بقلم د. حسن أحمد حسن
لم أكن يوماً من أنصار نظرية المؤامرة انطلاقاً من اليقين بأن الأمر الطبيعي أن يتآمر العدو أو الأعداء ضدنا، فهذه طبيعة الحياة مذ عرفت ظهور المجتمعات البشرية، بل وقبل ذلك بقرون وقرون، وعندما يتكامل الحسد وحب التطاول على ما لدى الآخرين ممن منحتهم السماء بسطة في الرزق والنعم ما ظهر منها وما بطن، فأول ما يجب التفكير به هو كيف يمكن صيانة ذلك وتحصينه، وليس انتظار الآخرين إلى أن يعدوا العدة للانقضاض وسرقة تلك النعم على اختلاف أنواعها ومظاهرها، والاكتفاء لاحقاً بالتحسر على ملك نُهِبَ وضاع، أو مجدٍ صودر وسُرِقَت روافعه، ولا البكاء على أطلال خربة تعيث الرياح المحملة بالسموم في جنباتها وباحاتها، بل حتى في أقبيتها الداخلية، ولن يغير تلك الحال إن تحققت ندب الحظ العاثر ولا تعليق كل شيء على مشجب المؤامرة، و عندها لن يكون مجديا جلد الذات والتغني بأمجاد دَرَسَتْ، ولم تعد تجد لها متسعاً في المكتبات الرقمية لليبرالية الجديدة التي تزداد توحشاً وخطورة وكوارث لما تتضح كل معالمها بعد.
ما ينطبق على الدول والمجتمعات يمكن سحبه على الأفراد والمؤسسات والمنظمات والأحزاب وما شابهها، وهذا يذكرني بقتل قابيل لهابيل، لا بسبب خطأ ارتكبه هابيل، ولا لفعل أقدم عليه ذاتياً فتضرر القاتل جراء ذلك، بل لحسد وغيرة ورغبة من قابيل بحرمان أخيه من بركة السماء التي تقبلت قربانه، وهذا ما لم ينله قابيل فأقدم على فعلته، وهنا يظهر بوضوح تغلب الكثافة والظلامية على المدد النوري والشفافية الممزوجة بالفطرة الإنسانية التي فطر الخالق عليها خلقه، وكرم الإنسان بأن خلقه على مثال صورته، فتكبَّر وتجبَّر وسفك الدم البريء وأجرم، ولم يستطع إخفاء معالم جريمته إلى أن رأى غراباً ينبش في التراب ليواري جريمته، فقلده لمواراة سوأة أخيه المقتول، وهناك من يقول: منذ تلك الحادثة والكفة ترجح لصالح أصحاب نزعة القتل والبطش والسطوة وسفك الدماء، وبعض أصحاب هكذا قناعة يعودون إلى الأقدم من ذلك عندما طلب الله من الملائكة السجود لآدم فكان الجواب وفق ما ورد في النص القرآني: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ).
بعيداً عن الدخول في مجال التفسير وتعدد الأوجه التي يمكن أن يسوقها كل طرف حسب ما يعتقد بصحته، وهذا يفتح باب جدل لانهاية له، وقد يكون من المهم والمفيد هنا التمييز ما بين الفطرة الخيرة للنفس البشرية، وبين الشرور وحب الأذى والتطاول على حقوق الآخرين، وفي مثل هذا المسرح للعمليات الميدانية والفكرية والروحية قد تنتصب مشانق الحقيقة، فيزداد أنصار الإقصاء وإخصاء القيم عتواً، ويزداد من يحمل الضياء والقيم النبيلة وجعاً على وجع، والعالم إما صامتٌ متفرجٌ، أو شامتٌ ينتظر خروج الجلاد وبيده سيفه وهو يقطر بدماء الضحايا الأبرياء ضحية إثر أخرى…
وحدهم عشاق النور والضياء يعيدون للفطرة الإنسانية صبغتها القدسية التي كرمها الخالق… وحدهم من يحملون في أعماقهم الحق والخير للجميع، وتسري في وأوردتهم دماء الكرامة والعزة التي لا تقبل الذلة ولا المساومة ولا الخنوع… وحدهم الذين يؤمنون بالشهادة معبراً للخلود، ويعبدون بأرواحهم الطاهرة معراجاً إلى السماء ببصيرة ثاقبة وبصر لا يشكو انحساراً، ولا يعيق أصحابه دجنّة أو ظلام، فهم يستضيؤون بنور اليقين الذي لا يخبو ولا يخفت لأنه يوقد من شجرة مباركة يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار.. وحدهم أنصار الحق والحقيقة، وعشاق كرامة الإنسان الذي خلقه الله على مثال صورته… وحدهم عشاق المقاومة ثقافة ونهجاً وسلوكاً وأنموذج حياة أخذوا على عاتقهم مسؤولية الوقوف في وجه أعاصير الشر، وبراكين ظلامية الجاهلية الأولى وهي تتدرع بأشد أسلحة الفتك والدمار التي تسعى الليبرالية الجديدة المتوحشة لفرضها على العالم أجمع، وإعادة البشرية إلى مواراة الغراب القاتل سوأة المقتول، والفرض على الجميع بترك جثث الضحايا لتتفسخ، وتعمم الرعب الممنهج على كل من يفكر بشق عصا الطاعة التي يلوح بها فراعنة العصر وطواغيته فوق رؤوس الجميع.
نعم وحدهم أبناء الحياة الجديرون بالحياة ما يزالون يدفعون ضريبة التمسك بالكرامة مهما عَلَتْ، ويقدمون الأجيال تتوالى للدفاع عن إنسانية الإنسان والقيم النبيلة الضامنة لبقاء الخير والمنطق في البشرية جمعاء، وهذا يتطلب إقامة السدود المدروسة بعلمية ومهنية وكفاءة لصد السيل الجارف من الولاءات المستولدة في أنابيب التزمت العنصرية والنازية الجديدة وصراع إيديولوجيات القتل وبسط الهيمنة وتفكيك عرى الأسرة لأنها الخلية الأساسية في المجتمع، ودكدكة القيم الأصيلة لتحل محلها عصرنة مسرطنة لاصطفافات موبوءة تعمل الليبرالية الجديدة على تجميلها وتسويقها بشتى الطرق والأساليب، وهنا تبرز أهمية الأصالة والهوية ونقاء الانتماء للوطن، ونبذ كل الأحقاد الشخصية والانتماءات الضيقة والأنغام النشاز التي تحمل بذور وبثور التشظية وسد الطرقات، أو إعطاب عجلات عربة التعافي بعد أن استوت على سكة الانطلاق الواثق والمضمون نحو غد أفضل، ومسؤولية إدراك الغد المطلوب تقع على عاتق الجميع دونما استثناء، فمن يتوهم أنه خالد في موقعه أو منصبه عليه إعادة النظر، فلو كان ذلك كذلك لكان من سبقه ما يزال يشغل كرسيّه، وهنا تتبلور أهمية التواصل بالمحبة والتعاون المثمر بعيداً عن السين وسوف فكلاهما حرف لما يستقبل من الزمان القريب أو البعيد، والحقيقة الوحيدة التي ثبتت صحتها هي أننا جميعا سنرحل، أو سوف نرحل عاجلاً أم آجلا… نعم الجميع سيغادر مكانه وموقعه، وحري بكل شخص أن يترك قبل المغادرة الأثر الطيب الجدير بالذكر، وهذا مرهون بالمحبة والصدق والشفافية والتمسك بأهداب السيادة واليقين بعبثية جلد الذات وثقافة الإحباط والقنوط واليأس والتيئيس، أو تعليق كل أسباب التعثر والأوجاع المتفاقمة على مشجب المؤامرة والأسباب الخارجية، فمعاً ينطلق الركب، ومعاً يمكن إكمال الدرب، ولاسيما أن الأصعب قد أصبح وراء الظهر، وبيارق الأمل الموضوعي تلوح بوضوح، وتنادي الجميع لتفادي إطلاق الأحكام المسبقة والمشاركة العملية وفق المستطاع بدلاً من الاكتفاء بالأستذة والتنظير أو رؤية النصف الفارغ من الكأس فقط، فهناك نصف مملوء، والوفاء للوطن يتطلب المساهمة الفاعلة في ملء النصف الفارغ، وليس العكس.
(موقع سيرياهوم نيوز-٣)