| كتب: مفيد خنسة
وأنا أتلقى نبأ رحيل الروائي الكبير خيري الذهبي، لا أدري لماذا أحسست بغصّة وحرقة؟!، لماذا أحسست أنني فقدت رجلاً كبيراً؟!، لماذا أحسست أنني فقدت أخاً عزيزاً؟!، على الرغم من أنني لم التق به منذ أكثر من عشرين عاماً، كان يصنف الكاتب من المعارضين، أو لنقل من اليسار المعارض، على الرغم من حضوره ونشاطه، في اتحاد الكتاب العرب، وفي عام 1997 تحديداً، انتشر خبر رفض اتحاد الكتاب العرب نشر رواية جديدة له، فتألمت كثيراً وتعاطفت معه، ووجدت أن هذا ظلم لا يجوز أن يمارس بحق كاتب من مستوى خيري الذهبي، لأن اسمه يحمل عمله بأي مستوى كان، أفهم ماذا يعني رفض عملٍ لكاتب بهذا الحجم، وقدرت أن الرواية قد رفضت لسبب سياسي، وبمنتهى الصراحة تعاطفت معه تعاطفاً شديداً، على الرغم من أنه لم تكن تربطني به علاقة صداقة، إنما كنا نتبادل الاحترام، وإن كان كلّ منا يقدر أهميّة اختلافه عن الآخر، بالمعنى السياسي، لكنني كنت دائماً، أحرص في عملي الثقافي على الاحترام والتقدير للكتاب المعارضين بصورة خاصة، وعن قناعة بضرورة فصل المواقف السياسية عن الإبداع، المهم قررت أن ألتقي بالروائي الراحل الكبير خيري الذهبي، ولكن على أن يكون لقاءً عاديّاً من غير موعد أو رسميّات، وبالفعل التقيت به، في مقهى الروضة بدمشق، وتحدثنا بقضايا تتعلق بالثقافة والإعلام، ثم تطرقت بحذر لموضوع رفض الرواية، وتحدث لي بالتفصيل عن ملابسات الأمر، ووضح لي كيف أن رئيس الاتحاد كان قد تدخل بعد الرفض الأول للرواية، وطلب بعض التعديلات التي تتعلق بالقضية الدينيّة، وبالموضوع السياسي، لكن في المرة الثانية كان الرفض رفضاً قاطعاً، عندها قلت له: هل توافق على نشرها عندنا في (ملحق الثورة الثقافي)، عندها ابتسم ابتسامة لطيفة (رحمه الله رحمة واسعة) وقال: إذا كانت الرواية قد رفضت في اتحاد الكتاب العرب فكيف يمكن أن يوافق عليها في وزارة الإعلام؟!، قلت له: المهم أن توافق على نشرها من حيث المبدأ، والباقي أنا أتابعه، لست أنسى ولن أنسى ما حييت نظرات الحب العميقة، لا أنسى هذا التقدير الذي أحسست به، لا أنسى كرمه وشجاعته ورجولته، حين قال لي : اعتبر الرواية لك وتصرّف ما تراه مناسباً وأنا موافق سلفاً، لأن موقفك هذا أهم عندي من النشر، عندها شكرته، وقلت له: سأقرأ الرواية وكل فقرة غير مسموح بنشرها سأضطر إلى حذفها، فوافق، وقال لي: لك كامل الصلاحية في الحذف، ولا أدري إن كان يقدر عدم الموافقة على نشرها، وبالفعل قرأت الرواية فلم أجد ما يمنع من نشرها، وبعدها، قابلت الأستاذ عميد خولي رئيس تحرير صحيفة الثورة، أمد الله بعمره بالصحة والعافية، وطرحت عليه الفكرة، وبينت له أهمية نشر رواية الكاتب الكبير خيري الذهبي، كما أخبرته عن رفض الاتحاد عن نشرها، فقال لي مشكوراً طبعاً، تصرف ما تراه مناسباً وأنا موافق، كان فرحي كبيراً، وتعززت الثقة لدي أنه من الممكن أن يلعب الملحق دوراً في استقطاب الكتاب السوريين على اختلاف انتماءاتهم السياسيّة، وسارعتُ للإعلان عن نشر رواية الراحل خيري الذهبي ( هشام .. أو التحولات في المكان) على الصفحة الأولى من الملحق الثقافي العدد (58) بتاريخ 27/4/1997 ، وتعتبر هذه الرواية، الجزء الثالث من التحولات للروائي الراحل بعد حسيبة، وفياض التي صدرت ضمن منشورات اتحاد الكتاب العرب، وبالفعل بدأنا بنشر الجزء الأول على صفحتين متقابلتين في العدد (59)، وترك النشر انطباعاً حسناً في الوسط الثقافي السوري، وكانت تجربتنا الأولى في نشر رواية مسلسلة في ملحق الثورة الثقافي، وكتبت افتتاحية الملحق بعنوان (لماذا الرواية؟) وبينت أهمية نشر هذه الرواية ومما جاء في الافتتاحية: (وفي اعتقادنا أن هذه الرواية على درجة عالية من الأهميّة، لأنها تتحدث عن شخصيّة هشام الذي قرر أن يغادر وطنه، ممزقاً هويته وجواز سفره ، وتغريه بذلك الشهرة الثقافيّة وتحقيق النجوميّة الروائية في أوروبا والعالم، ليكتشف أن كل ذلك كان زائفاً، فيقرر أخيراً العودة إلى طنه، حيث التاريخ والذكريات والعلاقات والموروث، لكنها عودة إلى الغربة من جديد ….).
وذات يوم يجيئني هاتف ويطلب مني الذهاب فوراً إلى عند رئيس التحرير الأستاذ عميد خولي، لأمر هام جداً يتعلق برواية الراحل خيري الذهبي، وعندما دخلت إلى مكتبه كان غاضباً جدّاً، وقال لي: هل قرأت ما جاء في الرواية؟!، لا أنكر أنني توجست، وخشيت أن تكون قد مرت جملة ممنوعة لم أنتبه إليها، وجاوبت سريعاً، نعم راجعتها كلمة كلمة، وإذا كان هناك أي خطأ أنا من يتحمل المسؤوليّة، قال لي: إن شخصيّة دينيّة عالية المستوى قدمت شكوى رسميّة للسيد الوزير بنشر ما يسيء، عندها ازداد خوفي وخشيت أن تكون الشكوى قد قدمت إلى جهات أعلى، فذلك يعني التوقف عن متابعة نشر الرواية، وهذا سيسبب لي إحراجاً كبيراً، قلت له: دعنا نر حقيقة الاعتراض، سأحضر العدد، واستأذنت، وخرجت، وبالفعل نظرت إلى العبارة، وتيقنت أنها لا يمكن أن تعني ما ذهبوا إليه، وسارعت لتوضيح الأمر للأستاذ عميد، واقتنع، وتأكد أن الصورة مغايرة تماماً، وطلبت منه أن أذهب وأوضح الأمر إلى السيد الوزير، وبالفعل تفهم الأمر وتبين أن الصورة المنقولة، وأن الشكوى ليست دقيقة، واتصل هاتفيّاً ووضح الصورة لجهة لا أعرفها في إشارة إلى اقتناعه، وطلب إلي الانتباه والحذر مراعاة للموضوع الديني وحساسيته، وكان رأي رئيس التحريرتوقيف متابعة النشر، لكنني رجوت رئيس التحرير بإتمام النشر لأنه لم يبق سوى قسمٍ بسيط ولا داعي للفت النظر وإثارة قضيّة يمكننا تلافيها، ومرت المشكلة بسلام، وعندما أخبرت الروائي خيري الذهبي بما حصل تأسف للإحراج، ونفى أن يكون هناك أي قصد بالإساءة لأحد.
وجدت واجباً عليّ أن أنشر هذه القصة وهي إحدى المذكرات التي آمل أن تطبع يوماً، والآن أقول في رحيلك أيها الكاتب الكبير:
نحن من خسرك، نحن أبناء سورية وشعب سورية، الرحمة الواسعة على روحك، ليس نهر بردى وحور الهامة والغوطتان من خسرك وحسب، خسرك بحر اللاذقية، والفرات وعشب البادية، ونسيم الجزيرة وتراب حوران وسنديان الجبال المرتفعة كجبهتك، أيها المحفور على جدران الذاكرة بما كتبت عن الوطن، الرحمة على قلبك الذي أحب سورية، الرحمة على كل من خسرناه وغادرنا، أما للأحبة الأحياء من الكتاب أرجو من الله أن تعودوا لتجمعنا سورية، فمهما اختلفنا، قلبها كبيرٌ يجمعنا
(سيرياهوم نيوز3-صفحة الكاتب 5-7-2022)