سناء هاشم:
عاهد زنوبيا أن يبقى الحارس الأمين لمدينتها…عُذّب وقُطع رأسه، وأبى أن يكشف عن مكان كنوزها المخبأة إبان اجتياح الإر*ه*اب . خالد الأسعد عالم الآثار السوري الذي بقي مخلصاً لمملكته حتى الرمق الأخير.. كانت آخر كلماته لقاتليه قبل إعدامه: “نخيل تدمر لا ينحني”.. في الأشهر التي سبقت استيطان د*ا*ع*ش في مدينة تدمر، تلقى الأسعد عدة عروض من دول أوروبية للحصول على الإقامة والجنسية، إلّا أنه رفض كل العروض، وآثر أن يبقى مخلصاً لتراث مدينته وملكتها العظيمة زنوبيا.. بقي في تدمر علّه يحمي آثارها من الدمار والنهب والاستباحة والتربّح في مزادات جامعي الآثار الأوروبية.. سبعة أعوام مرت على فاجعة استشهاد حارس التراث، أعمال وحشية مارسها الإر*ه*اب بحقه وحق الآثار السورية، ولا تزال تلك الصورة ماثلة أمام أعيننا تظهر الأسعد مقطوع الرأس على أحد أعمدة الإنارة في مدينة تدمر الأثرية، وأسفل الجثة لوحة ورقية بيضاء عليها بقع دم كتب عليها التهمة التي تسببت بقتل هذا العالم الأثري.
لم يأبه لإر*ها*بهم ولم يُخِفه فكرهم وسوادهم، ورغم معرفته بحقدهم إلّا أنه رفض الاستسلام والخضوع لمطالبهم.
ولد شهيد التراث خالد الأسعد بتاريخ 11 ديسمبر 1933م بالقرب من معبد بل، العابق برائحة التاريخ وذكريات ملكة الشرق، عاش مع أسرة متآلفة محبة للعمل المشترك والروح الجماعية.. درس المرحلة الابتدائية في تدمر ثم انتقل لمتابعة دراسته بدمشق بتفوق، ولطالما روى ذكرياته عن طريق السفر الترابي ما بين تدمر ودمشق التي تزيد على عشر ساعات بواسطة الشاحنات.. درس حينها في جامعة دمشق وحصل على إجازة في التاريخ، ثم على دبلوم التربية، لكن رائحة وعبق التاريخ جذباه للعودة للعمل بالآثار منذ عام 1962م كرئيس الدراسات والتنقيب في مديرية الآثار بدمشق، ثم في قصر العظم حتى نهاية عام 1963م.. ويعود الفضل للشهيد عالم الآثار بتطوير المؤسسة الأثرية بتدمر على كافة الصعد، كما عمل على جذب اهتمام البعثات السياحية من داخل سورية وخارجها، وتنظيم حملات تعريفية بهذه المدينة وتبيان قيمتها الحضارية والثقافية والتاريخية. وعلى يده بلغ الدعم المادي والمالي أوجه لتحسين تدمر وترميم الآثار دورياً، وتشكيل لجان للحفاظ عليها. والذي كان اهتمامه بحماية المواقع الأثرية والحفاظ عليها، نابعاً من قناعته باعتبارها كنزاً حقيقياً جميلاً. نشر تاريخ تدمر ومكتشفاتها، وشارك بعدة معارض دولية وندوات أثرية بكل اللغات، فأصبحت تدمر محطة أثرية هامّة معروفة عربياً وعالمياً ومقصداً سياحيّاً هامّاً.
خالد الأسعد هو أكبر من مجرد عالم آثار وباحث تاريخيّ. ففي عام 1988، عثر على منحوتة حسناء تدمر، التي صُنفت وفق المعايير الأثرية العالمية بأنها من أروع المنحوتات و أكثرها جمالاً على الإطلاق. وكذلك عثر على مدفن أسرة بولحا بن نبو شوري، ومدفن أسرة زبد عته، ومدفن بورفا وبولحا، ومدفن طيبول. كما أشرف على ترميم بيت الضيافة عام 1991، وشارك بإعادة بناء أكثر من 400 عمود كامل من أروقة الشارع الطويل ومعبد بعل شمين ومعبد اللات وأعمدة ومنصة وأدراج المسرح، وكذلك الأعمدة التذكارية الخمسة المعروفة، إضافة لإعادة بناء المصلبة وأعمدتها الستة عشر الغرانيتية لمدخل حمامات زنوبيا، ومحراب بعل شمين، وجدران وواجهات السور الشمالي للمدينة، وترميم أجزاء كبيرة من أسوار وقاعات وأبراج، وممرات القلعة العربية (قلعة فخر الدين) وتركيب جسر معدني فوق خندقها، ثم ترميم الأسوار الخارجية والأبراج في قصر الحير الشرقي، وإعادة بناء 20 عموداً مع تيجانها في جامع هشام، إضافة لبناء بيت الضيافة في الموقع عام 1966، وقام بربط الموقع بطريق إسفلتي معبد عام 2000.
ومن أعظم ما قام به الأسعد هو ترجمته للنصوص والمخطوطات المكتوبة باللغة الآرامية التدمرية القديمة. وعمل على نشرها بكل اللغات وتقديمها بكل المحافل والمؤتمرات والندوات التي شارك بها للتعريف بهذه المدينة.. وكان لخالد الأسعد عدّة إسهامات حضارية وثقافية، وعمل الكثير من الأبحاث والدراسات نُشر معظمها بخمس لغات حية وربما أكثر .
هكذا قتل خالد الأسعد لأنه أصر على ألّا يترك معشوقته تدمر بيد تتار جدد يدمرون وينهبون ويسرقون ويبتاعون تاريخها في مزادات عالمية، وهو ابن تلك الحضارة الإنسانية، لذلك أحدث مقتله هزة قوية في العالم كله، ونعته مؤسسة اليونسكو.
سيرياهوم نيوز 6 – تشرين