| مروان عبد العال
«نكتشف، أولاً ودائماً، أنه في عمق وعيه، كان يدرك أن الثقافة أصل من عدة أصول للسياسة، وأنه ما من مشروع سياسي دون مشروع ثقافي» (محمود درويش)
كنت قد كتبت مقالاً العام الفائت في ذكرى غسان كنفاني بعنوان «الكنفانية والجبهة الشعبية» نُشر في مدونة «مؤسسة الدراسات الفلسطينية». كان المقال عبارة عن استعادة الكنفانية من مدخل «الجبهة الشعبية» لمعرفة أوجه الصراع الفكري وتأثيره في البُنى التأسيسية التي أحدثت دوراً مغايراً في المجالين الحزبي والوطني، خصوصاً في زمن البدايات والانفعالات والانشقاقات والتصدّعات والتحولات التي تحدث عقب اشتداد الأزمات، والفشل في السيطرة على الأسئلة، فكان عبارةً عن محاولة لتبيان الصراع التنظيمي بين عقليتين ونموذجين متعارضين جذرياً، سيما أنّ النخب السياسية تستخدم الهوية التنظيمية، أو ما نسمّيه «التعصّب» في سبيل نصرة مصلحة ذاتية ضيقة على حساب الجماهير والمصلحة العامة، وأظهرتُ تحذير غسان كنفاني من خطورة «المزايدة» و«المناقصة» كما كان يسمّيها، وتحويل التنظيم من وسيلة للنضال إلى هدف، واستبدال الهوية الوطنية بالهوية التنظيمية. عندما نتناول عنواناً مكمّلاً حول الكنفانية والمسألة الثقافية، ودورها في تحرير الثقافة أو تحرير العقل، إنما هي محاولة لإلقاء الضوء على فلسفته التي هي وثيقة ميلاده الحقيقية وسجلّ خلوده في نقطة التقاطع الفردي والجماعي والثقافي والسياسي، فلسفة تحرير الثقافة من شكل آخر من الاحتلال، تحريرها من احتلال التبعية والتفاهة والتحجّر والتسطيح وسرقة الثقافة التي هي جوهر كل عملية استعمارية، والاحتلال الصهيوني لا يقوم باحتلال الأرض فقط، إنما بالسطو على الثقافة أيضاً.
فلسطيني مطارد في الأمكنة والأزمنة
هكذا نراه مبشّراً بالثورة ومثقفاً استثنائياً وبعين العدو كذلك، حيث يقول في كتاب أعدّه داني روبنشتاين: «لا شك في أنّ كنفاني من الناحية الثورية الأدبية كان روائياً قوياً ومبشّراً بالثورة الفلسطينية. إنّه استثنائي». هذا المثقف الاستثنائي مثّله غسان كنفاني صاحب التجربة التي «لم تكتمل»؛ بل اغتيل كي لا يكتمل. كان يكتب ويناضل ويرسم ويحرر مجلة وهو في حالة جريان، فلسطيني مطارد في الأمكنة والأزمنة، حتى إنّ هناك روايات وأعمالاً ودراسات ومشاريع لتوصيات واقتراحات كتبها غسان ولم تكتمل! أفكار لم تكتمل كأنها في حالة جدل، وجمل صاغها كأنها تنتهي بفاصلة وليس بنقطة كي تنهي الجملة!
وأكثر من ذلك، عمر غسان لم يكتمل! لم يرد الأعداء أن يكتمل، فقتلوه في عمر الـ 36 سنة. مع ذلك، أسّس لمرحلة عبر الأسئلة الحرجة في نصوصه ومقالاته النقدية ودراساته، لتشكل بداية أولية لاستراتيجية ثقافية للصراع.
إن إنتاج ثقافة تحررية لا تتم بمعزل عن حامل هذا الفكر، وهو المثقف المبدع، «المثقف» المنتج الذي لا يعتمد على البلاغة، كمحرك خارجي موقّت للمشاعر والعواطف، بل يعتمد على المشاركة الإيجابية في الحياة العملية كبانٍ ومنظّم لها. ومن هذا التصور للمثقف العضوي يخاطب غرامشي المثقفين بدعوتهم إلى الالتزام السياسي، فيقول: «لم يعد بالإمكان أن يتمحور نسق حياة «المثقف» الجديد حول الفصاحة والإثارة السطحية والآنية للمشاعر والأهواء. بل صار لزاماً عليه أن يشارك مباشرةً في الحياة العملية كبان ومنظّم مقنع دائماً». لذلك في تقديمه لأعمال غسان كنفاني الأدبية الكاملة، أشار محمود درويش إلى معضلة حرف العطف، «الواو»، الذي يفصل بين مفردتَي «الكاتب» و«المناضل» في تعريف كنفاني كمثقف مناضل أو المناضل المثقف، لأنه أبدع في منح السياسة بعداً ثقافياً جديداً ومغايراً، في القدرة على صياغة المفهوم الأعمق والأدق للعمل السياسي. لم يكن مجرد مثقف امتثالي مطيع يكتفي بالثرثرة في صالونات وقاعات المؤتمرات المدفوعة الكلفة والثمن، بل تمرّد على الثقافة المهزومة والمأجورة لصناديق الدول المانحة وبنوك التمويل الدولية وشيكات التسول لصناعة مفردات الترويض والتطبيع والتمييع. لذلك من يعرف غسان، يدرك أنّه لم يكن مجرد رئيس تحرير مجلة «الهدف»، مؤسسة ثقافية مقاتلة على كل الجبهات. رسم اللوحة والملصق وغلاف «الهدف» والافتتاحية. «الهدف» المجلة تحولت الى طاولة حوار ديمقراطي، منتدى ثقافي يستضيف أفكاراً وآراء ملتبسة واختلافات متنوعة، شارك فيها عرب وأجانب، ثوريون ومعارضون، شكّلت داخلها مؤسسة فنية لقسم السينما والمسرح و«فرقة الأرض» للفنون الشعبية والأغنية السياسية، وقسم البوستر السياسي، وخوض معارك ثقافية نقدية حيناً وساخرة أحياناً.
غسان طرح الأسئلة المبكرة لا من زاوية المثقف الطوباوي، بل من زاوية مثقف الثورة، المثقف المقاتل، كما حلّل فرانز فانون الجذر الثقافي للعلاقة بين الاستعمار والشعوب الواقعة تحت الاستعمار، وتلك الصراعات المدفونة في الذاكرة. في النهاية، يؤكّد «أن الاستعمار الثقافي لا يقل فتكاً عن الاستعمار التقليدي، وأنّ التحرر الثقافي لن يكون يوماً دون انعتاق المستعمر نفسياً من التبعية والشعور بالدونية للمستعمر»، كأنما نظريته تتحدث عن واقعنا العربي، لكن مشاعر الثقافة الأدنى والأعلى، «بشرة سوداء وأقنعة بيضاء»، العقدة بين وكيل للمستعمر يمارس دور الاستعمار، وفقدان الندية الثقافية للغرب… بين هذا الشكل الكلاسيكي للإمبرياليّة وبين تفكك النظام الاستعماري القديم، وولادة طور جديد من الإمبريالية، أصدر كتابه «معذبو الأرض» الذي شكّل «المانفيستو الثقافي الافريقي» وأوضح سياقات الاستعمار والرأسمالية التي تطور نفسها وتجدد أدواتها كما تبدل منتجاتها وسوقها وأنظمتها وكذلك حيلها وعملياتها وسماسرتها ومثقّفيها ومروّجيها في الخارج والداخل. لذلك، يخلق عالماً ثنائياً متناقضاً لا مصالحة بينهما. الحل بإزالة الاستعمار، والمثقفون الذين يتبنون العنف الثوري لفظياً، يشكلون طبقة معيقة، وتكون الأمة الثورية المتزامنة مع حرب العصابات ضد الاستعمار، وتصحيح الوعي الثقافي التحرري، ويدرك عندها المحتل إما أن يرحل أو يفنى لغير رجعة. هكذا يكون إشعال الثورات من الأسفل منعاً للتلاعب بها من النخب.
في مراجعته الجريئة للثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936 ضمن دراسته الشاملة لها، يفرد غسان قسماً عن الصراع الثقافي من خلال دور المثقف الثوري غير المنفصل عن التراث الثقافي للجماهير: «كان الصراع الثقافي بين الدعاة الثوريين والرجعيين في الريف، وبين الدعاة الثوريين والعدميين والرومنطيقيين في المدينة، يكسب كل يوم لمصلحة الثقافة الثورية. ألهبت هذه الثورة طليعة من شعراء النضال المسلح وجعلوه جزءاً من التراث الثقافي للجماهير، بالإضافة الى الدور اللافت الذي لعبته الصحف والمقالات الأدبية والقصص وحركة الترجمة. تلك الانطلاقات هي التي شكّلت المد الثقافي الثوري في الثلاثينيات، وعملت على تنمية الوعي وكانت سبباً في تفجير الثورة».
يعرف غسان أنّه صاحب براءة اختراع مصطلح «أدب المقاومة» استخدمه أول مرة في العالم، إذ ذكره للمرة الأولى في مقال له نشره عام 1966، ودافع عن مفهوم أدب المقاومة في أعماله كلها. كما أنجز دراسات لا تقل أهميةً عن رواياته، ومجموعاته القصصية أبرزها كتاب «في الأدب الصهيوني»، و«أدب المقاومة في فلسطين المحتلة» عام 1966، و«الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال» عام 1968. قد يكون الشكل متشابهاً كما يقول غسان بين روائييْن يستخدمان الموضوع التاريخي ذاته، لكن معادلة حق القوة وقوة الحق، ستظل رهناً للإجابة على سؤال كيفية الاستدلال على النص الحقيقي والنص المزيّف. لماذا يميل الصراع باتجاه هذه الجهة دون غيرها؟ ولماذا تنجح رواية أحدهما فيما تفشل الأخرى؟ لا بد من العودة الى الخلفية الفكرية، قوة ووعي وثورية الثقافة، العقل الذي يقف خلف الأدب، فهو ليس مجرد لغو، إنما هو خزانة قيم الأمة وتاريخها وتراثها. لذا يعتبر بعض النقاد أن الرواية التاريخية هي رواية إيديولوجيا؛ يعني أن الروائي قد يتدخل في نصه، من خلال شخوصه ومواقفهم، إلى درجة إلباسهم معاطف إيديولوجية ثقيلة، قد تبدو أكبر مقاساً من أجسادهم العادية، ولا تتناسب مع نمط هذه الشخصيات وبساطتها، فكيف يمكن لجم انفلات الإيديولوجيا كي لا تعيث بالنص خراباً، وتحمي النص الروائي من انتهاكه إيديولوجياً؟ هنا تكمن قوة السردية، لمانفيستو ثقافي أعلنت عنه حكاياته وكتاباته وأبطاله، تنتج ذاتها يومياً في سرديّات البطولة في كل فلسطين.
لذا، هو يفرق بين الإيديولوجيا المقفلة والإيديولوجيا كرؤية ثقافية شاملة للحياة وللمعتقدات وللخبرات الإنسانية ولبناء المجتمعات عن طريق إعادة تعريف هذا المفهوم من جديد، فالمسألة لا تتوقف عند أولئك المثقفين الذين حصلوا على تعليم عال وتخصصوا في العلم، بل لا يمكن للشهادات العلمية المجردة أن تجعل حاملها مثقفاً بالضرورة، بقدر ما تجعله مصاباً بمرض «التَّعالُم» كما أسماه مالك بن نبي. لكنه يشمل الذين انخرطوا بالممارسة الثقافية والاجتماعية النقدية وبوصفهم طليعة سياسية أو قوة تقدمية تحرريّة.
وكما قال عن أم سعد في إهدائه «أم سعد الشعب والمدرسة»، نبوءة غسان التي مجّدت المخيم والمرأة الفلسطينية عنوان الكدح والثورة والتضحية ورمزية الخيمة، أم سعد العظيمة «خيمة عن خيمة تفرق»، استشرف الوعي العظيم، للأم الفلسطينية، عندما شاهد أم سعد في مخيم برج البراجنة صارت تتزين بطلقة فارغة كحلية، حول رقبتها، بدل الحجاب «الحرز» الذي يحرسها من الشرور. ها هي تتجسد اليوم بأمهات أبطال عرين الأسود، مثل أم إبراهيم النابلسي التي تحمل نعش ابنها وتزغرد وتحمل بندقيته. وبالفرق بين خيام اللاجئ وخيام الثورة، خيام الجحيم وخيام الخلاص، خيام المنفى والغربة القريبة والبعيدة، والحبوس وخيمة الفدائي؛ مخيم جنين وكتيبة المقاومة التي تولد من تحت الركام، مثل دالية أم سعد، دالية العنب، رمز «التجدد الثوري». وكيف ننتصر على الهزيمة؟ من خلال الغصن الخشبي اليابس الذي غرسته في أرض مناسبة خصبة وتربة صحيحة، لينمو من جديد ويعربش إلى الأعلى وليبرعم ويثمر عنباً.
مخيم جنين وكتيبة المقاومة التي تولد من تحت الركام، مثل دالية أم سعد، دالية العنب
وفي «رجال في الشمس»، ما زالت صرخته المدوية تصم الأذن «لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟» وعليهم أن يرفضوا الموت كبضاعة مهرّبة في صهاريج أو قوارب الموت أو العيش في غيتوات ومخيمات وحياة الذل وغارقة داخل حصار أو بداء العنصرية. كل ما أبدعه كمثقف ينتمي إلى الثورة، أحدث انقلاباً ثقافياً في الدلالة، وثورة في التغيير والحرية، وسردية مشبعة بخيالها واتزانها وارتباطها بالواقع وفي ربطها بين الشخصي والعام والإنساني والوجودي، ليصبح تحرير الثقافة من «المثقف الكمبرادور»، و«مثقف النص كُم» كما وصفه، المثقف التابع والملحق بالغرب، والمساند للإمبرياليّة الأميركيّة، مثقف «الحياد» بين المجرم والضحية، بين ابن الأرض الشرعي ومغتصبها… لا حياد أبداً بين الحقيقة والخديعة وبين الحق والباطل.
تحرير الثقافة يعني أن يصبح الأدب قادراً على طرح أسئلة كبيرة وعميقة، ففي قصته القصيرة «زمن الاشتباك» يميز، على لسان سارده، بين زمن الاشتباك وزمن الحرب. يقول إنّه في زمن الحرب، ثمة هدنة يلتقط خلالها المحارب أنفاسه، وليس الأمر كذلك في زمن الاشتباك، ففي هذا لا يجد المشتبك مع الحياة فرصةً لالتقاط أنفاسه. ظل مشتبكاً مع الحياة، وربما مع نصوصه ودراساته وأبطاله ومع الأفكار والنظريات، لأنه وجد فلسطين بحد ذاتها سؤالاً ثقافياً، تستحق كل أشكال الاشتباك والنقد والسؤال. وكي نستعيد غسان كنفاني الذي «كتب بدمه لفلسطين»، يعني أن نستعيد مشروعه الثقافي النقدي، ليكون أداةً فارقة في إنتاج الأدب والفن والفكر، مشروعاً قادماً من الحياة بكل أوجاعها… المخاض الذي بناه غسان بتجربة إنسانية ملحمية، وثقافة حيّة لا تقطع الأدب والسياسة عن الواقع، أو عن التاريخ، تحمي رواية الأصيل من زيف رواية الدخيل.
من أجل ذلك، هل نحن في حاجة إلى مانفيستو ثقافي؟ أو عقد تاريخي يحرر الثقافة؟ ثبت بما لا يدع مجالاً للشك، أننا بتنا أكثر حاجة إلى الجبهة الثقافية التي لا تقل أهمية عن المقاومة المسلحة، من أجل حماية الذات والفكر والهوية.
* روائي فلسطيني ومسؤول «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» في لبنان
أدب مسكون بالفدائيين والثوّار
كانت فلسطين موضوع حياة غسان كنفاني، وموضوع كتاباته، وموضوع رواياته، ومقالاته ومسرحياته ومقالاته القصيرة، بل كانت أيضاً موضوع حياته وموضوع موته: منذ المجموعة القصصية الأولى «القميص المسروق» التي نُشرت أول مرّة في الكويت عام 1958، وحازت الجائزة الأولى في مسابقة أدبية، كان غسان كنفاني يعيش قضيته حتى الشهادة. صدّر الأديب الملتزم مجموعته الثانية «موت سرير رقم 12»، التي أصدرها في بيروت عام 1961 بمقدمة قصيرة جاء فيها: «أنا أؤمن أن الكتاب يجب أن يقدّم نفسه، وإذا عجز عن إحراز جزء من طموح كاتبه، فعلى الكاتب أن يقبل ذلك ببساطة، كما قبل مرات ومرات-أن يمزق قصصاً ليعيد كتابتها. وهكذا فـ «موت سرير رقم 12» أدفعها لتشقّ طريقها، إن استطاعت أن تهتدي إلى أول الطريق بنفسها، دون شفاعة ودون وساطة ودون جواز مرور». حملت هذه المجموعة الاتجاهات الأساسية التي حاولت تجربة كنفاني الإبداعية اكتشافها وبلورتها، ومهّدت لـ «رجال في الشمس»، أعظم أعماله على الإطلاق، التي كانت بمثابة الصراخ الشرعي المفقود، والصوت الفلسطيني الذي ضاع طويلاً في خيام التشرّد، واختنق داخل عربة يقودها مخصيّ هزم مرة أولى وسيقود الجميع إلى الموت. موت حدد كنفاني ضرورة الخروج منه باكتشاف الفعل التاريخي أو البحث عن هذا الفعل التاريخي، انطلاقاً من طرح السؤال البديهي: «لماذا لم يدقّوا جدران الخزّان؟».
في «عالم ليس لنا» (1965)، بدأت رحلة البحث عن المفتاح الضائع، إذ إن البطل الذي هو «مثل إنسان ضيّع شيئاً، كان يسير محنيّاً بعض الشيء، بكفّين مفتوحتين متحفّزتين، وعينين تنقّبان وجوه الناس كأنّهما محراثان عتيقان، لقد بدا للوهلة الأولى كأنه مجنون»، هذا الرجل هو صورة الفلسطيني الذي بدا كأنه وجد عروسه في عام 1965، ولم تكن العروس سوى هذا البحث المتواصل عن البندقية. من بعدها، بدأ كنفاني في استكشاف العدو من خلال دراسة «في الأدب الصهيوني» (1967) يقابلها استكشاف «الأدب الفلسطيني تحت الاحتلال» (1968)، ليصل إلى رائعته «أم سعد» (1969) التي قدّم من خلالها الأم الفلسطينية التي تحفظ التراث الفلسطيني وتستنهض أبناءها في المخيم لتحويلهم من لاجئين إلى فدائيين وثوار، وليعلن انحيازه الطبقي والفكري للجماهير، للمرأة التي تشبه الأم في رواية غوركي التي تقبض على التاريخ وتسمح لمن سُرقت منهم اللغة باستعادتها واستكشاف احتمالات التحول في الوعي السياسي والاجتماعي. في «عائد إلى حيفا» (1969)، نقل غسان كنفاني المعركة من الشتات إلى الداخل المحتلّ، إذ رسم فيها الوعي الجديد الذي بدأ يتبلور بعد هزيمة عام 1967، فكانت بمثابة محاكمة للذات من خلال إعادة النظر في مفهوم الذات ومفهوم الوطن، ليعلن البطل العائد إلى مدينته التي ترك فيها طفله أنّ « الإنسان هو القضية، وأن فلسطين ليست استعادة للذكريات بل هي صناعة للمستقبل». رغم كثرة أعماله الأخرى مثل «العاشق» (رواية لم تكتمل بدأ بكتابتها عام 1966) و«برقوق نيسان» (1971-1972) ومسرحيات مثل «جسر إلى الأبد» (1965) و«القبعة والنبي» (1967) وغيرها من الدراسات الأدبية والنقدية التي كتبت تحت اسم مستعار (فارس فارس) وترجمة «صيف ودخان» للكاتب الأميركي تينيسي ويليامز (1964)، «لم يكرر غسان كنفاني نفسه مرة واحدة، أو يتحدّث عن الشيء الواحد مرتين»، كتب القاص المصري الكبير يوسف إدريس في تصديره لآثار كنفاني الكاملة التي صدرت عام 1973 في طبعتها الأولى عن «لجنة تخليد غسان كنفاني» و«دار الطليعة» (بيروت). مات غسان كنفاني بعبوة ناسفة لنقرأ أعماله مرتين، ونعرف أننا موتى بلا قبور إن لم ندقّ جدار الخزان، وهو الدرس الذي حفظه أحبته عن ظهر قلب، من الجنوب اللبناني إلى غزة والقدس وجنين، استشهد غسان ليكون عالماً لنا، من البحر إلى النهر.
يوم حافل بالأنشطة والعروض البداية… إكليل على ضريح الشهيد
أعلنت «أكاديمية دار الثقافة» عن إقامة «أيام ثقافية لإحياء الذكرى الواحدة والخمسين لاغتيال المناضل والكاتب غسان كنفاني». تتوزّع فاعليات الحدث على مختلف المناطق اللبنانية وخارجها، وتبدأ من وضع إكليل على ضريح الشهيد في «مقبرة الشهداء» في بيروت اليوم السبت عند الساعة العاشرة صباحاً. وستُقام ندوة ثقافية بدعوة من المكتب الإعلامي لـ «الجبهة الشعبية» يتحدث فيها الكاتب اللبناني نصري الصايغ، ونائب أمين عامّ «الحزب الديمقراطيّ الشعبيّ في لبنان» محمد حشيشو، ومسؤول «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في لبنان» الكاتب مروان عبد العال في قاعة «جريدة السفير» في بيروت. وأخيراً، تقدم «أيام غسان كنفاني المسرحية» عرض «العهد» لفرقة «الفينيق» التي تعدّ أحد أجنحة «أكاديمية دار الثقافة». العمل مونودراما عن رواية «حارة النصارى» للكاتب الفلسطيني نبيل خوري الذي يحكي فيها قصة الشهيد يوسف راشد الذي استشهد في عام 1967. عروض المسرحية تتوزّع على بيروت (مسرح المدينة ــــ 7/17) ومدينة صور (مركز باسل الأسد الثقافي 17/7)، ومدينة صيدا (مركز معروف سعد الثقافي 19/7)، وطرابلس (مخيم نهر البارد ــ «مسرح كنعان» 21/7). علماً أنّ جميع العروض تبدأ الساعة 7:30 وتُفتتح بكلمة للأكاديمية.
سيرياهوم نيوز3 – الأخبار