د. صبحي غندور
هناك عدم توافق في المجتمعات العربية على كيفيّة رؤية مسألتين، هما بمثابة مسلّمات ومنطلقات في المجتمعات الحديثة الناجحة: الهُويّة ودور الدين. فحسم كيفيّة فهم هاتين المسألتين هو الأرضية الأساسية لبناء أوطان عربية متقدّمة وموحّدة، ومن دون ذلك، سيبقى الخلل قائمًا، والتصدّع محتملًا، في بنية ووحدة أي بلد عربي. فالإصرار على أولوية “الهُويّات” غير الوطنية والعربية سيجعل ولاء بعض المواطنين لخارج وطنهم، بحكم “المرجعيات الدينية أو الإثنية”، وسيوفّر المناخ المناسب للتدخّل الأجنبي ولصراعاتٍ أهلية.
لكن هذا ليس بموضوعٍ جديد على منصّة الأفكار العربية. فهو موضوعٌ لا يقلّ عمره عن مائة سنة، إذ منذ مطلع القرن العشرين يدور التساؤل في المنطقة العربية تحديدًا حول ماهيّة هويّة هذه المنطقة، وهي المرحلة التي بدأ فيها فرز العالم الإسلامي بعد انتهاء الحقبة العثمانية إلى دول وكيانات وفق اتّفاقية “سايكس- بيكو”. لكن ما حدث خلال القرن العشرين أثبت عدم إمكان الفصل في المنطقة العربية ما بين العروبة الثقافية والعامل الديني الحضاري. فالعروبة والإيمان الديني حالة متلازمة في المنطقة العربية، وهي مختلفة عن كل علاقة ما بين الدين والقوميات الأخرى في العالم الإسلامي. فقد كان على تركيا، لكي تبتعد عن الدين (وهو هنا الإسلام)، كان عليها أن تتمسّك بقوميتها التركية وأن تستبدل أبجديتها العربية باللاتينية. وهذا المثال الذي حدث في تركيا جعل الكثيرين من العرب، المتمسّكين بدينهم الإسلامي، يعتقدون أنَّ الحديث عن القومية العربية يعني التخلّي أيضًا عن دينهم، قياسًا على التجربة القومية التركية في مطلع القرن العشرين، بينما الأمر يختلف من حيث خصوصية العلاقة بين العروبة والرسالة الإسلامية، فهي مسألة خاصّة بالعرب لا تشترك معهم فيها أيّة قومية أخرى في العالم الإسلامي. فالعربية هي لغة القرآن الكريم، والثقافة العربية هي التي انتشرت من خلالها الدعوة الإسلامية في العالم.
وكما صحَّ القول المعروف: “كم من الجرائم تُرتكب باسمك أيّتها الحرّية”، فإنّ جرائم عديدة حصلت وتُرتكب باسم “الهويّة” الوطنية أو العربية أو حتّى الدين نفسه… لكن، هل أدّت الجرائم باسم “الحرّية” إلى التخلّي عن هذا الهدف النبيل والمطلب المشروع لكلِّ فردٍ وجماعة وأمَّة..؟!.
لقد كانت “الهُويّة العربية” تعني – وما تزال- القناعة بأنّ العرب أمَّةٌ واحدة تتألّف الآن من أقطار متعدّدة، لكنها تشكّل فيما بينها امتدادًا جغرافيًّا وثقافيًّا وحضاريًّا واحدًا، وتتكامل فيها الموارد والطاقات البشرية والمادّية. والمتضرّرون من تثبيت وتفعيل هذه “الهُويّة” هم حتمًا من غير العرب، الذين في الماضي، كما هم في الحاضر، يمنعون توحّد شعوب الأمَّة العربية؛ حفاظًا على مصالحهم في المنطقة، وعلى مستقبل استنزافهم لثرواتها.
لكن دور الدين في الحياة العربية هو سيفٌ بحدّين، حيث من المهمّ التمييز بين ما في الإسلام وكل الرسالات السماوية من قيم ومبادئ هامّة جدًّا، في كلّ زمانٍ ومكان، للإنسان الفرد وللجماعة، وبين أمور ترتبط بكيفيّة المعاملات والعبادات، والتي تختلف الاجتهادات حولها حتّى داخل المذهب الواحد، فكيف مع مذاهب وطوائف أخرى؟! لذلك يُصبح الحديث عن المجتمعات المدنية الحديثة الناجحة متلازمًا مع مسألة التمييز بين الدين والدولة، وبين أهمّية دور الدين في المجتمع وبين عدم جواز تدخّل “رجال الدين” في قضايا الحكم وسنّ الدساتير والقوانين، والتي عليها حتمًا أن تسترشد بالقيم والمبادئ الدينية والإنسانية المشتركة.
إنّ المنطقة العربية هي مهد كل الرسالات السماوية والأنبياء ومواقع الحجّ الديني، وبالتّالي فإنّ تغييب أو تهميش دور الدين فيها هو مسألة مستحيلة عمليًّا. وفصل الدين عن المجتمع لم يحصل في أيّ أمّة إلا بفعل القوّة (مثال تجارب الأنظمة الشيوعية). أمّا فصل الدين عن الدولة أو الحكم في الأنظمة الغربية فكان نسبيًّا، فهو في فرنسا فصلٌ كامل في السلوك السياسي والشخصي، وهو في أميركا فصلٌ فقط بقضايا الحكم.. وهو يختلف في بريطانيا عن النموذجين الفرنسي والأميركي..
لكن العِلمانية وحدها لم تكن العصا السحرية التي بنت أوروبا وأميركا في العصر الحديث، ولم تكفِ العِلمانية والديمقراطية وحدهما، في كلّ بلدٍ أوروبي، لتحقيق التقدّم والبناء الاقتصادي والاجتماعي، لذلك كانت الحاجة إلى الاتّحاد والتكامل مع الآخرين الأوروبيين (الاتّحاد الأوروبي). كذلك الأمر في النموذج الأميركي، حيث تعجز أيّة ولاية أميركية عن بناء تقدّمها الاقتصادي والاجتماعي، بمعزلٍ عن الولايات الأخرى.
وهذه دروس مهمّة للعرب إذا كانوا فعلًا يطمحون إلى بناء مستقبل عربي أفضل.
ونجد بعض الإعلام العربي يوزّع الحركات السياسية العربية إلى مجموعتين” “إسلامي” أو “عِلماني” دون إدراكٍ أنّ هذه التسميات لا تُعبّر فعلًا عن واقع وعقائد كل الحركات والتيّارات الفكرية العربية. ولا يجوز أصلًا اعتماد تسمياتٍ تجعل من الآخر في موقع الضدّ لها. فهل غير المنتمي لحركةٍ سياسيةٍ تحمل صفةً دينية يعني أنّه غير مؤمن أو مسلم أو على تناقضٍ مع الدين نفسه؟! وهل من هو منتمٍ لتيّارٍ سياسي ديني يعني أنّه رافض للحرّيات وللمجتمعات المدنية التي يدعو لها أصحاب الفكر المدني أو “العِلماني”؟!
إنّ قضايا التحرّر والهُويّة القومية والعدالة الاجتماعية ومقاومة الاحتلال ومحاربة الظلم أينما كان وكيفما كان، هي كلّها قضايا إنسانية عامّة لا ترتبط بمنهجٍ فكريٍّ محدّد. فلا الدين يتعارض مع هذه القضايا ولا الابتعاد عنه يعني تخلّيًّا عنها. وهناك أمثلة عديدة عن مجتمعات كافحت من أجل هذه القضايا لكن اختلفت دوافعها الفكرية ونظرتها لدور الدين في الحياة.
سيرياهوم نيوز 4_راي اليوم