د. سلمان ريا
في لحظة من لحظات الوجود التي يعصف فيها الزمن بأقنعة الثبات، يقف الفكر مدهوشًا أمام سؤال مركزي لا يزال يثقل كاهل المجتمعات: كيف يمكننا أن نؤصل لعلمنة تُنقّب في عمق العقل، وترعى في آنٍ واحد روح الدين، فتنسج من حريرهما ثوب حياة كريمة، يُرتجى منه عيشاً تسوده الحرية والكرامة؟
العلم، في جوهره، هو ذلك النبع اللامتناهي من المعرفة، الذي ينهل منه الإنسان قوته ومقومات فهمه للكون والذات، وهو أدوات العقل التي تُحرر الإنسان من أغلال الجهل، وتفتح أمامه أبواب التقدم والتطور، بما يضمن له رفاهه وكرامته في الحياة. هو سلطة العقل التي لا تُقيد بالتحجر أو الجمود، بل تحيا وتتجدد مع حركة الحياة نفسها.
أما الدين، فليس إلا ذلك الرابط الأزلي بين المخلوق وخالقه، نبع الخير المطلق، وهو تلك النظرة النقية التي تفيض أخلاقًا وقيمًا، لا تغذي التعصب ولا تزرع العصبية، بل تنبع من صفاء الروح ورهافة الحس. هو ذاك الصرح الذي لا يجوز أن يُهدم أو يُسجن في زوايا السياسة العابرة، لأن في ذلك تشويهاً لجوهرة الروح، واغتراباً عن مقامها السامي.
غير أن المأساة تكمن في ذلك الخطاب الدوغمائي الذي يسعى إلى فرض الحقيقة الواحدة، ويُشيّد جدران العزلة بين أبناء الوطن الواحد، مُكرّساً خطابًا يُغلق الأبواب أمام التنوع والاختلاف، ويقتل روح الحوار والانفتاح. وهذا ما يعوقنا عن تجاوز محن الجهل والظلامية، ويُعطل حركة الفعل الحضاري، فتصبح مجتمعاتنا أسيرة ما يسميه الباحثون “دوغمائية الأنا”، التي ترفض الآخر وتُهمشه، بل وتلغي وجوده الفكري والثقافي.
وهنا، ينبثق الأفق الأرحب للحرية الفكرية، حيثُ تلعب اللامركزية دورها المحوري. اللامركزية، تلك الحرية التي تمنح العقول فسحة التنوع والاختلاف، وتشجع الحوار الصادق، وتكسر هيمنة المركز الواحد والوصاية الفكرية، لتُتيح للشعوب أن تُبدع وتتفاعل في فضاءات رحبة، لا تشعر فيها بأن الفكر مُقيد أو الحرية مصادرة.
إن جوهر التنمية الفكرية والاجتماعية يكمن في تحرير الإنسان من قيود المركزية المطلقة التي تخنق المبادرة وتكبّل الإبداع. اللامركزية هي ربيع الوعي وحضارة الحوار، وهي السبيل لترسيخ مجتمع تعدديٍ، يُعزز فيه كل فرد كرامته ويُشبع طموحه، بعيداً عن الاستبداد الفكري والسياسي الذي يحاول فرض رأي واحد كحقيقة مطلقة.
فالتراث – وإن كان غناه لا يُقدر بثمن – لا ينبغي أن يكون حجرَ عثرة، بل ركيزةً يُرتقى عليها نحو تجديد الفكر واستنارة العقول. فحين يُقرأ التراث بنور العقل، يتحول إلى جسر يربط بين قديم وحديث، ويجعل من الدين والعلم جناحين يحلق بهما الإنسان في فضاء الحرية والحداثة.
في زمن تهيمن عليه تيارات التعصب والجمود، تتطلب منا هذه اللحظة التاريخية أن نُحرر عقولنا من أسر الدوغمائية، وأن نُقيم في واقعنا مؤسسات معرفية وثقافية تنفتح على كل الثقافات والأديان، مُغذية بذلك جذوة الإيمان والمعرفة، ومعززة لقيم التسامح والانفتاح. إن التحدي الحقيقي يكمن في تفعيل المعرفة التي هي جوهر الروح، كما قال الفلاسفة، لتكون قوة بناء لا أداة هدم.
هذا هو السبيل نحو مجتمع حديث، يُعطي الدين حقه كمرشد أخلاقي وروحي، ويعطي العلم مكانه كمنهج عقلاني ومنارة للتقدم، مجتمع يحتضن التنوع، ويحتفي بالاختلاف، ولا يسمح لأي خطاب أن يحتكر الحقيقة أو يلغي الآخر.
فلنخطُ معًا نحو هذا الفجر الجديد، حيث يعلو صوت الإنسان فوق كل صوت، ويُشرق الوطن بأنوار العقل والحرية، مجتمع لا وصاية فيه على الفكر، ولا استبداد في الرأي، بل حرية مُستنيرة، ووعي متجدد، يتسع لكل الأفكار والثقافات.
في هذا المنهج يتجلى وعد الحرية الحقيقية، وفي هذا الحوار ترتسم ملامح النهضة، لتكون سوريا في طليعة الحضارات التي تنصت للحكمة، وتحيا بالعلم، وتسير نحو مستقبل مُشرق، لا يحدّه إلا سقف السماء.
(موقع اخبار سوريا الوطن-2)