يحيى دبوق
توغّلت القوات الإسرائيلية، للمرّة الأولى منذ بدء الحرب، في المنطقة الوسطى لقطاع غزة، وتحديداً في دير البلح، في عملية عسكرية استبقتها بقصف مدفعي وجوّي مكثّف، وهدّدت بتوسيعها نحو مخيّم المدينة، علماً أنّ الأخير واحد من المعاقل الرئيسة التي لا تزال بعيدة من السيطرة الإسرائيلية المباشرة. ويرتبط هذا التصعيد بحسابات سياسية على الأغلب، على رأسها الرهان الإسرائيلي على القوّة كوسيلة وحيدة للضغط على حركة «حماس»، رغم ثبوت عقم هذه الإستراتيجية مراراً. إذ تأمل إسرائيل في أن يشكّل الهجوم الأحدث رافعة ضغط جديدة على الطرف الفلسطيني، في ظلّ جمود المسار التفاوضي، خلافاً لِما كانت تأمله واشنطن وتل أبيب.
كذلك، تأتي العملية الإسرائيلية في دير البلح، في ظلّ تصاعد الضغوط الداخلية على الحكومة الإسرائيلية ورئيسها بنيامين نتنياهو، لإظهار «فاعلية» في استرجاع المحتجزين عبر التفاوض. كما أنّ ثمة عاملاً جديداً بدأ يفرض نفسه على صنّاع القرار في تل أبيب، مردّه الحسابات الانتخابية التي يحاول نتنياهو استغلالها لتعزيز موقعه السياسي داخليّاً، مع تعزّز احتمالات التوجّه إلى انتخابات مبكرة.
أمّا في العمق، فتبقى الحقيقة كما هي: إسرائيل تكرّر إستراتيجية التصعيد العسكري، رغم فشلها المتكرّر، ليس لأنها تؤمن بفاعليتها، بل لأنها لا تملتك بديلاً آخر؛ ولذا، يُراهَن على القوّة كحلّ مؤقّت، من دون أيّ حلّ إستراتيجي حقيقي للصراع. لكن، لماذا دير البلح؟ ولماذا الآن؟
لم تأتِ العملية العسكرية الحالية من فراغ، بل هي تُعدّ جزءاً من حسابات أوسع تتجاوز الهدف العسكري المباشر، رغم أهمية السيطرة على هذه المنطقة؛ فمع مرور 650 يوماً على الحرب، لم تتمكّن إسرائيل من إخضاع «حماس» أو تفكيك بنيتها العسكرية بشكل كامل، في حين يمثّل الدخول إلى دير البلح، والتهديد بالسيطرة على مخيّمها في المرحلة المقبلة، محاولةً لإظهار أنّ تل أبيب لا تزال قادرة على التحرّك والسيطرة على مناطق جديدة، حتى في المراحل المتأخّرة من الحرب، فضلاً عن ضرب واحد من آخر المعاقل التي تسيطر عليها الحركة.
كذلك، تريد إسرائيل أن تُظهر للحركة أنّ الخيار العسكري لا يزال مفتوحاً ويمكن الرهان عليه، وأنها مستعدّة لتحمّل أثمانه، حتى وإنْ تسبّب بقتل الأسرى؛ علماً أنّ دير البلح لم تشهد عمليات عسكرية واسعة سابقاً، على عكس مناطق من مثل خانيونس (جنوب) أو جباليا (شمال)، فيما ترجّح الاستخبارات الإسرائيلية احتمال وجود الأسرى فيها.
أيضاً، تُستخدم العملية كأداة سياسية داخلية، لتعزيز موقف نتنياهو أمام الرأي العام الإسرائيلي، الذي يطالب باستعادة المحتجزين؛ وفي الوقت نفسه أمام اليمين المتطرّف في حكومته، الذي يضغط لرفض أيّ تسوية تُفسّر على أنها «تنازل». أمّا الرهان على القوّة، فيُظهر للداخل الإسرائيلي أنّ الحكومة لا تزال تتحرّك عسكريّاً ولا تستسلم للضغوط، وهي رسالة موجّهة تحديداً إلى الجمهور اليميني الذي يطالب بمواصلة الحرب.
وإلى جانب ما تقدّم، تسعى إسرائيل للتماشي مع الرغبة الأميركية الحالية في تحقيق اختراق سياسي في الملفّ الغزّي، حتى لو تطلّب ذلك تصعيداً ميدانياً مسبقاً. فالإدارة الأميركية تضغط على «حماس» للتوصّل إلى اتفاق تبادل يُعيد جزءاً من الأسرى الإسرائيليين، لكنها في الوقت نفسه لا تمارس ضغوطاً حقيقية أو ملموسة على إسرائيل لحملها على تقديم تنازلات، وهي تتّفق معها على دفع الحركة إلى التراجع عبر الضغط الميداني، تمهيداً لفرض تسوية من موقع قوّة.
وهكذا، فإنّ العملية العسكرية الإسرائيلية في دير البلح، ليست مجرّد تمدُّد عسكري إضافي في القطاع، بل هي جزء من إستراتيجية أوسع تجمع بين الحسابات الميدانية والسياسية والشخصية والعوامل الدولية الضاغطة. وتحاول إسرائيل، عبر هذه الخطوة، أن تُظهر أنها تتحكّم في زمام المبادرة، خاصة مع ما تسمّيه «تعنّت» «حماس»؛ كما تريد أن تثبت أنها قادرة على فرض تسوية من موقع قوّة، حتى لو استمرّت الحرب، المتّجهة إلى دخول عامها الثالث.
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار