| محمد عبدالله فضل الله
قلّما يجمع شاعرٌ في ذاته ما بين عشق الموت وعشق الحياة حتى لتكاد هذه الثنائية المتناقضة ديدناً ينسحب على أشعاره الرقيقة، هو أبو محمد عبد السلام بن رغبان الحمصي المشهور بـ «ديك الجن الحمصي» (777 ــــ 850) من شعراء العربية المقدمين ومن فحول شعراء العصر العباسي الأول، عاش في بيئة خصبة أنتجت حضارة غنية على المستويات كافة ومنها اللغوية والأدبية بكل تخصصاتها.
ولا ندري إن كان لون العينين سبباً وجيهاً لإطلاق لقب «ديك الجن» الذي غلب عليه على ما يقوله خير الدين الزركلي: «إنما سمي بذلك لأن عينيه كانتا خضراوين» (الأعلام للزركلي، دار العلم للملايين بيروت ــ ط4 ــــ 1979).
فسحت بعض أحداث حياته المجال لتأويلات الأسطرة والخيال بوجه خاص ما يتعلق بحبّه لجارية له نصرانية تسمى ورداً، ثم دعاها إلى الإسلام فأسلمت، وقد ملكت لبّه وقلبه وحصل أن قتلها بالسيف مع غلام له بعدما سمع ما يقال عنها من خيانة له، ثم علم لاحقاً ببراءتها وبأنه كانت هناك مكيدة دبّرها ابن عم له يبغضه، وما يستدعي الغرابة ــ إن كانت هذه الحادثة ممكنة في ذاتها ـــ ما روي من قتله لزوجته ولغلامه وإحراقهما ووضع رمادهما في زجاجة. وكلما اشتاق لهما نظم شعراً ومن أروع قصائده في ما ورد:
«انظرْ إلى شمس القصور وبدرها
وإلى خزاماها وبهجة زهرها
لم تبكِ عينكَ أبيض في أسود
جمَع الجمال كوجهها في شعرها
وتمايلتْ فضحكتُ من أردافها
عجباً ولكني بكيت لخصرها»
ثم سكنه شعور المرارة والغم الشديد، وهو ما جسّدته مقطوعاته منها:
«أيها القلب لا تعُد لهوى البيض ثانية
ليس برقٌ يكون أخْلبَ من برقِ غانية
خنتِ سرّي ولم أخنكِ فموتي علانية»
«يا طلعة طلَع الحِمَام عليها
وجنى لها ثمرَ الردى بيديها
أجريتُ سيفي في مجال خناقها
ومدامعي تجري على خدّيها
روّيتُ من دمها الثرى ولطالما
روّى الهوى شفتي من شفتيها
فوَحقّ نعليها وما وطئ الحصى
شيء أعزّ علي من نعليْها»..
في قصائد أخرى، جهر بحبه لآل النبي وأبدى كل عاطفة وارتباط بهم. قال عنه أبو الفرج الأصفهاني في «الأغاني» (ج14 ــــ ص51): «كان شاعراً مجيداً على مذهب أبي تمام والشاميين شديد التشيّع»، الأمر الذي ربما جعل من أشعاره في هذا المضمار مهمّشة لم تجر الإضاءة عليها وعلى تاريخه وشخصيته بوجه عام في فضاء التناول العام. وباعتقادي هنا أنه لا ينبغي بأي حال من الأحوال إدخال الحسابات المذهبية والطائفية في عملية إحياء تراث الأعلام من الشعراء والأدباء من السنة والشيعة وغيرهم، فهذه جريمة موصوفة، بل أن يكون العمل مكرساً لجهة التركيز على الإبداعات والإسهامات التي تركها هؤلاء لأنها ملك للإنسانية لا لجماعة بعينها:
«أصبحتُ ملقى في الفراشِ سقيما
ماءٌ من العبراتِ حرّى أرضه
لو كان من مطرٍ لكان هزيما
وبلابل لو أنهنَّ مآكل
لم تُخطئ الغسلينَ والزقوما
وكرى يرى عنّي سرى لو أنه
ظِلٌ لكانَ الحرَّ واليحموما
مرّت بقلبي ذكرياتُ بني الهدى
فنسيتُ منها الروحَ والتهويما
ونظرتُ سبطَ محمدٍ في كربلا
فرداً يعاني حزنَه المكظوما»
نظم أيضاً في الإمام علي يعبّر فيه عن عاطفته وصدق تعلقه بهذه الشخصية الإسلامية والإنسانية:
«يا سيدَ الأوصياءِ والعالي
الحجة والمرتضى وذا الرتبِ
إن يسر جيشُ الهمومِ منكَ
إلى شمسِ منى والمقامِ والحجبِ
فربما تقْعَصُ الكماةُ بإقدامك
وربَّ مقورّةٍ ململمةٍ
في عارضٍ للحمامِ منسكبِ
فللت أرجاءها وجحفلها
بذي صقالٍ كوامضِ الشهبِ
أو أسمر الصدر أصفر أزرق
الرأس وإن كان أحمر الحلبِ
أودى عليٌ صلى على روحه
الله صلاة طويلة الدأبِ»
في شعره دلالة واضحة على سعة ثقافته واطلاعه، حيث التمكّن من اللغة والإحاطة بمفرداتها مع فصاحة عالية، وهو ما دفع بشعراء من طراز أبي نواس إلى زيارته وتبادل الحديث معه وكذلك حبيب بن أوس (أبو تمام) الذي أخذ عنه وكان يعرض عليه شعره وكذلك فعل دعبل الخزاعي.
من خصائص شعره الأساسية الوزن الشعري الذي تنبعث منه لذة الطرب وخلق الاهتزاز الداخلي عبر شدّ الأسماع في توالي السكنات والحركات بالنسبة إليه وإلى المتلقي. إذ أوجد تواصلاً دقيقاً بين الداخل والخارج، فلا ننس أن الوزن من أعمدة البناء الشعري العام يعكس نفسانية الشاعر بقلقها وهدوئها وفي تمردها وسكونها وفي تقلبها واطمئنانها، في غضبها وتوددها وفي رغبتها ورهبتها. فالإيقاع الشعري له وقع خاص في النفس يكشف لحظاتها الباطنية ويعرّي تشابكاتها الداخلية وتفاعلاتها الخارجية. من هنا نجد أن البحر الكامل قد تصدر قائمة البحور الشعرية عنده، إذ إنّ أوزان هذا البحر الصافية المرنة منحته مساحة كافية للتعبير عن مكنوناته بجمل شعرية طويلة، وكان بحق مستوعباً للموسيقى الشعرية وممتلكاً لأدواتها.
«للوَرْدِ حُسْنٌ وإِشْراقٌ إذا نَظَرَتْ
إليهِ عَيْنُ مُحِبٍّ هاجَهُ الطّرَبُ
خافَ الملالَ إذا دامتْ إقامَتُهُ
فصارَ يَظْهرُ حيناً ثُمَّ يَحْتَجِبُ
حَبِيبي مُقيمٌ على نائِهِ
وقَلْبي مُقيمٌ على رائِهِ
سَأصْبِرُ عَنْكَ وأَعصي الهَوَى
إذا صَبَرَ الحوتُ عن مائِهِ
وكأسِ صَهْباءَ صِرْفٍ ما سَرَتْ بِيَدٍ
إلى فَمٍ ما طَعْمُ ضَرَّاءِ
كأنَّ مِشْيَتَها في جِسْمِ شَارِبِها
تَمَشِّيَ الصُّبْحِ في أَحْشَاءِ ظَلْماءِ
إذا نَزَحَتْ دارٌ وخَفَّ قَطينُ
إذا ذكروا عَهْدَ الشّآمِ اسْتَعادَني
إلى مَنْ بأَكْنافِ الشّآمِ حَنينُ
ليسَ ذَا الدَّمْعُ دَمْعَ عَيْني ولكنْ
هيَ نَفْسِي تُذِيبُها أَنْفَاسِي
قُلْ لهَضِيمِ الكَشْحِ مَيّاسِ
اِنْتَقَضَ العَهْدُ مِنَ النّاسِ
يا طَلْعَةَ الآسِ التي لَمْ تَمِدْ
إلا أَذَلّتْ قُضُبَ الآسِ
وَثِقْتَ بالكَأْسِ وشُرَّابِها
وحَتْفُ أَمْثالِكَ في الكاسِ..
هيَ اللّيالي ولها دَوْلَةٌ
وَوَحْشَةٌ مِنْ بَعْدِ إِيناسِ
والبَيْنُ يُبْعِدُ بينَ الرُّوحِ والجسَدِ
وَدَاعَ صَبّيْنِ لَمْ يُمْكِنْ وَدَاعهما
إِلا بلَحْظَةِ عَيْنٍ أَوْ بَنانِ يَدِ
وَدَّعْتُها لِفِراقٍ فاشْتَكَتْ كَبِدِي
إِذْ شَبّكَتْ يَدَها مِنْ لَوْعَةٍ بِيَدِي
وحاذَرَتْ أَعْيُنَ الواشِينَ فانْصَرَفَتْ
تَعَضُّ مِنْ غَيْظِها العُنّابَ بالبَرَدِ
باعتقادي فإن إعادة قراءة نتاج الأعلام من الشعراء وغيرهم بالمستوى الذي ينفض الغبار عن عطاءاتهم وبصماتهم في المسيرة الثقافية والحضارية والاهتمام بنشر هذه العطاءات وتحقيقها ضروري بغية تأصيل هوية أجيالنا التي تعيش زمن الضمور المعرفي وغيره وفي وقت أخذتها الضوضاء الثقافية وغيرها بشكلها ومظهرها المادي الفارغ والمميت، في حين أنّ التراث الأدبي والفلسفي والثقافي العربي والإسلامي ينتظر من يكتشف ما فيه من جماليات، تسبقنا إلى اكتشاف بعضه دراسات وجامعات غربية ويغيب عن واقعنا باحثون من الطراز الذي تتوق إليه الأنفس.