يسعى الروائي العربي المعاصر إلى تجديد آلياته التعبيرية، يتجه إلى الاستلهام من التاريخ، والاغتراف من معين الأساطير والحكايات الخرافية.
الروائية لينا هويان الحسن من الروائيين الذين نهجوا نهجا حداثيا في كتاباتهم الإبداعية، وذلك بالعودة إلى التاريخ و بعث الروح فيه من جديد كفاعلية سردية تسحوذ على ذهنية القاريء بشكل أو بآخر.
“بنات نعش” رواية للينا هويان الحسن صدرت في العام 2005 و هي اليوم في طبعتها الخامسة. تحسست من خلالها شقوف التاريخ بالوقوف على محطات تاريخية عاشها الشرق الإسلامي في حقب متفرقة من العهد العثماني وصولا إلى القرن العشرين.استلهمت من الحدث التاريخي مادتها الروائية كألية تجريبية، لكنها في نفس الوقت تتحرر من السرد الواقعي بالانتقال إلىفضاء اللاواقع وفق مخيلة سردية جعلت أحداث الرواية تتداخل بين الواقعي و المتخيل. الرواية تتناول سيرة الأبهر سعدون آخر صيادي الأسد الفراتي المنقرض، يقال إن الأبهرعاش في عشرينيات القرن العشرين.
أرادت الروائية إماطة اللثام عن التاريخ المهمش، بالوقوف على حياة البدو في منطقة الفرات والصحراء العربية خلال الاحتلال العثماني وصولا إلى الانتداب الانجليزي بالعراق .
بنات نعش عنوان الرواية والعتبة الرئيسة للنص، والقاريء بمجرد أن يقع نظره عليه يدخله في حالة قلق ومثل هذه العناوين تحقق وظيفة تشويشية بالنسبة للمتلقي كما يقول امبرتو إيكو و تحدث نوعا من الصدمة لديه.لتؤكد الروائية أن للأسطورة النصيب الأكبر في منجزها الروائي، فقد استوحت عنوانها من تسمية بنات نعش الكبرى وهي مجموعة الدب الأكبر ومجموعة الدب الأصغر التي تعود إلى الأساطير اللبنانية. و بنات نعش في المعتقدات العربية تعود إلى رجل عربي اسمه نعش قتل على يد رجل اسمه سهيل، وكان له سبع بنات أقسمن على السير بنعش أبيهن حتى يأخذن ثأره.
بطل الرواية الأبهر سعدون كان هاويا للصيد لا يستنثي شيئا في ذلك .يتاجر بجلود غنائمه من الصيد. فضل حياة التنقل في براري الصحراء و مطاردة الوحوش و الظباء، ورفض مطالبة عمه بالمشيخة التي تزعمها ظلما و عدوانا.
أحب الأبهر فتاة فائقة الجمال و لم تكن من نصيبه. تدعى ماران المدلج الإبنة الرابعة للشيخ المدلج. البنات الأربع كن صفقة مربحة بالنسبة لأبيهن، يختار لهن الأزواج الذين يضمنون له المكانة الرفيعة بين العشائر من مشايخ و أمراء. وظل الأبهر سعدون يعيش على ذكرى محبوبته ماران انقطع عن ممارسة الحب بعدها لكنه لم ينقطع عن ممارسة نزواته العابرة خاصة في بيروت حين كان يذهب إليها لتوقيع صفقاته التجارية. بعد زمن تحول حلمه إلى ركام بموت ماران، و لأن البدو يرفضون الإقامة خلف زنزانة الماضي يفضلون الرحيل والتنقل، لا يتركون شيئا يربطهم بالمكان و يؤمنون بأن الموت حق. فثمة مراسم للنسيان يمارسونها، فحين يدفنون موتاهم كانوا لا يؤطرون القبور بعلامات أو رموز. الأبهر خلافا لطقوس العشيرة و عاداتها كان وفيا لمحبوبته مخلصا لذكراها. فخوفه على قبرها من أن يتلاشى و يُنسى دفعه إلى إخراج جثتها من القبر بعد ما تم دفنها و ذهب أهلها إلى سبيلهم و جهز لها مكانا يحرسه الجن. الروائية تتحرر من سطوة الواقعي و تحلق في فضاء المتخيل لتتعامل مع الخرافة و التي تزعم أنها تعود إلى البدو الذين فُطروا على تحويل كل شيء إلى قصة و مع مرو الوقت تحويلها إلى خرافة.. العثمانيون في المنطقة العربية كانوا يشجعون البدو على عملية الصيد، منذ ذلك الحين أصبح هؤلاء البدو يتنافسون على ذلك وكان أبرزهم الأبهر سعدون الذي قضى على آخر أسد فراتي .فقد خصصوا جائزة قيّمة لصيادي الأسود على ضفاف الفرات بدعوى الاستفادة من جلودهم، و الواقع كما يبدو أن الهدف ليس ذلك أبدا بل القضاء على كل رموز القوة عند العرب. ‘يدور المغزل’، لفظة ظلت تكررها الروائية في كل فصول الرواية، و المغزل يوحي بعجلة التاريخ التي كانت تديرها لينا الحسن لأرشفة حياة البدوفي منطقة الفرات. صورت حياتهم و عاداتهم و طبائعهم و طرائق معيشتهم. كانت الحكايات داخل الرواية تتناسل على شاكلة حكايات ألف ليلة و ليلة و مع ذلك سيطرت الروائية على أحداث روايتها دون أن تضيع منها خيوط السرد التي كانت تتشابك في أغلب المشاهد. تشعر القاريء بأنه يتجول في قلعة يُضيع مخرجها إذا ضاعت منه العلامات الرئيسة.
سلطت الضوء لينا الحسن على تاريخ الهامش باعتمادها على مذكرات ضابط ألماني واعترافات بعض الرواة و الاستشهاد ببعض التواريخ الرسمية كمرجعية توثيقية تثبت صحة ما نقلته للقاريء في بنات نعش . تتربص الروائية بالزمن لتهزمه تستنجد بالأسطورة و تستعير الحدث الفانتاستيكي و صور الأشباح و الشياطين و الجن كمقترح جمالي تجريبي يأسرذهن المتلقي و يجعله يتفاعل مع النص. يتداخل الواقعي بالمتخيل في الرواية يجعلنا نتساءل هل بنات نعش رواية تاريخية ؟ أم سيرة ذاتية ؟ أم رواية خيالية كان الحدث التاريخي وسيلة حداثية يتطلبها النص الإبداعي المعاصر ليس إلا، و ماسيرة الأبهر سعدون إلا سيرة وهمية لا وجود لها في الواقع ؟
كاتبة من الجزائر
سيرياهوم نيوز 4_راي اليوم