يقول العكش أنّ هذه الثلاثية حافلة بأمثلة كثيرة تدل بأن بعض “الأديان” كما يقول إيمانويل كانط “لا تكثرث مطلقاً بالنيّة الأخلاقية لأنها أصلاً ليست بدين”.
يصف المؤرّخ العربي الكبير الدكتور منير العكش ثلاثيّته التي تبرز مشروعه الفكري “كيف يصبح الدين شرّاً”، بأنها “محاولة لتأسيس نظرة موحّدة عن العنف وأسبابه وأخطاره في تاريخ الأديان الثلاثة التي تنسب إلى السماء”. ويضيف: هي رحلة تنقيب عن الجذور المشتركة لعنفها الديني في مختلف ألوانه.
وللعلم فإن مشروع المؤرخ منير العكش العلمي لا يقل قيمة عن مشروع جمال حمدان صاحب “شخصية مصر: عبقرية المكان”، ومشروع عبد الوهاب المسيري صاحب “الموسوعية اليهودية والصهيونية”.
يوضح العكش بأن دراسة الدين والعنف الديني ليست جزيرة قطبية منعزلة ليس فيها إلا مستعمرات مكتظة بالقلانس والطرابيش. ويلفت إلى أنّ دراسة الدين والعنف الديني بخاصة تختلف جذرياً عن التديّن، فهي بسبب طبيعتها النقدية تتطلّب فكّ اشتباك مع المعتقدات الشخصية والنفاق مع الذات ومن دون هذه المسافة لا يمكن دراسة العنف الديني دراسة نقدية نزيهة.
ويؤكد بأنّ هذه المسافة هي الأساس الأخلاقي.. التي بنيت عليها هذه الثلاثية في تناولها لظاهرة العنف الديني تناولاً يؤكّد فيما يؤكّد ملكة العقل والاستدلال الجدلي.
ويوضح العكش بأن هذه “الثلاثية ليست استكمالاً لما كتبته وحسب، بل لعل كلّ ما كتبته بدءاً من أواخر ثمانينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة كان فروعاً وأغصاناً من غرسها المبكر. فهذه الثلاثية تتميّز عمّا سبقها بأنها أكثر شمولا”
إقرأ أيضاً: شلومو ساند يفكك أسطورة الشعب اليهودي
ويقول: إنّ بذور هذه الثلاثية زرع في أوائل سبعينيات القرن الماضي حين كان انشغالي بكتاب “الشعر والنبوّة” ملتهباً بحماسات الشباب.. ويبيّن أنّ “هذه النصوص النبوية في توراة العهد القديم (الأسفار الخمسة الأولى) ليست أكثر من حاضنة مقدّسة للعنف المميت كانت وما زالت”.
ويروي العكش في كتابه: “كيف يصبح الدين شرّاً: نظرة موحّدة للعنف في تاريخ الأديان الثلاثة/ الكتاب الأول: اليهود والعنف”، الصادر حديثاً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، أنّ أولى محطاته في مشروعه هي “فصل نقدي عن ظاهرة العنف في هذه النصوص النبويّة” نُشر في مجلة “شؤون فلسطينية” (أيار/مايو 1979) بعنوان “مقدّمة لمنطق العنصرية”، وأعقبه بنشر فصلين تأصيليّين لظاهرة النبوّة، اختارهما المفكّر الراحل مطاع صفدي من مسوّدة الكتاب ونشرهما في “الفكر المعاصر” (كانون الأول/ديسمبر 1980) بعنوان “مقدّمة لكلّ نبوّة يمكن أن تصير علماً”، وهما فصلان يوضحان نظرتي المبكرة لظاهرة النبوّة التي مرّغها الآباء العبرانيون بأحطّ غرائزهم”.
يحقّ للعكش أن يعتبر نفسه مفكّراً من خلال تجربته الغنية بالعلوم الإنسانية، ويحقّ له أن يسمّي نفسه مؤرّخاً عربياً، فمؤلفاته عن الهنود الحمر والإبادة الجماعية تُتوجّه بلا منازع بأنه مؤرّخ وعالم موسوعي.
ومع ذلك فضّل العكش “الإحجام عن استخدام اصطلاح (النظرية) والاكتفاء بكلمة نظرة، وقد اخترت هذه الصيغة عن عمد وقلت إنّها محاولة”. بحجّة تفادي الانطباع بأنه يقول الكلمة النهائية.
ويوضح العكش هدفه “بأنه يؤسّس لنظرة واحدة موحّدة عن العنف في تاريخ الأديان الثلاثة”. ويعترف بأنّ تأسيس نظرة واحدة موحّدة في الإنسانيات مغامرة أكثر تعقيداً من مثيلتها في العلوم الطبيعية.
ولأنّ العكش يسمّي عمله هذا محاولة، فإنّه يعود ويؤكّد بقوله “حاولت في هذه الثلاثية محو اسم الله من سكاكينها وقشع غبار المقدّس عن أشباحها وألغامها، وتتبّعت مسيرتها كيف تنفذ في الزمان وتهيمن على وعي أجيال اليهود والمسيحيين والمسلمين. فمعظم أساطير خلق العالم كانت في يوم من الأيام ديناً، وكانت سفر تكوين لهذا الشعب أو ذاك كما تعرضها معاجم الاَلهة وموسوعاتها التي تضمّ أكثر من ألفي إله معبود”.
إقرأ أيضاً: آفي شلايم: “الموساد” نفذ عمليات التفجير ضد اليهود في بغداد في الخمسينيات
يوضح العكش أنّ في هذه الثلاثية الحافلة أمثلة كثيرة على أن بعض هذه الأديان يقول إيمانويل كانط “لا تكثرث مطلقاً بالنيّة الأخلاقية لأنها أصلاً ليست بدين”.
اختار العكش أن يبدأ ثلاثيّته بكتاب “اليهود والعنف” ويمرّر ملاحظات:
حول خرافة “السامية” وفزّاعة “اللاسامية” ويبيّن أنّ قصص الانتقام التي يتضمّنها “الكتاب المقدّس” كثيرة جداً. بعضها لم يترك راويها إشارة تدلّ على سلامة عقله أو أخلاقه كقصة “انتقام نوح” لعورته المكشوفة من حفيده البريء “كنعان”: القصة التي لفّقوا منها تاريخاً وهميّاً للإنسانية تأسست عليه أخطر خرافة عنصرية إبادية في تاريخ البشرية.
إقرأ أيضاً: عشر خرافات عن “إسرائيل” للكاتب “الإسرائيلي إيلان بابيه”
ولكي يقفز راوي الخرافة إلى النتيجة العنصرية المقرّرة سلفاً في دماغ كلّ فرد من أبناء هذه العشائر، يقول: إنّ أحد أبناء نوح الثلاثة مرّ أمام خباء أبيه السكران العاري فوقعت عيناه على “عورة أبيه”، أما الأب فإنه حين استيقظ وعرف أن ابنه راَه سكراناً عارياً مكشوف العورة فإنه بدل أن يخجل من نفسه غضب وانتقم لنفسه انتقاماً مخيفاً، لا من ابنه “المذنب” الذي راَه عارياً بل من إنسان بريء لم يكن طرفاً في هذا المشهد هو حفيده “كنعان”، الذي كُتب عليه ـــــ كما تكتب اَلهة القدر ـــــ أن يصبح وذريّته “عبد العبيد” إلى أن تفنى الأرض. (التكوين 9)
ويسأل العكش: لماذا صار هذا الإنسان البريء “عبد العبيد” هو وذريّته وذريّة ذريّته إلى أن تفنى الأرض؟.
يجيب: بكلّ بساطة لأنّ عبادة الذات وقصة غزو كنعان وإبادة أهلها الكنعانيين كانتا تحتاجان إلى مثل هذه الخرافة المقدّسة عن حفلة السكر والتعرّي.
إقرأ أيضاً: هل تنهار “إسرائيل” من الداخل؟
وهنا يرى العكش أنّ “أعجب ما في هذه الخرافة عن أبناء نوح والأسياد والعبيد أنها بعد أن كانت مصدراً لأخطر تأسيس ديني للعنصرية والاستعباد والإبادة واغتصاب بلاد الاَخرين، قُتل بأخلاقها ملايين البشر في العالمين القديم والجديد، تحوّلت باستهبال العقول إلى نظريات علمية في الأعراق والسياسات والآثار والخلايا الوراثية واللغات”.
ويؤكّد العكش في كتابه الأول “اليهود والعنف” أنهم “بهذه الخرافة: لفّقوا شعباً من خلاسيات إثنية هجينة أعجب من مطامر النفايات، لا يجمع بينها سوى الاعتقاد بهذه الخرافات والتجارة بها. وقد وظّفوا كلّ ما يمكن توظيفه من إعلام وأكاديميا وعلم آثار وتشريعات إرهابية وجيوش وقوى عظمى ودموع تماسيح من أجل أن تتحوّل هذه الخرافة إلى مصادرة عقلية لا تحتاج إلى برهان”.
وهنا يأسف العكش لأنّ بعضاً من مثقّفينا و”أحبار أدياننا” اتخذوا من هذه الخرافة مسلّمة من مسلّمات العقول، وصاروا أكثر حماسة لها من تجّارها يردّدونها وترتعد فرائضهم من فزاعتها..
ويرى المؤلف أنه في مقابل هذا الإرهاب برصاص “اللاساميّة” صارت “ساميّتهم” الخرافية:
حصانة شاملة من أيّ محاكمة أو اتهام أو نقد. وصارت سلاحاً لإسكات ومعاقبة كلّ ما يشير إلى جرائمهم، وصارت رخصة دولية مفتوحة ليقتلوا ما شاءوا وينهبوا ويستعبدوا ويدمّروا ويُبيدوا ويحرقوا.
يؤكد العكش أن مسألة “اللاساميّة” ـــــ أياً كانت حقيقتها ـــــ هي مسألة أوروبية بامتياز.
وإذا كانت السامية إثنيّة حقيقية ثابتة فما علاقة اليهود بها؟ اليهود ليسوا بشعب ولا إثنية ولا يجمع بينهم إلا الدين، ومن المفارقات في هذه الخرافة التي جعلها الدجل علماً أنها إن صدقت وكان لما تدّعيه وجود حقّ فإنّ أكبر جماعة سامية على وجه الأرض هم نحن العرب لا اليهود.
الملاحظة الثانية: ولأنّ منير العكش هو أروع من كتب حول الهنود الحمر والإبادات التي تعرّضوا لها، فإنه يعتبر ما يجري في غزة اليوم من مذابح لا تختلف عن مذابح الإسبان ضد السكان الاصليين.
ويقول: هؤلاء الذين لا يملّون من البكاء والعويل والمسكنة والتشكّي والتمثيل الوظيفي لشخصية الضحية في أفران الغاز هم أنفسهم الذين يلقون على رؤوس أهل غزة الفلسطينيين يومياً اَلاف أفران الغاز.
إقرأ أيضاً: الصهيونية وخيوط العنكبوت
يعتبر العكش أنّ التضليل الإعلامي الذي يرافق جرائمهم هو دليل جديد بالصوت والصورة على أن رواياتهم بدءاً من وجودهم في فلسطين وانتهاءً بمعسكر أوشفيتز والهولوكست قد تكون هي أيضاً أعراضاً أخرى من إدمانهم المرضي على الكذب والتضليل.
سيرياهوم نيوز 2_الميادين