شفيق طبارة
ضمن «مهرجان السينما الأوروبية» الذي تحتضنه «متروبوليس» حالياً، ستعرض النسخة المرمّمة من فيلم «خامون خامون» (الأحد 11 أيار/ مايو ـ س:17:00) يليها حوار مع الممثل والفنان الإسباني جوردي مولا يديره الصحافي جيم كويلتي
يُعدّ بيغاس لونا (1946-2013)، أحد أهم مخرجي السينما الإسبانية منذ بداية الديموقراطية. فيلمه «بلباو» (1978 ــــ Bilbao)، من أبرز الأعمال الرائدة في مدة الانتقال، بفضل موضوعه (الهوس المدمّر لمتلصّص بعاملة جنس)، وجمالياته السردية. يُمثل «بلباو» أيضاً مهداً للجنسانية الصريحة في الأفلام الإسبانية والجدل الذي رافقه. حقق الفيلم شهرة كبيرة للمخرج، رسّختها لاحقاً أفلام «كانيش» (1979 ـــ Caniche) و«لولا» (1986 ــــLola) و«أعمار لولو» (1990 ــــLas edades de lulu).
بورتريهات إيبيرية
في عام 1992، عرض بيغاس فيلمه «خامون خامون» في «مهرجان البندقية»، فحصد جائزة «الأسد الفضي» لأفضل مخرج. الفيلم هو جزء من ثلاثية بعنوان «بورتريهات إيبيرية» تضمنت أيضاً «خصى ذهبية» (1993 ــــHuevos de oro) و«الثدي والقمر» (1994ـــLa Teta y la Luna).
حققت الثلاثية نجاحاً باهراً، وأطلقت مسيرة خافيير بارديم وبينيلوبي كروز وخوردي مولّا. كان الفيلم الأول يدور حول رسم صورة لإسبانيا العميقة والشاب الإيبيري. أما الثاني، فهو صورة للرجل الإيبيري «الجديد»، بينما يصور الثالث كاتالونيا، البلد الذي نشأ فيه بيغاس. «بورتريهات إيبيرية»، أعادت صياغة الصورة النمطية المرتبطة بـ«إسبانيا العميقة»، والحالة الاجتماعية المرتبطة بها، والجنس في السياق الإيبيري والبحر المتوسط. كما تُعد الأعمال الكاملة لبيغاس مرجعاً مهماً للدراسة النقدية لتطور الأدوار الجندرية في إسبانيا ما بعد فرانكو والسينما الإيروتيكية الأوروبية.
الحبّ والشغف والرغبة والموت
فاجأ بيغاس العالم بفيلمه «خامون خامون» (لحم الخنزير)، فهو في بعض النواحي لا يشبه أيّاً من أفلامه السابقة، مع أنّه، منطقياً، يحمل بعض التشابه.
الحبّ والشغف والرغبة والموت، تلعب دوراً محورياً في أفلام بيغاس، الذي يعشق الحياة بكلّ جمالها. لكن في «خامون خامون»، يُبدع في لحظات عاطفية صادقة، ناسجاً علاقات الشخصيات ببراعة، ويعرض في الوقت نفسه مواضيع إسبانية تقليدية مبتذلة، يسخر منها حيناً، ويعرضها كما هي أحياناً.
يشرح بنفسه رمزية الثور الذي يرمز إلى بلده، وفقدان هويته عند دخوله أوروبا، ما سيفقد إسبانيا أعظم قيمها، تماماً كما يفقد الثور أجزاءه الأكثر حميمية.
يجمع الفيلم بين جيلين مختلفين في طريقة تفكيرهما ورؤيتهما للحياة، إضافة إلى صراع الأغنياء والفقراء باختلافاتهم الاجتماعية، مع الحبّ والشغف والطعام، إلى جانب أمور مادية أخرى.
لا يمانع المخرج الكاتالوني المبالغة في تصوير شخصياته، وإن لم يُنصفها. الفيلم نفسه غير متوازن، مع صعوده وهبوطه، ولكن بمشاهد رائعة حيناً وأخرى استفزازية أحياناً.
يتميّز الفيلم، المصوّر بإتقان في صحراء مونيغروس، بطابع تراجيكوميدي مع مزيج من الميلودراما والسوريالية والسخرية الاجتماعية والجنسانية الجريئة. كما يغوص في بيئات هامشية مع مواضيع غير أخلاقية. وكما هو معتاد في أفلام بيغاس، يُبرز المخرج قصة حبه المبالغ فيها مراراً وتكراراً، عبر لجوء مستمر وفظّ جداً إلى الجنس الجامح.
أول ظهور لبيبنيلوبي كروز
الفيلم، الذي أراد لونا أن يكون بمنزلة تنقيب عن الطاقات الجنسية في بلاده، ينطلق في تقلبات ميلودرامية جامحة، إذ تقع الشخصيات في غرام نزوة، في نقد أخلاقي صاخب لتقلبات الرغبة المهيمنة. بطلتنا سيلفيا (بينيلوبي كروز في أول ظهور لها على الشاشة الكبيرة) حامل من صديقها خوسيه لويس (خوردي مولّا)، وريث إمبراطورية مصنع الملابس الداخلية الرجالية. والدته كونشيتا (ستيفانيا ساندريلّي)، لا تريد أن يعبث ابنها العزيز مع ابنة صاحبة الحانة كارمن (آنّا غاليينا) التي كانت تعمل في الدعارة سابقاً، وهي «حثالة من الطبقة الدنيا» كما تصفها!
يقدّم الفيلم الصورة النمطية للماضي الإسباني بشيء من الحنين
لم يخبرها ابنها بالحمل، لكن عندما أعلن نيّته الزواج بسيلفيا، وضعت والدته خطتها موضع التنفيذ. دفعت لراؤول (خافيير بارديم) عارض أزياء الملابس الداخلية، ومصارع الثيران الطموح والبذيء والمتبجّح، إلى إغواء سيلفيا، ليجد نفسه واقعاً في غرامها. وهذه مشكلة لكونشيتا، التي أصبحت أيضاً مغرمة بالشاب، وتمارس معه الجنس في فندق.
في هذه الأثناء، تنفصل سيلفيا وخوسيه لويس، فقد رأت طاقة راؤول الجسدية النقية، ووقعت في غرامها. تُخطط سيلفيا وراؤول للهروب، لكن كارمن ترفض التخلي عن فتاها.
يجد خوسيه لويس العزاء في كارمن، بينما يبدأ مانويل (خوان دييغو) والد خوسيه لويس في التقرب من سيلفيا. يتخلل هذه القصة ثيران وخنازير وأجساد عارية («خنزير» هي الكلمة التي تُطلقها سيلفيا على راؤول). في الفيلم يختلط الناس والحيوانات والجنس والطعام بثقافة الذكورة المهووسة بالتملّك، بينما تنتهي كلّ هذه الفوضى بالطريقة الوحيدة التي يُمكن أن تنتهي بها هذه الأمور: رجلان يتبارزان بعظام أرجل خنزير.
مبارزة بالهراوات
إذا كانت لوحة «مبارزة بالهراوات» (1820) لابن سرقسطة غويا، قد وضعت إسبانيا في مواجهة الليبرالية خلال مدة الليبرالية (1982-1823)، فإن ذروة فيلم بيغاس لونا، المقتبسة من اللوحة، كانت في سياق مختلف كلياً.
في عام 1992، عام التنوير وتخلّص إسبانيا من الدكتاتورية، وتقديم نفسها مع دورة الألعاب الأولمبية في برشلونة، ومعرض إشبيلية العالمي، ووصول القطارات الفائقة السرعة، كان التوتر بين إسبانيا القديمة وإسبانيا الناشئة في السياق العالمي الجديد محور قصة المخرج الكتالوني، وقصة حب الثلاثية هذه (بل أكثر من ثلاثية)، إذ يتصارع خافيير بارديم، مصارع الثيران، مع خوردي مولّا، الرجل الأنيق الذي يستخدم أغطية «الكوكا كولا» كخاتم خطوبة.
رغم أنّ بيغاس لونا يشكك في رجولة مولّا لمصلحة القوة الجسدية والجنسية لشخصية بارديم، إلا أنّه كان يحاول إثبات صحة النموذج الأصلي الذي يمثله الرجل الإيبيري. لقد أظهر الفيلم حقيقة ما يحدث في إسبانيا: كان الرجل الإيبيري هو إسبانيا التي يجب القضاء عليها. إسبانيا التي تحب الثوم والزيت الجيد والطماطم ولحم الخنزير. وكانت شخصية مولّا تعلم أنّه من أجل القضاء على بارديم (الرجل الإيبيري)، يجب القضاء أولاً على الخصى، سواء كانت خصيتي ثور، أو خصيتي بارديم (إشارة إلى المشهد الذي يمزّق فيه مولا خصيتي ثور أوزبورن).
«خامون خامون»، هو من الأفلام التي تقدّم الصورة النمطية للماضي الإسباني بنوع من الحنين، لكنها أيضاً تصوّرها على أنها بالية وغير ملائمة لإسبانيا الديموقراطية، المُعولمة ثقافياً واقتصادياً والأكثر تقدماً في التسعينيات، لكن أيضاً لتذكير الجمهور بأصول تلك البلاد، ولإبطاء الهوس بتقديم صورة جديدة كلياً عن إسبانيا. بالنسبة إلى لونا، إسبانيا هي أرض لحم الخنزير، وعجة البطاطا، والثوم… وأيضاً أرض عجة الثوم والبطاطا المجففة في بيوت الدعارة على جوانب الطريق، وماكينات القمار، والثيران التي تتصارع تحت ضوء القمر. والأخيرة هي الرمز الأبدي الأبرز للمواجهة بين الإسبان: أقدام على الأرض وهراوات ولحم خنزير في الهواء (لوحة غويا ومشهد لونا)، لأن لحم الخنزير أيضاً حياة وموت، وفي هذه أيضاً لم يكن عبثاً في فيلم بيدرو ألمودوفار «ماذا فعلت لأستحق هذا؟» (1984)، أن تقتل بطلة الفيلم زوجها بضربة بساق خنزير.
غرابة وسوريالية
ستجذبك في «خامون خامون» المأساة المفجعة، والجنس الفاحش، والسوريالية وتسلسلات الأحلام الغريبة، والشخصيات التي تقفز داخل وخارج الحبّ مثل كرات بينغ بونغ بشرية. وستقدّر الغرابة الفاضحة الممزوجة بالشفقة والإنسانية.
«خامون خامون»، هو وهم بأن الحبّ يمكن أن يوفّر الفداء، فالنهاية المأساوية متوقعة. مع ذلك نشجع العاشقين، على أمل أن ينجحا في التخلص من القيود. لكن الضعف البشري، للأسف، أقوى من المشاعر، وسيلفيا النقية تُنعش هذا العالم المُنظّم ظاهرياً والفاسد في أعماقه، لكنها هي الأخرى لا تستطيع الفرار من الوحل.
في الفيلم، الكلّ يبحث عن السعادة، لكن لا أحد يجدها، وهنا تكمن الدراما الحقيقية للقصة. الكوميديا التراجيدية في الفيلم متوازنة بدقة، لذلك قد يشعر المشاهد المنغمس في قصة سيلفيا المأساوية بالخداع في النهاية عندما يكتشف أنّ كلّ شيء نكتة كبيرة.
مع ذلك، تقدم خاتمة الفيلم مزحةً أخيرة رائعة. مع وقوع المأساة، تتوقف التترات وتصدح الموسيقى، ويبقى «خامون خامون» بروحه المرحة وسخريته ومأساته ونسائه ورجاله وطعامه وخنازيره وثيرانه عملاً أصيلاً بحق.
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار