| خضر خروبي
على الرغم من واقع المراوحة الميدانية على مسرح الحرب الأوكراني، لا تبدو حلقات المواجهة متعدّدة الأبعاد التي يديرها الغرب بالوكالة هناك، على هذا القدر من الرتابة. إذ جاءت تصريحات وزير الدفاع البريطاني، غرانت شابس، حول خطط لإرسال قوات من بلاده في مهام تدريبية لحساب قوات حكومة الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، لتمثّل أحدث مؤشّر إلى قرب الانزلاق إلى حرب مباشرة بين الطرفَين الروسي والغربي. وما عزّز أهمية ذلك المؤشّر أيضاً، أن شابس، الذي كشف عن محادثات أجراها مع قادة الجيش لنقل برنامج تدريب يديره «حلف شمال الأطلسي» (الناتو) داخل قواعد عسكرية في المملكة المتحدة ودول أخرى من أعضاء الحلف، إلى داخل الأراضي الأوكرانية، لم يقف عند هذا الحدّ، بل تعدّاه إلى الإفصاح عن وجود توجّه لدى لندن لتأسيس مصانع أسلحة في أوكرانيا، فضلاً عن التلويح باستعداد بريطاني للمشاركة في حماية السفن الأوكرانية ضمن مياه البحر الأسود، بعد تهديدات روسية باعتبارها أهدافاً مشروعة.
تصريحات شابس: بثّ الطمأنينة في زمن الخوف
في وقت يتطلّع فيه قادة الغرب إلى إظهار وحدة الموقف إزاء ما لا يكفّون عن وصفه بـ«العدوانية الروسية»، تبدو تلك الوحدة «مهلهلة» في الواقع. ذلك أنها محفوفة بخلافات أميركية – بريطانية بدأت منذ أشهر حول ملفات عدّة أبرزها قرار واشنطن تزويد الجيش الأوكراني بذخائر عنقودية، وجلّاها تغيّب الرئيس الأميركي، جو بايدن، عن مراسم تتويج الملك تشارلز الثالث، فضلاً عن التراشق السياسي والإعلامي المستمرّ بين القيادتَين العسكرية والسياسية في كييف من جهة، وقادة ومسؤولين من دول غربية حليفة من جهة أخرى، من بينها الولايات المتحدة نفسها. ومن هنا، يدرج البعض كلام شابس في خانة التخبّط الذي يعيشه المعسكر الداعم لأوكرانيا، في خضمّ لعبة اللوم المتبادل بين الأخيرة وداعميها الغربيين في شأن فشل الهجوم المضادّ.
مع ذلك، يتواصل سعي أطراف رئيسة في هذا المعسكر، ومنها لندن، التي تُعدّ ثاني أكبر داعم لكييف بعد واشنطن بمخصّصات سنوية معلَنة لعام 2022 قاربت 2.5 مليار دولار، للإيحاء بخلاف ما تَقدّم، وتأكيد ثبات الدعم لحكومة زيلينسكي. فالمملكة المتحدة، المعروفة بأنها الدولة الأوروبية الوازنة الأكثر شراسة في موقفها من المواجهة، تبدو كمن يحثّ الخطى في إيجاد سبيل لطمأنة حليفها، وذلك على خلفية تراجع الدعم الشعبي للحرب داخل عدد من البلدان، وفق ما أظهرته نتائج الانتخابات البرلمانية في سلوفاكيا قبل أيام، ووصول التشكيك في الدعم الأميركي لكييف إلى أروقة الكونغرس، الذي صوّت خلال الأسبوع الجاري على ميزانية لم تلحظ رصد مخصّصات مالية للحليف الأوروبي. ومن هذه الزاوية أيضاً، يمكن فهم تنظيم مؤتمر لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في العاصمة الأوكرانية، على أنه تعويض معنوي عن علائم هذا الإرباك السياسي المصحوب بعوارض الإنهاك العسكري والمالي المتزايدة في أكثر من عاصمة من عواصم الغرب، حيث تتواتر التقارير حول التراجع الدراماتيكي في مخزونات الأسلحة لدى جيوش دول عدّة، كالولايات المتحدة، وفرنسا، وألمانيا.
الموقف البريطاني: سياسة جسّ النبض
في حين لا تبدو بريطانيا مستثناة من لائحة طويلة من الدول التي تواجه الواقع المأزوم عينه بسبب حرب أوكرانيا، وما فرضته من ضغوطات سياسية واقتصادية، إلّا أنه يُحسب للأخيرة، ومع اختباء الولايات المتحدة خلف مواقف مهادنة لروسيا عند أكثر من منعطف بدعوى عدم رغبتها في الانجرار إلى حرب عالمية ثالثة، دورها «القيادي» في جسّ نبض روسيا في الميدان، ورفع مستوى التصعيد معها في كثير من الأحيان. تجلّى ذلك، مثلاً، في كون لندن أوّل من بادر إلى إرسال دبابات ثقيلة إلى القوات الأوكرانية، قبل أن يحذو حذوها آخرون، فضلاً عن مبادرتها إلى تدريب الطيّارين الأوكرانيين على أراضيها في الأسابيع القليلة الماضية، إلى جانب كونها في طليعة من زوّد كييف بصواريخ «كروز» بمديات بعيدة. وعلى ما يَظهر، فإن هذا الدور «الاختباري» المنوط بالمملكة المتحدة من قِبل دول «الناتو»، يُراد منه، كما في كلّ مرّة، قياس ردّ الفعل الروسي، ولعلّه هو نفسه كان الدافع خلف ما أدلى به وزير الدفاع البريطاني أخيراً، قبل أن يعود رئيس الحكومة، ريشي سوناك، وينفيه في وقت لاحق. ويلخّص النهجَ السياسي المعتمد من قِبل لندن، قولُ مصدر بريطاني مسؤول إن «المملكة المتحدة يمكن لها أن تتفرّد بأداء الدور المشار إليه بشكل متميّز، ولا سيما أن روسيا لا تحبّذنا ولا تحبّذ سياساتنا كثيراً على أيّ حال». ويتابع: «نحن على علم بأنه في حال قمنا بتقديم أيّ شيء (لأوكرانيا)، فإن هذا الأمر سوف يسهّل إلى حدّ ما على الآخرين القيام بالشيء نفسه».
التمادي البريطاني المتواصل في اختبار صبر روسيا، استدعى قرع جرس الإنذار لدى الروس
وفور وصول أصداء كلام شابس إلى مسامع الكرملين، جاء الردّ الروسي حاسماً على لسان نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، ديميتري ميدفيديف، الذي حذر من أن «تدريب بريطانيا لعسكريين على أراضٍ أوكرانية، واحتمال تسليم كييف صواريخ» تاوروس» الألمانية، يدفعاننا بقوة إلى حرب عالمية ثالثة»، منبّهاً إلى إمكانية اضطرار قوات بلاده لاستهداف المدرّبين البريطانيين وقصف مصانع الصواريخ الألمانية، والحال تلك. ويعكس هذا التهديد المباشر وغير المسبوق في صراحته، مدى انزعاج الكرملين من انسياق بعض الأوروبيين، بخاصة البريطانيين منهم، وراء المشروع الأميركي المعادي لروسيا، وذلك بدءاً من فترة تولّي بوريس جونسون رئاسة الحكومة، مروراً بـ«نصيحة» أسداها وزير الدفاع البريطاني السابق، بن والاس، لكييف، وبدت أشبه بدعوة للاستعداد إلى حرب طويلة الأمد، وليس انتهاءً بتصريحات شابس.
وغير بعيد من هذا الخطّ البياني من المواقف عالية السقف تجاه روسيا، حمل موقف رئيس الحكومة الحالية، ريشي سوناك، في مؤتمر ميونخ في شباط الماضي، تجانساً مع الخطاب الأوكراني، لجهة التأكيد أنه «آن أوان مضاعفة الدعم العسكري لأوكرانيا»، والدعوة إلى تدشين «إطار عمل جديد» للحلف من أجل تأمين دعم طويل المدى لكييف، واعتماد «استراتيجية عسكرية تستهدف تحقيق تفوّق حاسم في ميدان القتال» ضدّ الروس، فضلاً عن تفادي التعليق على ما أشيع حول قرب نفاد مخزونات الجيوش الغربية.
ميدفيديف: الناطق باسم «حافة الهاوية» مع الغرب
هذا التمادي البريطاني المتواصل في اختبار صبر روسيا، استدعى قرع جرس الإنذار لدى الروس من تبعات ما باتوا يعتبرونه انخراطاً بريطانياً مباشراً في الحرب، وخصوصاً لناحية تعزيز احتمال وقوع صدام بينهم وبين «الناتو»، لطالما وجّهوا تحذيرات إلى لندن من مغبّة التسبب به. تأسيساً على ذلك، تبدو مخاوف روسيا مبرَّرة، في ضوء الكلام الرسمي الصادر عن المسؤول البريطاني، وفي ظلّ ما تدفع به أيضاً أوساط أكاديمية غربية، من بين وجوهها كبير مستشاري «برنامج الأمن الدولي» التابع لـ«مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» (CSIS)، والمتابع لملفّ تسلّح طرفَي النزاع الأوكراني، مارك كانسيان، الذي رأى أن إرسال صواريخ بعيدة المدى إلى الداخل الأوكراني، يجب أن يقترن بإرسال عشرات الخبراء الغربيين لتدريب قوات زيلينسكي على كيفية استخدام تلك الصواريخ. وتُضاف إلى ما تَقدّم، معطيات استخبارية أميركية عن وجود مداولات جدّية في أروقة «داوننغ ستريت» في شأن إرسال أطقم عسكرية إلى أوكرانيا بهدف تدريب جنودها على إطلاق وتوجيه صواريخ «ستورم شادو».
ولطالما شكّل الخوف من سيناريو الصدام المباشر مع روسيا، العامل الأبرز وراء عدم تزويد الغرب، أوكرانيا، بما تطلبه من صواريخ بعيدة المدى، على غرار صواريخ «أتاكمس» الأميركية التي يقارب مداها 300 كيلومتر (مماثل لمدى «ستورم شادو»)، والتي عادت إدارة بايدن وأعلنت، قبل أسابيع قليلة، نيّتها تزويد كييف بها، من دون تحديد موعد لذلك. إلّا أنه في ظلّ تصاعد وتيرة عمليات القصف الأوكراني لأهداف مدنية وعسكرية حسّاسة في الداخل الروسي، من مثل مطار بسكوف، الواقع على مسافة 700 كيلومتر من الحدود، والذي استُهدف الشهر الفائت، يستشعر الكرملين وجود خطّة غربية لنقل الحرب إلى طور جديد، من خلال تشجيع أوكرانيا على ضرب العمق الاستراتيجي لروسيا، سواءً بمسيّرات أو صواريخ بعيدة المدى، مورّدة من جانب دول عدة، ولا يزال يزعم الغرب أنه لا يسمح لكييف باستخدامها لاستهداف الأراضي الروسية (كصاروخ «تاوروس» الألماني الصنع، والذي أُشيع أن أوكرانيا تصرّ على حيازته)، أو من خلال صواريخ محلّية الصنع يسعى حلفاء حكومة زيلينسكي إلى تقديم دعم فنّي ولوجستي، بقصد توطين تصنيعها على الأراضي الأوكرانية.
وإذا كانت دون السيناريو الأول محاذير أمنية على درجة عالية من الخطورة، بالنظر إلى ما ستترتّب عليه من مسؤولية سياسية ستتحمّلها الدول المصدّرة لذلك النوع من الصواريخ، الأمر الذي أشار إليه مسؤولون روس بصراحة حين هدّدوا بضرب مصانع «تاوروس»، يحمل السيناريو الثاني أريحية أكبر لصنّاع القرار الغربيين، إذ بإمكانهم تبريره بحق أوكرانيا في ضرب ما تشاء من أهداف مدنية وعسكرية داخل روسيا. وفي كلتا الحالتين، بات الروس، وبعد ثبوت نجاحهم في تحصين موقفهم الدفاعي على الجبهات في الآونة الأخيرة، أكثر صراحة في رسم «خطوطهم الحمر» السياسية هناك، والتي غالباً ما يوكلون مهمّة التعبير عنها إلى ميدفيديف، الذي تحوّل إلى «الناطق الرسمي الحصري باسم خيار هرمجدون»، وفق ما يصفه به بعض المعلّقين.
سيرياهوم نيوز3 – الأخبار