د. عبد الحميد فجر سلوم
**
لو مررنا بِسُرعة على التاريخ القديم، والحديث، في منطقتنا، فسنجدُ أن بلاد الشام (أو سورية التاريخية أو سورية الطبيعية) هي: سورية ولبنان وفلسطين والأردن، والأراضي التي ضُمّتْ إلى تركيا إبان الانتداب الفرنسي.. وهناك من يُضيف المناطق الحدودية المجاورة لِبلاد الشام كما منطقة الجوف ومنطقة تبوك في المملكة العربية السعودية، وقسما من الموصل في العراق، وقسما من سيناء.. بل هناك من يعتبر قبرص وكل سيناء وكل الجزيرة الفراتية، هي جزءٌ من بلاد الشام..
**
أقدمُ مدن بالعالم هي شامية، ومنها دمشق وحلب وصُور.. الخ..
ومن ينكُرون على العرب وجودهم منذ القِدم في بلاد الشام، فعليهم تصحيح معلوماتهم التاريخية.. العرب لم يأتوا مع الإسلام وإنما سبقوا ذلك بأكثر من ثلاثة آلاف عام.. مِن خلال الهجرات القديمة من الجزيرة العربية..
وهناك فرقا بين بداية تاريخ العرب، وبين ظهور العرب كعِرق أو قوم..
فمنذُ الألف الثالث قبل الميلاد، هاجرت مجموعات من الشعوب السامية إلى بلاد الشام، على فترات متعاقبة، وكان من أولها العمُّوريون (وهُم عرَبا).. وهؤلاء أسّسوا مجموعة ممالِك كما ماري وإيبلا..
ثمّ كان الكنعانيون (وهُم عربا) الذين استوطنوا فلسطين وسواحل بلاد الشام، وكانت بلادهم تُسمّى أرض كنعان.. وفي قصص الأنبياء، فحينما نجا النبي إبراهيم من الموت حرقا على يد بني قومهِ الذين حطّم لهم آلهتهم من الأصنام، قال سوف أُهاجرُ إلى أرض كنعان.. وهاجرَ برفقةِ زوجتهِ سارة، وابن أخيه لوط..
يعني هي أرضُ كنعان، أرض العرب قبل أن تطأها رِجُل أي عبراني من بني إسرائيل..
**
بنَى الكنعانيون الممالك، وكان أهمها أوغاريت.. التي قدّمت للبشرية أول أبجدية قبل 1500 من الميلاد.. وكانت أقدم من الأبجديات العبرية واليونانية واللاتينية..
ومن الكنعانيين انحدر اليبوسيين، الذين أسّسوا مدينة القدس.. كما انحدر الفينيقيين الذين سكنوا سواحل بلاد الشام، لاسيما لُبنان.. وكانوا أول من صنعَ السفُن.. وأسّسوا مُدنا عدّة على سواحل المتوسط، أشهرها قُرطاج.. وأسسوا مستعمرات في حوض المتوسط في قبرص ورودوس وكريت وقرطاجنّة (جنوب شرق اسبانيا)..
ولكن تعرّضوا إلى غزوات الآشوريين الذين استولوا على ديارِهم، وقضوا على ازدهارهم وأخضعوهم..
ثمّ مع نهاية القرن الثامن قبل الميلاد ضعُف الآشوريون فقام البابليون بالقضاء على دولتهم وتأسيس دولة قوية في بلاد ما بين النهرين..
ثم أنهى الإخمينيون الفُرس حُكم البابليين، وخضع الفينيقيون بدورهم لهم، وساندوهم في حروبهم ضد الإغريق…
**
بعد العموريين والكنعانيين كان الآراميين (ومَن اعتنق منهم المسيحية أصبحوا يُعرفون بالسريان)، ومِن أعظم ممالكِهم، مملكة آرام دمشق..
ولذا كانت بلاد الشام منذُ القِدم، ساحة للحروب والمعارك بين الإمبراطوريات الكُبرى المُتنافِسة.. (ويبدو أن التاريخ يعيدُ نفسهُ) ولكن بطريقةٍ أخرى..
**
ومع الألف الأول قبل الميلاد، بدأت أقوام جديدة تستوطن بلاد الشام، منها العبرانيون.. ومنهم (الفيليست) وهُم قومية هاجرت من جزيرة كريت وشواطئ بحر إيجة، ومنهم اشتقّ اسم فلسطين..
**
إذا في 538 قبل الميلاد غزا الملك الفارسي “قورش” الكبير، الشرق الأدنى واستولى على بلاد الشام والرافدين، وأسّس الإمبراطورية الإخمينية.. إلى أن جاء الإسكندر المكدوني فاستولى على الإمبراطورية الفارسية الإخمينية، في 332 قبل الميلاد، وحكموا بلاد الشام حتى القرن الأول قبل الميلاد..
وظهرت مملكة الأنباط العرب(أحفاد نبط أونبت بن إسماعيل) من 169 قبل الميلاد إلى 106 ميلادي، فهزموا الحُكم المقدوني وأسّسوا مدينة البتراء بالأردن..
ثم خضعت بلاد الشام لحُكم الرومان، قبل 64 من الميلاد..
وبعد ولادة السيد المسيح في بيت لحم، انتشرت المسيحية، وكانت أنطاكيا مركز الدعوة ومركز الكنيسة الشرقية..
**
وفي القرن الثالث من الميلاد ظهرت مملكة تدمر العربية، وثارت على الحُكم الروماني، في عهد زنوبيا، وتوسعت حتى شمال شرق جزيرة العرب، وإلى مصر، وانتزعتها من يد الرومان..
ولكن بِمَوت زنوبيا انهارت المملكة واستعاد الرومان البُلدان التي انتزعتها منهم مملكة تدمر..
وقصّة موت زنوبيا بتناوُل السُم الذي كان بخاتمها، حتى لا تقع أسيرة بيد أعدائها، قصة معروفة، إذ حينما أدركت أن عدوها عمرو بن عُدي تمكن من دخول القصر مع رجالهِ بِخدعةٍ انطَلت عليها، وأصبحَ موتها مُحتّما، تناولت السُم الذي كانت تحفظهُ بخَاتَم يدها، وقالت قولتها الشهيرة: بِيدي لا بيدِ بن عدي..
**
وفي العهد الروماني قامت أيضا مملكة الغساسنة، وكانت مُهادِنةً لهم، وخط الدفاع الأول ضد القبائل العربية.. وكانت في صراعٍ مع مملكة المناذرة، المُهادِنة للساسانيين الفُرس..
في القرن الرابع الميلادي انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى شرقية وغربية.. وعُرِفت الشرقية بالبيزنطية، وبقيت تحكمُ بلاد الشام حتى القرن السادس الميلادي، بعد الفتوحات الإسلامية..
وبدأت الصراعات بينهما إلى أن انتصر المسلمون في معركة اليرموك..
**
توسع انتشار العرب مع الخلافة الراشدية والأموية والعباسية كثيرا..
وبعد الخِلافة الراشدية، تأسست الدولة الأموية لمدة 91 سنة من 662 حتى 750 ميلادي.. أي من 41 وحتى 132 هجري..
وكانت عاصمتها دمشق، وبعد ذلك كانت الهجرات العربية الحديثة إلى بلاد الشام على قدمٍ وساق، وانسجموا مع من سبقوهُم، من الأجداد العرب.. وتوسعت الدولة الأموية حتى حدود الصين في الشرق، وحتى الأندلُس في الغرب.. ولكنها سقطت على يد دولة الخلافة العباسية، التي كان لها حُقبتين رئيستين، إحداهما في بغداد من 750م حتى سقوطها على يد المغول عام 1258م ، والحُقبة الثانية في القاهرة، وكانت خِلافة شكلية، إلى أن أنهاها العثمانيون عام 1516.. ونقلوا الخلافة إلى استنبول..
**
ثم كانت الدولة الفاطمية، التي انتزعها السلاجقة الأتراك، وبعدها جاءت الحملات الصليبية، في أواخر القرن 11 الميلادي، فانتزعوا القدس وأسّسوا مملكة بيت المقدس، إلى أن جاء عماد الدين الزنكي، فوحّد بلاد الشام، وقضى على الخلافة الفاطمية، بعد أن أرسلَ حملات على مصر بقيادة أسد الدين شيركوه وابنُ أخيهِ صلاح الدين، وهذا قضى على الدولة الفاطمية، التي كانت تمتد من المغرب العربي وحتى مصر وسورية وبلاد الحجاز واستمرت 270 عاما.. وأسّس الدولة الأيوبية، التي حكمت مصر وبلاد الشام 80 عاما، إلى أن جاءت الدولة المملوكية (وكانوا رقيقا عند الأيوبيين والعباسيين) واستمرت 267 عاما، من 1250م إلى 1517 م.. وتصدُّوا للمغول في عين جالوت عام 1260 م، ولكن سقطت دولتهم لاحقا على يد السُلطان العثماني سليم الأول، بعد انتصاره عليهم في معركة مرج دابق شمال سورية عام 1516.. وحكم هؤلاء 400 سنة، حتى الحرب العالمية الأولى وطردِهم من ديار العرب..
**
فقد وقف العرب بقيادة الشريف حسين، ملك الحجاز، مع بريطانيا ضد السلطنة العثمانية، وكانت الثورة العربية الكُبرى، بأملِ إقامة مملكة عربية كبرى تضمُّ جزيرة العرب وبلاد الشام والعراق.. إلا أنّ بريطانيا نكثت بوعدها، وكان هناك اتفاقا سريا مع فرنسا عام 1916 عُرِف باتفاقية سايكس بيكو، تقسّمت بموجبها ترِكة الدولة العثمانية بين فرنسا وبريطانيا.. فكانت سورية ولبنان تحت الاحتلال الفرنسي، وفلسطين والأردن والعراق تحت الاحتلال البريطاني..
**
خلال كل ذاك التاريخ، كانت “لبنان” جزءا من الأراضي السورية، ولم يظهر لبنان المستقل إلا في العصور الحديثة، قبل 80 عاما..
احتلّت فرنسا عام 1920 مُتصرفية جبل لبنان، كما كانت تُسمّى في زمن السلطنة العثمانية ومنذ عام 1861، أو لبنان الصغير، وكان منفصلا إداريا عن بلاد الشام.. ثم احتلّت بعدهُ سورية، وقامَ الجنرال غورو قائد القوات الفرنسية، برسمِ حدودٍ جديدة فأعلنَ قيام لبنان الكبير مُستقِلّا عن سورية، بعد أن فكَّ أربعة أقضية من سورية وضمّها إلى متصرفية جبل لبنان، وهي، بعلبك والبقاع وراشيا وحاصبيا..
وجاء الاستقلال، وبعدهُ الجلاء الفرنسي كاملا في عام 1946 عن سورية ولبنان.. ولكن بقيت الحدود التي رسمتها فرنسا وبقيت تلك الأقضية خارج سيادة الدولة السورية..
**
فإن كنّا سنأخذ بنظرية تصحيح التاريخ، فألا تنطبق هذه النظرية على الحالة السورية اللبنانية، على غرار الحالة الروسية الأوكرانية؟. بل ألا تنطبق على غالبية دول العالم التي تغيرت فيها الجغرافية عبر التاريخ؟.
سيرياهوم نيوز 6 – رأي اليوم