وليد شرارة الثلاثاء 17 آب 2021
هما عقدان من التحولات.
لا أميركا هي أميركا، ولا «طالبان» هي «طالبان»، ولا البيئة الاستراتيجية هي نفسها. عقدان ألقتهما الولايات المتحدة وراءها وولّت مدبرة، لتشتعل في الداخل الأميركي نزاعات محورها سؤال رئيس: هل «عادت أميركا» حقاً؟ سؤالٌ ليس منطلقه مجرّد صورة أيقونية خلّفتها واقعة كابول، شأنها شأنها واقعة سايغون، بل سلسلة تطورات متسارعة في العالم، ستجعل الخصوم، أي خصوم «الإمبراطورية»، أكثر جراءة في وجهها، وأصدقاءها أقلّ اعتداداً بها. على المقلب المضادّ، تبدو حركة «طالبان» بنسخة جديدة أكثر مرونة وبراغماتية واستعداداً لتعاطي السياسة، وإن بقي الشكل على حاله. ولعلّ هذا الانقلاب هو ما تراهن عليه دول جوار أفغانستان، وعلى رأسها إيران، من أجل الوصول إلى تفاهمات مع الحركة، التي لا تفتأ تبعث برسائل طمأنة إلى الداخل والخارج، في تكتيكات لا يمكن إلا التوقّف عندها في قراءة المشهد وتحليله. يبقى أن أفغانستان، وأيّاً كان شكل الحكم الذي ستستقرّ عليه، ستجد نفسها أمام تحدّيات هائلة، بعدما عاث الاحتلال فيها خراباً، وزادها إفقاراً، وخلّف فيها مآسي جمّة، قبل أن يغادرها على متن طائرات عسكرية اضمحلّت مع تبدّد دخانها الأحلام «الوردية» الواهمة، التي كان رسمها لهذه البلاد المُعذّبة
ستحتفل حركة «طالبان» وأنصارها بالذكرى العشرين لعمليات 11 أيلول 2001 في كابول. هي نجحت فعلاً، بعد عقدين من القتال الشرس والعناد الصلب، في إلحاق هزيمة مدوّية بالقوة «الخارقة» الأميركية، وبعملائها المحليين، ودقّت المسمار الأخير في نعش حربها على «الإرهاب»، التي لم تكن سوى سلسلة طويلة من الهزائم المتتالية، على رغم ما تسبّبت به من ويلات ودمار في البلدان التي غُزيت بذريعتها. قسم عظيم من «حلفاء» الولايات المتحدة لم يصحُ بعد من هول هذه الصدمة «الجديدة» : من الممكن أن تُغلب الولايات المتحدة، حتى من قَِبل شعب فقير ومنكوب كالشعب الأفغاني! ماذا سيكون حالها إذا دخلت في مجابهة مع أطراف أشدّ عتوّاً وأكبر قدرة كإيران أو الصين مثلاً؟
قد تكون الدروس الأوّلية المستخلَصة من قِبَل كورت فولكر، السفير الأميركي الأسبق في «الناتو» في عام 2008 – 2009، والمبعوث الخاص للمفاوضات حول أوكرانيا بين عامَي 2017 و2019، حول تداعيات التطورات في أفغانستان على الموقع الدولي لبلاده، هي الأكثر صراحة. ففي مقال بعنوان «أفغانستان ومستقبل الولايات المتحدة الأكثر قتامة»، على موقع «مركز تحليل السياسات الأوروبية»، الأطلسي جداً، يعتبر فولكر أن «خصوم الولايات المتحدة سيزدادون قناعة بأنها لا تملك إرادة للانتصار. قد يكون لديها الموارد اللازمة لذلك، لكنها تفتقد التصميم والقدرة على التحمّل لتحقيق أهدافها. لإلحاق الهزيمة بالولايات المتحدة، سيخلصون إلى أنه ما عليك سوى بالصبر… أما الحلفاء، فسيصبحون أكثر تردّداً في حشد القوات وتخصيص الموارد للمشاركة في ائتلاف تقوده واشنطن، عندما يوقنون بأنها مستعدة للمسارعة إلى التخلّي عنهم من دون أيّ تشاور معهم، على رغم إرسالهم جنودهم إلى خطّ النار».
وعلى رغم إقرار العديد من الباحثين والخبراء الأميركيين، الذين ينتمون إلى التيار الرئيس في النخبة الأميركية، بالمفاعيل الشديدة السلبية للحدث الأفغاني، في ظلّ تراجع الهيمنة الأميركية على الصعيد العالمي وصعود المنافسين، فإن فرضية امتلاك واشنطن خطّة بديلة، ستضعها موضع التنفيذ عن بعد، رأت النور في العالم العربي حصراً. لكن هذه الفرضية تتجاهل التحولات الجيوسياسية الكبرى في محيط أفغانستان، وتتعامى عن مفاعيلها الكارثية على مستقبل «الوجود» الأميركي في منطقتنا من جهة، وعلى عزم وتصميم أعدائها وخصومها، في هذه المنطقة وفي نواحٍ أخرى من المعمورة، على مواجهتها والتصدّي لمخططاتها من جهة أخرى.
هزيمة مدوّية لا صفقة
تغييب التحوّلات الجيوسياسية الكبرى في آسيا أساساً، المرتبطة جميعها بالانحدار التدريجي لكن المستمرّ، بل والمتسارع، للإمبراطورية الأميركية، هو الذي يتيح طرح فرضيات من نوع انسحابها من أفغانستان في مقابل صفقة مع حركة «طالبان» تسمح لها بتوظيفها ضدّ دول كالصين وإيران وروسيا مثلاً. «طالبان» حركة قاومت الاحتلال الأميركي لبلادها ببأس قوي خلال 20 عاماً، وهي مقاومة مديدة أكسبتها شرعية وطنية وحيثية ملموسة، على رغم الصلات الحميمة التي احتفظت بها مع باكستان، والدعم التي حظيت به، وفقاً للاتهامات الأميركية، من إيران، وحتى من روسيا والصين. لن تتحوّل مثل هذه الحركة، بين ليلة وضحاها، إلى وكيل محلّي للولايات المتحدة، تخوض لحسابها حروباً ضدّ دول الجوار. وقد ينعكس الطابع «الوطني» للحركة في خطابها السياسي، البعيد تماماً عن خطاب «القاعدة» المعولم مثلاً، وفي تعاملها مع المكوّنات الأفغانية الأخرى ومع دول الجوار.
الانسحاب الأميركي من أفغانستان دلالة إضافية على الضعف البنيوي، لا أكثر
لا يعني ذلك عدم وجود تأثير لهذا الجوار على الحركة، وأولاً باكستان. لقد كان لباكستان دور مركزي في قصة «الجهاد الأفغاني» الطويل، بدءاً بالمقاومة ضدّ الغزو السوفياتي، والتي حظيت بإسناد وتمويل الولايات المتحدة والسعودية، وحتى الصين في ثمانينيات القرن الماضي، ووصولاً إلى صناعة «طالبان» في مخيمات اللاجئين الأفغان في بداية تسعينياته. لقد شكّلت باكستان، خلال حكم الجنرال ضياء الحق، قاعدة خلفية لـ«الجهاد الأفغاني»، في ظلّ تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، وانخراطها في الحرب الباردة إلى جانبها ضدّ الاتحاد السوفياتي، الذي وقف في تلك الفترة نفسها في صفّ الهند ضدّها. وحتى بعد الانسحاب السوفياتي، وانفجار الصراع بين فصائل «المجاهدين الأفغان»، أشرفت الاستخبارات العسكرية الباكستانية على إنشاء «طالبان»، ومدّها بكلّ سبل الدعم لتقوم بإعادة توحيد أفغانستان، بتأييد واضح من الولايات المتحدة، التي رأت وزيرة خارجيتها آنذاك، مادلين أولبرايت، أن دخول الحركة إلى كابول في أواخر 1995 هو «حدث إيجابي». كان هدف الولايات المتحدة في الفترة المذكورة تسهيل مدّ أنبوب غاز من تركمنستان إلى باكستان، تقوم ببنائه شركة «كونوكو» الأميركية، في إطار مسعاها لفكّ ارتباط اقتصادات آسيا الوسطى، السوفياتية سابقاً، بروسيا.
لقد تغيّرت البيئة الاستراتيجية اليوم جذرياً: باكستان باتت شريكاً استراتيجياً، اقتصادياً، أمنياً، وسياسياً للصين، على رغم احتفاظها بعلاقات قوية مع الولايات المتحدة التي أضحت حليفاً استراتيجياً للهند، ضدّ الصين. ستستخدم باكستان، بلا ريب، نفوذها على «طالبان» للحؤول دون أيّ صدام بينها وبين الصين، وهو أمر مستبعد تماماً، كما تُظهر زيارة وفد من الحركة إلى بكين، واجتماعه مع وزير خارجيتها، بعد سيطرة «طالبان» على ولاية بدخشان المحاذية لهذا البلد. الأمر نفسه ينسحب على علاقات الحركة بإيران، والتي تحسّنت نوعياً في العقدَين الماضيين، وأصبح حسن الجوار بين البلدين إمكانية واقعية أكثر من ذي قبل. اتجاه «طالبان» إلى الواقعية، وانخفاض أهمية المنسوب الإيديولوجي في تحديد مواقفها وسياساتها حيال الدول والأطراف المختلفة، تبدّيا بجلاء خلال السنوات الماضية. من الممكن، على ضوء هذه المعطيات، تصوّر تعاون إقليمي بين دول الجوار و«طالبان»، لنزع فتائل التوتر، والمساعدة على استقرار الأوضاع الداخلية في أفغانستان.
الضعف الأميركي والصبر الاستراتيجي
الانسحاب الأميركي من أفغانستان دلالة إضافية على الضعف البنيوي، لا أكثر. وحتى ولو افترضنا أنه يتمّ في سياق إعادة تموضع ضدّ الصين، ألم يكن البقاء في أفغانستان، وهي دولة مجاورة للصين، جزءاً منطقياً من هذا التموضع؟ الإجابة سلبية حُكماً، لأن واشنطن لم تعُد تحتمل الاستنزاف المستمرّ لقواتها، وهي إن أرادت التموضع، فستفعل ذلك في بلدان «صديقة».
مفاعيل هذا الانسحاب بالنسبة إلى الدول والقوى المناهضة للهيمنة الأميركية على منطقتنا، والمنادية بضرورة التسلّح بالصبر الاستراتيجي في مواجهتها، والمضيّ قدماً في مقاومتها، فائقة الأهمية. كيف سيتمّ التعامل مع الاحتلال الأميركي في العراق وسوريا بعد هروبه المذلّ من أفغانستان؟ هذا سؤال برسم القوى الوطنية في البلدين، والتي تؤكد في مناسبات عديدة عزمها على طرد المحتلّين. أمّا بالنسبة إلى الصين وروسيا، فإن كلام كورت فولكر شديد البلاغة: «إذا استطاعت مجموعة من المتطرّفين الإسلاميين الانتصار على الولايات المتحدة، فإن هذا الأمر سيعزّز قناعة الصين بأنها مع مرور الوقت، ومراكمة المزيد من القدرات وحسن التنظيم، ستنجح في التغلّب على واشنطن في جوارها. روسيا لن تأخذ على محمل الجدّ كلّ التهديدات بالتصدّي لاعتداءاتها العسكرية وابتلاعها لأراضي دول في جوارها». هذا تقدير دقيق للموقف بلا أدنى ريب.
(سيرياهوم نيوز-الاخبار)