غادة حداد
بعد عام 2000، عملت الحركة الصهيونية على تغيير صورتها، بسبب النقمة عليها بعد انتفاضة الـ 2000، وما رافقها من جرائم إسرائيلية بحق الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وأدت إلى تراجع الدعم الدولي، وخصوصاً الأوروبي، إذ أصبحت الروايات الفلسطينية أكثر تأثيراً في النقاشات السياسية وحقوق الإنسان. من هنا قرّرت العمل على تجميل صورتها أمام المجتمع الدولي من بوّابة… البيكيني!
بعد اهتزاز صورتها في العالم، بفعل الاحتلال والقتل والتهجير، اتجهت الصهيونية إلى أساليب جديدة للترويج لنفسها، عبر الإغراء الجنسي في ما يُعرف بـ «ديبلوماسية البيكيني». من هنا انطلق فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي، من إنتاج حساب uncivilized بعنوان «كيف تستخدم إسرائيل الجنس لتروّج للصهيونية».حلل الفيديو جوانب عدة من إعادة تعريف العلامة التجارية للصهيونية أو تغييرها، عبر خلق نمط جديد لها قائم على النساء المثيرات والمتحررات في مناطق السياحة والسهر والاحتفال. كما تظهر المجندات بطرق مثيرة ولافتة، مردّدات الخطاب المنتشر على مواقع التواصل حول girl boss، الذي يقوم على تعزيز قوة النساء لأنهن فقط نساء، وأنهن قادرات على فرض وجودهن وسلطتهن في عالم تسوده سلطة الرجال.
محاولات لإعادة إنتاج صورة الصهيوني ليست جديدة، بدأت مع بدء الحركة الصهيونية. حين كان ديفيد غرون يبلغ 14 عاماً، أسّس «حاخامات بلونسك» في أوكرانيا، وهي مجموعة صهيونية كانت تقدم دروساً في اللغة العبرية، وتجمع المال لضحايا المذابح، وتشجّع على الهجرة إلى فلسطين، ما أثار غضب الزعماء اليهود المحليين.
وفي خضم النظرة إلى الصهيونية على أنها إهانة لله، منع حاخامات بلونسك المصلين في الكنيس من الزواج من أسر صهيونية. لكن غرون استمر في ذلك، ما أغضب الحاخامات و«اتحاد العمل اليهودي» (حزب سياسي من الاشتراكيين، ومناهضي الصهيونية). استمر هذا الصراع الأيديولوجي، وعزز مكانة غرون، ليغير اسمه، بعد تسع سنوات من تأسيس منظمته، إلى بن غوريون. يومها، كان ثيودور هرتزل ينشر روايات وينظم مؤتمرات حول الصهيونية، ويجمع الأموال من الأثرياء اليهود، ليعزّز النفس الصهيوني بين اليهود.
بعدها، انتقل بن غوريون إلى فلسطين، ووضع أسس الاقتصاد والحكومة والجيش الإسرائيلي، وبعد وقتٍ قليل، مات هرتزل. يومها كانت صورة الصهيوني بأنّه قويّ ومقاتل، في محاولة لتغيير صورة اليهودي في الغيتو، التي روّجت لها الآلة الدعائية النازية، التي صوّرتهم بطريقة مشوهة على أنهم طفيليون، وجشعون، ومخادعون، مع التأكيد على أنهم يتحكمون بالمال والسياسة العالمية. اعتمدت الدعاية النازية على الرسوم الكاريكاتورية لتشويه صورة اليهود، وجعلهم يظهرون كأشخاص ذوي ملامح جسدية مبالغ فيها، مثل الأنف الطويل والوجه الغليظ. كما اعتمدت على الأفلام الدعائية النازية، وأشهرها فيلم «اليهودي الخالد»، الذي أخرجه جوزيف غوبلز عام 1940، وصوّر اليهود على أنهم مجموعة قذرة ومتخلّفة، واستخدم تقنيات سينمائية لتكريس الفكرة القائلة بأن اليهود كانوا يهددون ألمانيا والحضارة الأوروبية.
في محاولة لتغيير صورة الصهيونية، تأسّست «جمعية الشبان العبريين» عام 1874، التي أطلقت حركة مراكز الجالية اليهودية، والمؤسسات التعليمية مثل «المدرسة اللاهوتية اليهودية»، ومؤسسات إعلامية مثل صحيفة «العبرية» الأميركية عام 1879، والأعمال العلمية الموجزة مثل «الموسوعة اليهودية» عام 1901-1906، والمجتمعات العلمية مثل «الجمعية التاريخية اليهودية الأميركية» عام 1892، كأول أرشيف عرقي في الولايات المتحدة.
بعد عام 2000، عملت الحركة الصهيونية على تغيير صورتها، بسبب النقمة عليها بعد انتفاضة عام 2000، وما رافقها من جرائم إسرائيلية بحق الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وأدت إلى تراجع الدعم الدولي، وخصوصاً الأوروبي، إذ أصبحت الروايات الفلسطينية أكثر تأثيراً في النقاشات السياسية وحقوق الإنسان. من هنا قررت الصهيونية العمل على تجميل صورتها، أمام المجتمع الدولي. كما كان لحركة المقاطعة دور كبير كأداة ضغط دولي على إسرائيل لإنهاء الاحتلال والاستيطان.
وحاولت الحركة الصهيونية بعد عام 2000، تأطير الرواية التاريخية حول الاحتلال، مركزةً على سردية تعتبر بأنّ الفلسطينيين رفضوا مراراً العروض السلمية، وأن القيادة الفلسطينية مسؤولة عن استمرار الاحتلال، وكان جهدهم مركّزاً على فصل «الصهيونية» عن مفاهيم الاستعمار أو التمييز العرقي، وتقديمها كحركة تحرر وطني للشعب اليهودي في سياق عالمي يدعم حق تقرير المصير. تركز العمل على تصوير إسرائيل كدولة متقدّمة، تدعم حقوق مجتمع الميم وحقوق النساء، والحريات الفردية، إضافةً إلى تقديمها في إطار مثير، بناءً على «ديبلوماسية البيكيني». هذا المصطلح يستخدم لوصف الإستراتيجية الدعائية الإسرائيلية الهادفة إلى تحسين صورة إسرائيل دولياً، اعتماداً على مظاهر الجذب السياحي والثقافة الحديثة والليبرالية في الكيان، مع التركيز على الجوانب الجمالية والعصرية.
تختصر ديبلوماسية البيكيني الجهود الدعائية لتغيير النظرة العالمية إلى إسرائيل، والابتعاد عن التركيز الحصري على الصراع العربي ــ الإسرائيلي، وتعتمد على إبراز إسرائيل كدولة حديثة ومتقدمة، وخصوصاً في المجال التكنولوجي، والفن والثقافة والأزياء، واعتبرت الممثلة غال غادوت، وجهها الدعائي في الغرب. كما تركّز على نمط الحياة الليبرالي، من مشاهد السياحة على البحر، والحياة الليلية، بعيداً من صورة الحرب.
العنصر الأساسي في هذه الدعاية، هي المرأة الفلسطينية، وترسيخ النظرة الذكورية التي تشيّئ النساء. وفي هذا الإطار، استُخدمت المرأة الإسرائيلية كواجهة دعائية وروِّجت صورتها بصفتها امرأة قوية ومتحررة وجميلة ومثيرة. تركّز الدعاية الإسرائيلية على الشواطئ، وخصوصاً في تل أبيب (يافا) وإيلات (أم الرشراش)، وما يرافقها من أنشطة ترفيهية، وطبعاً العنصر الرئيسي هو النساء بالبيكيني وهن يدعون السياح إلى القدوم وزيارة الأراضي المحتلّة. أقيمت الحملات الدعائية السياحية الإسرائيلية عبر النساء بثياب السباحة، يرقصن ويحتفلن على الشواطئ، ويظهرن في صور أخرى في وضعيات جذابة، في محاولة لإبراز أسلوب الحياة العصري والمترف. كما تسعى إسرائيل إلى استضافة مسابقات جمال دولية، إذ استضافت فعاليات مسابقة ملكة جمال الكون عام 2021، واستخدم الحدث للترويج للكيان عالمياً عبر الصور والفعاليات المرتبطة بالجمال والأناقة.
ترويج لصورة إسرائيل ككيان قوي عسكرياً لكن «ليبرالي ومتحضّر»
تُستخدم النساء في أطر مختلفة، وخصوصاً في صفوف قوّات الاحتلال، إذ تُصوَّر المجنّدات وهن يرقصن بطريقة مثيرة، إما بشكلٍ عفويّ منهم، أو بشكل منظم على أنهن أيقونات للجاذبية الجنسية والقوة العسكرية، ما يسهم في تقديم صورة متناقضة تجمع بين الأنوثة والقدرة القتالية، ويخدم السياحة بطرق غير مباشرة، إذ يعزّز صورة إسرائيل ككيان قوي عسكرياً، لكن «ليبرالي ومتحضّر».
هذه المحاولات تتناقض مع خطاب آخر تحاول إسرائيل الترويج له في ما يتعلق بالحريات الفردية، وتصويرها على أنّها «الدولة الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط»، والداعمة لحقوق مجتمع الميم وتحرّر النساء، وقيم المساواة، في ما يعرف بـ «الغسيل الوردي» أو Pinkwashing، أي استغلال قضايا حقوق مجتمع الميم كأداة دعائية لتحسين صورة دولة أو مؤسسة أو منتج، مع تجاهل أو إخفاء انتهاكات حقوق الإنسان الأخرى. يُستخدم هذا المصطلح للإشارة إلى محاولات بعض الدول أو الشركات تقديم نفسها كداعم لحقوق المثليين والمتحولين جنسياً، مع تغطية سياسات أو ممارسات سلبية في مجالات أخرى. وفي السياق الإسرائيلي، الغسيل الوردي هو محاولات إسرائيل دعم حقوق المثليين والعابرين جنسياً لتحسين صورتها الدولية، وخصوصاً في ما يتعلق بالاحتلال والاستيطان والمجازر والتهجير، فتبرز تل أبيب (يافا) كمدينة ليبرالية وصديقة لمجتمع الميم، وتستضيف فعاليات مثل «مسيرة الفخر» (Pride Parade)، وتروّج لحقوق المثليين كجزء من صورتها كدولة متقدمة وديموقراطية.
كما أن تسليع المرأة يتناقض تماماً مع تحرّرها، ومع كل ما ناضلت ولا تزال تناضل من أجله الحركات النسوية، حتى الليبرالية منها. فالتسليع أحد أعنف أشكال القمع والتمييز المبطّنة التي تركز على أجساد النساء وتبقيهن أسرى نظرة المجتمع، وخصوصاً نظرة الرجال إليها. عبر عدسة استهلاكية، يسلب هذا التسليع المرأة حقّها بالنظر إلى نفسها بعينيها، ويقيّمها على أساس شكلها الخارجي فقط. وهذا يحوّل المرأة إلى أداة لجني المال والانتباه، ويجرّد المرأة من إنسانيتها لأغراضٍ تجارية، واختزالها إلى أداة جنسية تُستخدم لتلبية رغبات الآخرين، تحديداً الرجال. ومَن جرّد الفلسطينيين واللبنانيين إنسانيتهم ليبرّر قتلهم، لن يتوانى عن فعل الأمر عينه بـ «شعبه» ليبرر إجرامه.
وراء هذه المحاولات لتقديم إسرائيل على أنّها بقعة جميلة وآمنة للغرب، واقع تحاول الصهيونية طمسه، وتحديداً الاحتلال والاستيطان وتهجير الفلسطينيين. لكن كل هذه المحاولات سقطت منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، فمن يسهل عليه ارتكاب المجازر علناً، ثم تبريرها، لن يتمكّن من ادعاء الحرية والتقدم، وعليه باتت الصهيونية أمام مشروع جديد لإعادة تقديم صورة جديدة لتبرير الاحتلال. وربما بعدما استخدمت الرجال والنساء، ستلجأ إلى الأطفال، بعد قتلها أكثر من 43 ألف طفلٍ في غزة، فربما يكون الطفل الإسرائيلي يتمتع بصفات تميزه عن باقي الأطفال، ما سيجعل إسرائيل جنة الأطفال مستقبلياً.
سيرياهوم نيوز١_الأخبار