علي سرور
تطرح أوروبا خطّة مناخية جديدة لعام 2040 في محاولة لاستعادة صورتها كقوة بيئية عالمية. لكن خلف الوعود الكبرى، تكمن ثغرات تسمح بالتراجع عن الالتزامات، ما يعمّق الشكوك حول جدّية الاتحاد الأوروبي في مواجهة الكارثة المناخية وسط ضغوط الحروب والطاقة والركود الاقتصادي
وسط الجحيم المناخي المتفاقم في كلّ حدب وصوب، يُحاول الاتحاد الأوروبي إظهار نفسه في موقع قيادة الجهود السياسية العالمية في التّصدي للأزمات البيئية، مع إعلانه أخيراً عن اعتماد خطّة جديدة لمحاربة التغيّر المناخي، تهدف إلى تقليص الانبعاثات الحرارية بنسبة 90 في المئة بحلول عام 2040 مقارنة بمستويات عام 1990.
لكنّ الشعارات الرنّانة للخطّة تُخفي في طيّاتها خفايا الاتفاق الذي يضمّ بنوداً تسمح للدول الأوروبية بالتراجع عن التزاماتها في أي لحظة تبعاً للظروف السياسية والاقتصادية.
وتشمل الخطّة، التي جرى التوافق عليها بين المفوضية الأوروبية والدول الأعضاء بعد أشهر من المفاوضات الشاقة، مجموعة من السياسات والإجراءات التقنية الرامية إلى تسريع التحوّل نحو الطاقة المتجدّدة، وتشديد الضوابط على الصناعات الثقيلة والنقل الجوي والبري، وتوسيع نطاق «نظام تجارة الانبعاثات الكربونية» ليشمل قطاعات جديدة كانت حتى الآن خارج الإطار التنظيمي.
ويأتي الاتفاق في وقتٍ بالغ الحساسية بالنسبة إلى أوروبا، مع انعقاد قمّة المناخ COP30 في البرازيل في الشهر الجاري، ما يجعل الاتحاد حريصاً على إظهار قدرته على الحفاظ على دوره القيادي في ملف البيئة العالمي، بعدما تعرّض في السنوات الماضية لانتقادات بسبب تباطئه في تحقيق الأهداف التي وعد بها من قبل.
ويُنظر إلى الخطة الجديدة على أنّها محاولة لإنقاذ المصداقية الأوروبية أمام المجتمع الدولي، ولإعادة إطلاق مسار التحوّل الأخضر الذي تعرقل بفعل أزمات الطاقة والحروب التي أغرقت أوروبا نفسها فيها.
أوروبا المأزومة تتصدّى للأزمة؟
تضمّ الخطّة الأوروبية الجديدة حزمةً واسعة من الإجراءات، أبرزها الاستثمار في الهيدروجين الأخضر، وتوسيع مشاريع طاقة الرياح البحرية، وتحفيز الابتكار في مجال تخزين الكربون والبطاريات المتقدّمة، إلى جانب تعزيز الكفاءة الطاقوية في قطاعي البناء والنقل.
غير أنّ البند الأكثر إثارة للجدل في الاتفاق هو ذاك الذي ينصّ على إمكانية «مراجعة الخطة وتعديلها وفقاً لتطوّر الظروف الاقتصادية والسياسية»، ما يعني عملياً أنّ الالتزامات المناخية قد تبقى رهينة التقلّبات التي تشهدها القارّة.
هذا البند ــ وفقاً لتقرير نشرته «غرينبيس» ـــ يكشف عن هشاشة الإرادة السياسية لدى بعض الدول الأعضاء، ولا سيّما تلك التي تعتمد بشكل كبير على الصناعات الثقيلة والوقود الأحفوري مثل بولندا وتشيكيا والمجر، إلى جانب التحفّظ الملحوظ من جانب إيطاليا التي تخشى تباطؤ نموّها الاقتصادي إذا ما فُرضت قيود صارمة على الانبعاثات. كذلك، لم تُخفِ ألمانيا وفرنسا مخاوفهما من الأعباء المالية الهائلة التي ستنتج من تطبيق الخطة في وقتٍ يشهد فيه الاقتصاد الأوروبي ركوداً حاداً وتراجعاً في القدرة الشرائية وارتفاعاً في معدّلات التضخّم.
في المقابل، ترى المفوضية الأوروبية أنّ بند المراجعة لا يعبّر عن تردّد، بل عن «مرونة ضرورية» لضمان قدرة الاتحاد على التكيّف مع التغيّرات السريعة في أسواق الطاقة والاقتصاد العالمي. غير أنّ هذا التبرير لا يبدّد المخاوف من أن تتحوّل الخطة إلى مجرّد إعلان نوايا من دون إلزام فعلي، خصوصاً إذا ما استمرّت الانقسامات الداخلية حول وتيرة التحوّل الأخضر وكلفته الاجتماعية.
خطط سابقة لم تُثمر
منذ إطلاق «الاتفاق الأخضر الأوروبي» عام 2019، تعهّد الاتحاد بخفض الانبعاثات بنسبة 55 في المئة بحلول 2030، لكن الواقع أظهر أنّ التقدّم في هذا المسار أبطأ بكثير مما خُطّط له. إذ فشل عدد من الدول في الوفاء بالتزاماتها بسبب ارتفاع أسعار الطاقة بعد الحرب في أوكرانيا، وعودة الاعتماد على الفحم لتأمين الكهرباء في أوقات الذروة، إضافة إلى تراجع الاستثمارات في مشاريع الطاقة المتجدّدة نتيجة الأزمات المالية المتتالية.
لا يعترف دونالد ترامب أساساً بوجود أزمة مناخية!
وقد أشارت تقارير «المفوضية الأوروبية للطاقة» إلى أنّ بعض السياسات السابقة اتّسمت بالتناقض، إذ جرى مثلاً تشجيع استخدام الغاز الطبيعي كمرحلة انتقالية، قبل أن تتّضح هشاشة هذه الإستراتيجية مع وقف الإمدادات الروسية. كما أنّ الدعم الحكومي الموجّه للصناعات الخضراء لم يكن كافياً لتأمين تنافسية حقيقية أمام الشركات الآسيوية والأميركية التي استفادت من حوافز مالية ضخمة. كل ذلك جعل الاتحاد الأوروبي يبدو وكأنّه يراوح مكانه بين الطموح والواقع، بين الخطاب البيئي المثالي والضغوط الاقتصادية والسياسية اليومية.
بين الحرب والطاقة والاقتصاد
في قلب التحدّي المناخي الأوروبي، يقبع الواقع الجيوسياسي المعقّد الذي تمرّ به القارّة. فالحرب المستمرة في أوكرانيا واستمرار التوتّر مع روسيا لا يزالان يهدّدان أمن الطاقة في أوروبا، ما يدفع دولاً عدّة إلى إعادة تشغيل محطّات الفحم والبحث عن بدائل قصيرة المدى بدل الالتزام بخطط التحوّل الطويلة. كما إنّ الإنفاق العسكري المتصاعد وتخصيص مئات المليارات لبناء التحصينات والملاجئ النووية يضعف قدرة الحكومات على تمويل التحوّل الأخضر الذي يحتاج إلى استثمارات هائلة في البنية التحتية والتكنولوجيا.
من جانب آخر، تواجه الاقتصادات الكبرى، مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، تراجعاً في النمو وارتفاعاً في الديون العامة، بينما يعاني الاتحاد ككلّ من ضعف التضامن المالي بين الشمال والجنوب. في ظلّ هذه المعادلات، تبدو السياسات المناخية ترفاً صعب التحقيق أمام أولويات آنية يفرضها الواقع الأمني والاقتصادي.
وبين الخطّة الجديدة والواقع المعقّد، كيف يمكن لأوروبا أن تقود العالم في مكافحة التغيّر المناخي وهي غارقة في صراعات تُستنزف فيها مواردها؟ وكيف يمكنها إقناع مواطنيها بالتضحيات المطلوبة في وقتٍ تتزايد فيه البطالة والغلاء؟
بين مطرقة ترامب وسندان الصراعات
عند مراجعة الصورة الشاملة، يتّضح أنّ الاتحاد الأوروبي، رغم طموحاته البيئية، يعيش حالة تناقض عميقة بين خطابه الأخلاقي وواقعه السياسي. فبدل أن تكون البيئة أولوية إستراتيجية، تحوّلت إلى ملف ثانوي يتأثّر بكل أزمة جديدة. ومع إدخال بند «المراجعة» في الاتفاق الأخير، بات من الواضح أنّ القارّة تحاول التوفيق بين التزاماتها المناخية وحاجاتها الاقتصادية والعسكرية، ولو على حساب الكوكب بسكّانه أجمعين.
هذا التراجع في الجدية لا ينفصل عن السياق الدولي الأوسع، إذ تتأثر أوروبا بسياسات الولايات المتحدة، التي يقودها حالياً دونالد ترامب، الذي لا يعترف أساساً بوجود أزمة مناخية، وهو ما تجلّى في موازنته الأولى التي لحظت إلغاء معظم الإعفاءات الضريبية للطاقة المتجدّدة، كما تضمّنت تشجيع الاستثمار في الوقود الأحفوري.
ومع هذا الواقع الدولي، تضع الدول الأوروبية الخطّة الجديدة مع علمها المسبق بأنها ستجد نفسها وحدها في مواجهة أزمة المناخ، من دون دعم الحليف الأطلسي الذي يهتمّ حصراً بجرّهم إلى صراعاته الجيوسياسية.
في النهاية، يبدو أنّ أوروبا، التي دائماً ما حاولت تقديم نفسها كقوة أخلاقية في العالم، تجد نفسها اليوم في مفترق طرق. فإمّا أن تترجم وعودها إلى أفعال وتتحمّل كلفة التحوّل الأخضر مهما كانت باهظة، أو أن تستسلم لمنطق الأزمات المتتالية وتحوّل «الصفقة الخضراء» إلى شعار جديد يُضاف إلى قائمة الوعود غير المنفّذة.
أخبار سوريا الوطن١- الأخبار
syriahomenews أخبار سورية الوطن
