والاستئصال لن تنتج إلا مزيدًا من التشظي. وحده مشروع وطني جامع، يرتكز على الاعتراف المتبادل، وعلى عدالة تحفظ الكرامة لا تسعى للانتقام، يمكن أن يُفضي إلى دولة تحتضن تنوعها وتحترم اختلافاتها، وتُعيد للسلطة معناها كأداة تنظيم لا كآلة قمع.
لهذا نحن بحاجة إلى نموذج سوري أصيل للتسامح السياسي، لا يُختزل في تسويات شكلية أو شعارات تصالحية، بل يستند إلى ثلاث ركائز أساسية:
– ذاكرة لا تُمحى، لأن إنكار الماضي لا يلغيه بل يعيد إنتاجه بصيغ أشد قسوة.
– عدالة غير انتقامية، تُنصف الضحايا دون أن تكرر منطق الجلاد.
– اعتراف متبادل، يقر بحق الآخر في الوجود والتعبير والمشاركة دون تخوين أو إقصاء.
غير أن هذا المشروع لا يُبنى فقط عبر التشريعات أو التفاهمات السياسية، بل يحتاج إلى تحول ثقافي عميق يعيد تشكيل الوعي الجمعي، ويهدم البنى الذهنية التي كرّست الاستبداد والاستقطاب.
لقد أثبتت التجربة أن الدولة المركزية الصلبة، التي رفعت شعار “الوحدة الوطنية” بينما احتكرت العنف والقرار، لم تنتج وحدة حقيقية، بل عمّقت الانقسامات ووسّعت الهوّة بين الدولة والمجتمع. لذلك لا يمكن التعويل على استعادة ما قبل 2011، بل يجب التوجه نحو نموذج لامركزي تعددي، يتّسع للجميع ويقوم على التشاركية لا على الغلبة.
فأزمة سوريا لم تكن فقط أزمة نظام، بل أزمة ثقافة سياسية مترسخة. بين عقلية استئصالية غذّتها آلة القمع، ومزاج انتقامي غذّته المظلومية، مما أدى إلى ضياع قيم الاعتراف بالتعدد، واحترام الاختلاف، والتأسيس لعيش مشترك قابل للاستمرار.
وفي لحظة إعادة بناء المجتمع، يبرز سؤال حاسم: هل يحمل تراثنا العربي الإسلامي من العناصر ما يُسعفنا في بناء فلسفة تسامح سياسي؟ الجواب ليس في التمجيد، بل في القراءة النقدية الواعية. إذ نجد في كتابات مفكرينا إشارات أولية تستحق إعادة التأمل. و رغم غياب المصطلحات الحديثة كالديمقراطية والعدالة الانتقالية، إلا أن كثيرًا منهم مارسوا وعيًا نقديًا بالسلطة وبالتنوع المجتمعي.
فالجاحظ دعا إلى الحوار والتعدد واعتبرهما سمة ازدهار لا مصدر تهديد.
و ابن خلدون رأى في العصبية إذا تحولت إلى أداةِ إقصاءٍ خطرًا يقوّض الدولة بدل أن يبنيها.
أما أبو حيان التوحيدي فقد قدّم نقدًا مريرًا للسلطة والمجتمع، بلغة موجعة لكنها صادقة، تُشبه صرخة المواطن العربي في زمن الأزمات.
من هنا، فإن أي مشروع لبناء سوريا المستقبل لا بد أن يقوم على ذاكرة وطنية نزيهة، تعترف بالمآسي من أجل تجاوزها لا من أجل إعادة إنتاجها. وعلى عدالة منفتحة على المصالحة، تحفظ كرامة الجميع وتعيد التوازن الأخلاقي للدولة. كما لا بد من الاعتراف المتبادل بين جميع مكونات المجتمع السوري، باعتبارهم شركاء لا خصومًا.
إن الثقافة السياسية التي نحتاجها اليوم ليست تلك التي تستثمر في الكراهية، بل تلك التي تحول الجراح إلى دروس، والمآسي إلى طاقة أخلاقية خلاقة. ثقافة تجعل من الحوار قيمة، ومن التعدد مصدرًا للثراء الوطني لا مدعاة للخوف.
سوريا، بتراثها العميق وموقعها الفريد، قادرة على أن تقدّم نموذجًا عربيًا ملهمًا في التسامح السياسي. نموذجًا يقوم على الثقة بالمواطن، وعلى فصل السلطات وتكاملها، وعلى احترام الحريات ضمن دولة واحدة، عادلة ومنفتحة.
وما ذلك بمستحيل، إذا ما أحسنّا قراءة اللحظة، وفتحنا نوافذ العقل والضمير معًا.
(موقع اخبار سوريا الوطن-2)