| وليد شرارة
تعليقاً على استئناف المناورات العسكرية المشتركة الأميركية – الكورية الجنوبية، والتي سبق أن جُمّدت خلال السنوات الـ 4 الماضية، رأت وزارة الخارجية الصينية أن واشنطن تُدير «دبلوماسية الزوارق الحربية» على أعتاب بلادها، في استعادة لتعبير كان يُستخدم لوصف السياسات العدوانية للقوى الاستعمارية ضدّ بلدان ما كان يُسمّى بـ«العالم الثالث»، وشعوبه. يأتي ذلك فيما يستمرّ التوتّر في التصاعد بين واشنطن وبكين، وأبرز مؤشّراته الجديدة تزايُد المناورات العسكرية التي يقوم بها الطرفان، ولكن في جوار الصين! فبالإضافة إلى تلك التي جرت بين بحريّتَي واشنطن وسيول، انطلقت منذ الأوّل من هذا الشهر تدريبات عسكرية مشتركة بالذخيرة الحيّة في أندونيسيا، ضمّت آلاف الجنود الأميركيين والأندونيسيين ومن دول حليفة، أُطلق عليها اسم «سوبر غارودا شيلد»، وغايتها، وفقاً لقائد القوات الأميركية لمنطقة المحيطَين الهندي والهادئ جون أكويلينو، تجنُّب «الأعمال المزعزعة للاستقرار من قِبَل جمهورية الصين الشعبية ضدّ تايوان». الصين، من جهتها، أجرت أضخم مناورات جوّية وبحرية تقوم بها حتى الآن في محيط تايوان، ردّاً على زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، للجزيرة، والتي تندرج من وُجهة نظر بكين في إطار توجُّه أميركي لتشجيع النزعة الانفصالية في تايبيه.
وعلى الرغم من أن اعتماد الولايات المتحدة «دبلوماسية الزوارق الحربية» مع الصين، بالتوازي مع احتدام مواجهتها مع روسيا على الساحة الأوكرانية، يثير استغراب العديد من المراقبين حيال وَجاهة مِثل هذا الخيار، فإن مراجعة الأولويات الاستراتيجية التي حدّدتها جميع الإدارات الأميركية المتتالية منذ عهد باراك أوباما الثاني، يزيل أسباب هذا الاستغراب. لقد عدّت هذه الإدارات، الصين، التهديد الاستراتيجي الشامل لريادة الولايات المتحدة، واعتبرت التصدّي لصعودها واحتواءها هدفاً رئيساً يتقدّم أيّ أهداف أخرى لدى صُنّاع القرار في العاصمة الإمبراطورية. وأعاد وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، التذكير بمركزية ذلك الهدف، عندما أعلن، في خطاب مهمّ ألقاه في الـ 26 من أيار الماضي في جامعة جورج تاون، أنه «حتى مع استمرار حرب الرئيس فلاديمير بوتين، سنُواصل التركيز على أخطر تحدٍّ طويل الأمد يواجه النظام الدولي، وهو التحدّي الذي تُمثّله جمهورية الصين الشعبية». «مُواصلة التركيز» تعني عملياً، وفي المقام الأوّل، تعزيز الانتشار العسكري الأميركي البحري، والبرّي إن أمكن، في جوار الصين، وإنشاء الأحلاف المُوجَّهة ضدّها، كـ«أوكوس» و«كواد»، في مسعى لفرض نوع من الحصار عليها. بالنسبة إلى واشنطن، تكتسب تايوان أهمية خاصة في إطار استراتيجية الحصار المُشار إليها، إضافة إلى تلك المتّصلة بموقع الجزيرة الجيو-اقتصادي لكونها منتِجاً رئيساً لأشباه الموصلات. أمّا بالنسبة إلى بكين، فإن إفشال سياسة الاحتواء مَنوط بقدرتها على منع توظيف «الجارة المتمرّدة» ضدّها، ناهيك عن هدف الصين الثابت والطويل الأمد المتمثّل في استعادة سيادتها عليها. مضيق تايوان سيشهد احتداماً لصراع الإرادات بين إمبراطورية تجْهد لتأبيد هيمنتها، وأمّة كبرى قديمة تتطلّع إلى استعادة وحدتها وهزْم مخطّطات إضعافها وإخضاعها مجدّداً.
مطالبة الصين باستعادة سيادتها على تايوان سابقة على ولادة صناعة أشباه الموصلات بعقود
كثيراً ما يقدَّم إصرار الصين على استعادة سيادتها على تايوان على أنه دليل على نياتها التوسُّعية والعدوانية، الرامية أساساً إلى وضع يدها على صناعة أشباه الموصلات الحيوية بالنسبة إلى تطوّرها التكنولوجي والاقتصادي. صحيح أن الجزيرة تحتلّ الموقع الأوّل كمنتِج للرقائق الإلكترونية، إذ تقوم أبرز شركاتها العاملة في هذا المجال، «TSMC»، بصناعة ما يوازي نسبة 52% من مجمل تلك المنتَجة عالمياً، غير أن مطالبة الصين باستعادة سيادتها على تايوان سابقة على ولادة الصناعة المذكورة بعقود، فهي لم تتوقّف منذ وصول الشيوعيين إلى السلطة في 1949، وكان احترام مبدأ «صين واحدة» من قِبَل الولايات المتحدة، مع ما يعنيه من امتناعها عن تشجيع أيّ نزعة انفصالية في الجزيرة، من بين مرتكزات التقارب بين واشنطن وبكين. تايوان، بوضعها الحالي، ما زالت تَرمز، من منظور الصين، إلى «قرن المَهانة» الذي امتدّ من أواسط القرن التاسع عشر إلى 1949، بسبب الحروب التي شنّها الغربيون واليابانيون عليها، وإخضاعها لهيمنتهم. استعادة الصين لوحدتها الترابية تعني طيّ صفحة هذه المرحلة المُظلمة التي عانى الشعب الصيني من مراراتها. غير أن اعتبارات استراتيجية، إضافة إلى تلك الرمزية، تُفسّر حزم بكين بشأن تايوان.