وضع الخطاب الاستثماري الحكومي المفاجئ الصادر عن اجتماع المجلس الأعلى للاستثمار المتابعين والإعلاميين والباحثين الاقتصاديين والمستثمرين وكل من يتابع مجريات الشأن العام في حالة ذهول ، باعتباره لم يسبق له مثيل بهذا المستوى من الحرفية والجرأة ، وجاء مختلفا لحالة من الترهل والإحباط العام أضفاه خطاب وفعل الحكومة السابقة.
وتبرز أهمية كل مفردة في الخطاب الاستثماري الحكومي الرسمي باعتباره تمهيدا مباشرا وإرادة لنقل البلاد إلى بيئة عمل واستثمار مختلفة جذريا وجديدة ، إذ من المتوقع أن تكون القاعدة والأرضية والفرضية الأساسية لثقة يطلبها المستثمر الوطني أولا ومن ثم الأجنبي وحتى أصبح يطلبها الناس العاديون في تفاصيل حاجاتهم اليومية في الشارع وفي ردهات المؤسسات العامة، وهنا نسجل كل التقدير والاحترام لمن وجه وأنتج هذا الخطاب الحكومي المريح والذي يمكن بناء الكثير عليه في هذه الظروف.
لكن مقابل ذلك ..
يحمل الخطاب الاستثماري الحكومي المفاجئ في طياته حالة من التناقض البنيوي التي تراكمت خلال السنوات الماضية، وهي استثمارات تشكل ممرات إجبارية للدخول بطوق الاستثمار برمته وصولا إلى الاستثمار الوطني الشامل الواسع.
اذ يكشف الحديث الحكومي بجرأة أن أزمة الطاقة لم تكن قادرة على مواجهة رغبة المستثمرين في ضخ أموالهم وأفكارهم الاستثمارية في أرض الوطن ، وهذا يفرض أهمية فتح الباب واسعا إلى دخول القطاع الخاص الجدي في توليد الكهرباء وإنتاجها ، وهو الأمر الذي كان بعيدا جدا عن وجه الحكومة السابقة وعن وزارة الكهرباء التي انصب جل اهتمامها على الاستثمار في منح الموافقات للخطوط الذهبية واستثمار المستثمرين بدلا من شراكتهم في الاستثمار، وهذا ينسف أساس القصة الاستثمارية في سورية ، لأن الكهرباء هي روح الاستثمار والمواطن وكل شيء.
مقاربة الاستثمار والموازنة العامة
لم تكن المقارنة موفقة – من وجهة نظرنا – بين قيمة استثمارات العام 2024 للمشاريع المشملة أو المرخصة والتي وصلت إلى ( 62 ) ألف مليار ليرة في حين بلغت اعتمادات الموازنة العامة للدولة للعام 2025 ما يقارب ( 52 ) ألف مليار ليرة ، اذ من المعروف أن أرقام الموازنات في سورية وفي العالم هي حالة تقديرية لايمكن البناء عليها الا في أرقام قطع الحسابات ، وأرقام الاستثمار هي أولية وبالرقم فقط ، ولكي تنطبق الأرقام المرخصة مع المنفذة فهي تحتاج إلى الوقت ، مع أهمية القول أن أرقام المشاريع المنفذة على القانون 18 الخاص بالاستثمار والمشاريع قيد الإنشاء والمشاريع التي أدخلت الآلات تدعو إلى الكثير من التفاؤل بالمشهد الاستثماري السوري.
الموازنة الاستثمارية
أيضا فإن الموازنة العامة للدولة الجارية والاستثمارية محددة للرواتب والأجور ولنفقات الدولة ، وأيضا مايسمى الموازنة الاستثمارية فهي تحتاج الى إعادة النظر في فلسفتها وتوزيعها بين الجاري والاستثماري لأنها لاتعكس بالمعنى الاقتصادي معنى الاستثمار والغاية منه، ومن يقرأ أبواب الموازنة الاستثمارية سيلمس نسبيا انها تمول بعض المستلزمات البعيدة عن الاستثمار العام ، لكن الاستثمار العام يرتبط بالمؤسسات الاقتصادية وهو بهذا الاتجاه والمستوى يشكل نسبة ضئيلة جدا من الاستثمار الوطني ، وهذا أمر طبيعي لبلد يخوض حربا ضروسا منذ أكثر من ثلاثة عشر عاما.
بازار الحكومة
وهذا ما يفسر أيضا تشكيلة وتركيبة المجلس الأعلى للتخطيط الاقتصادي والاجتماعي الذي يعتبر بازار السنوي لتوزيع الموازنة العامة للدولة ، وخاصة الاستثمارية على الرغم من وجود كافة الاتحادات الاقتصادية والنقابية التي يتعدى وجود بعضها وخاصة الاتحادات الاقتصادية الوجود البروتوكولي ، وهذا ما يحتاج إلى المراجعة والتقييم، وحضور هذه الفعاليات يدلل على ان الاستثمار الوطني غير محصور ومحدد بالموازنة العامة للدولة.
وبالتالي فإن الاستثمار الوطني هو الوعاء الكبير الذي يتسع لكل الاستثمارات بما فيها الاستثمار الأجنبي ، وهو قصة أكبر من الموازنات – وهكذا يجب أن يكون – خاصة اذا ما كانت الموازنة هي إنفاق جار للرواتب والأجور والدعم ، أما الاستثمار هو فعل اقتصادي صرف يشتغل على الربح ومن خلال هذه القاعدة تكون كل الأطراف رابحة من رجال أعمال وكوادر فنية وإدارية وكذلك الموازنة العامة للدولة.
حديث الزراعة
الصدمة والحقيقة أن الاستثمار الزراعي وفق مظلة هيئة الاستثمار لم يتعد 5% من المشاريع الاستثمارية ، وهذا يؤكد أن كل الخطابات والسياسات المعلنة التي تجاهر بدعم القطاع الزراعي مجرد شماعات ليس لها أي أثر على الأرض ، ولكن هذه الإشارة والتحديد من المجلس الأعلى للاستثمار ربما تهيىء لبيئة ومحفزات جديدة حقيقية وجريئة للاستثمار الزراعي وللصناعات الزراعية بطبيعة الحال.
وكذلك الأمر فإن الاستثمار الصناعي لن يكون أحسن حالا وهذا التحدي الكبير أمام هيئة الاستثمار السورية ووزارة الصناعة وكل الجهات المعنية بالاستثمار الصناعي.
عقلية النعام
حقيقة يجسد الوصف الحكومي الرسمي بأن هناك كمونا في الاستثمار والإنتاج والعمل .. اعتراف الطرف الواثق من نفسه ، المحيط بتفاصيل الواقع المخيفة ، بعكس عقلية ” النعام” التي تعتقد بأنه لايراها أحد عندما تضع رأسها في التراب ، وهذه حالة تصالحية تفتح الأبواب المشرعة أمام تطوير وتحديث منشود ، بعكس “النفس والمود” الذي ساد أيام الحكومة السابقة .
ويضع الخطاب الاستثماري الحكومي الجديد الجهات الحكومية العامة والخاصة والنقابات المهنية والاتحادات الاقتصادية وحتى المجتمع الأهلي والجمعيات وأصحاب رؤوس الأموال وكل من يعمل بالشأن العام أمام مسؤوليات كبيرة في رعاية الاستثمار الوطني كل من موقعه سواء في تسهيل الإجراءات وفي كل شيء والدخول المباشر في الاستثمار الوطني.
سيرياهوم نيوز 2_الثورة