| إسماعيل مروة
الشاعر الذي لا يغيب عن المشهد في لحظة من اللحظات، فإن كان الحديث عن المرأة والغزل كان الملاذ الذي نأخذ أشعاره لنتحدث عن المرأة، ووحده يسعفنا في كل حالة، إن كانت أماً أو زوجة أو ابنة أو محبوبة، إن كانت عاشقة أو معشوقة.. وإن أردنا الحديث عن الوطن ومآسيه وأفراحه كان نزار المتقلب بين أوزان الشعر ليخرج نيزكاً من الوطنية الخالصة من كل شائبة.. وإن أردنا الحديث عن المطلق من الجمال والحياة والربيع فإن بغيتنا هي عند نزار وحده من الشعراء الملهمين.
الربيع ونزار
ليس صحيحاً أن نقول إننا نسترجع ذكرى نزار في الربيع الميلاد والسفر الطويل وما من عبث وهب الخالق الربيع لنزار قباني ميلاداً ووفاة وحياة، أما الميلاد فقد جاء إلى الدنيا مع الربيع، وأما الوفاة فقد غادر بعد أن أزهرت الدنيا في الربيع كذلك، وأما سفره الطويل في الحياة فقد كان ربيعاً دائماً، سواء كان ذلك في المأساة أم السعادة فلم يشأ نزار أن يكون إلا ربيعاً لحياته وشعره فأمته، وقد أخذت حياة الزهر عنده مراحل عدة:
1- مرحلة المرأة، فقد رأى نزار، قلّ من رأى رأيه في ذلك الوقت قبل أكثر من خمسة وسبعين عاماً من اليوم، أن المرأة هي ربيع هذه الحياة، وبأنه دون وجود المرأة لا ربيع ولا زهر ولا حياة، فاتجه إلى المرأة لتفعيل حياتها ووجودها، وتحمّل من أجل ذلك الكثير، فقد نال منها اليمين لأنه أساء للمرأة والعقيدة كما رأوا، والصحيح أن نزاراً عندما تناول تفعيل دور المرأة اصطدم بالموروث الذي وضع اليمين نفسه حامياً له، فناله ما ناله من المعاداة والهجوم، ومن اليسار الذي تهيأ له أن المرأة لا تحتاج، فوصفوه بأنه سلّع المرأة ونال من شخصها، ولعل موقف جبرا إبراهيم جبرا قبل النكبة وبعدها هو خير دليل، إذ نال من نزار قبل النكبة، ولكنه فيما بعد اكتشف أن ما فعله نزار هو لتحرير المرأة وإنصافها، ولو كانت المرأة في مكانتها وتمارس دورها ما حصلت النكبة وغيرها من الكوارث.
2- مرحلة الوطن والانكسار، ما من واحد لا يعرف أن نزار قباني عاش حياة الدعة والبحبوحة، سواء في أسرته التي جعلته مغتنياً عن الآخرين أو في عمله الدبلوماسي الذي أعطاه فرصاً كثيرة وجولات في آفاق الأرض، لكن الربيع عنده جعله يبتعد عن كل شيء، ويستقيل لأنه ما من زهر ينبت، وما من ربيع يأتي دون أن يتحقق شرط الحرية الفردية، فلم يلتفت إلى الوراء وإنما خطط واختار أن يكون حراً.
3- الشعر والحرية بعد رباطه مع دار الآداب، أراد نزار أن يكون حراً، فكانت منشوراته الخاصة التي صارت ربيعاً ينشر الزهر في كل مكان، وهذه المنشورات حققت لنزار ما نعجز عن فهمه، فقد صار حراً كلمة ومالاً، وأعطت لشعره الأبعاد التي لم تكن تخطر، فلا حاجة له أن يطلب من أحد أو أن ينشر له أحد، أو يخضع لشرط في عملية النشر، فاستمرت أزرار الربيع بالتفتح طول حياته، لذلك لم نجد تلك التحولات الحادة في حياته ما بين رأي ورأي، ما بين إيديولوجية وأخرى، ما بين رأي وتراجع عنه، ويكاد يكون الوحيد بين الشعراء الذين عاشوا موقفاً لم يتبدل ولم يتغير بتغير الظروف والأحوال، ما دفع أدونيس وهو من هو ليقول: نزار قد يكون أكثرنا حياة مع الأيام.
نزار والحب والوطن
عرف نزار قباني مبكراً أن الوطن والمرأة والحب لا انفصال بينها، لذلك ربط ما بين هذه المكونات، فحيث يوجد الحب يوجد الشعر، وحيث اجتمعا كان المجتمع حراً، ولننظر إلى قراءته المبكرة عن هذه المكونات وآلية اجتماعها:
كتابة قصيدة حب
في الوطن العربي
تشبه حياكة، قميص من الحرير
لأجساد تعودت أن تلبس الخيش!
ماذا بوسع الشعر أن يفعل
إن العالم العربي
يحتاج إلى مليون شاعر
حتى يكتشفوا في رمال الصحراء
إبرة الحرية!
فالمشكلة رآها نزار وشخصها في هذا الوطن العربي الذي لا يعرف طريقاً لخلاصه، وما يزال يتلمس طريقه إلى المعرفة، والمشكلة الكبرى في نظره هي الحرية، فالحرية تخلق شاعراً، والحرية تصنع وطناً، والحرية تفتح آفاق الشعر والحب، وبغير الحب والشعر لا قيمة لأي وطن، إذ يتحول هذا الوطن إلى صحارى يعجز المرء عن إدراك غايته!
انطلق من قصيدة الحب
حدّد المكان في الوطن العربي
وحدّد الحاجات
وخلص إلى الحرية
هذه الرؤية المتكاملة هي التي أعطت نزار قباني الفهم العميق والرؤية الشمولية التي عجز عنها الشعراء الآخرون الذين تغنوا بوطن أو امرأة أو حرية، ولم يعملوا على ربط هذه المكونات معاً.
السرّ والسحر
يقدم نزار خلطة سحرية للمرأة مستعيراً تعابير التراث والثقافة العربية، فأخذ تعبير (الراسخون في العلم) ليقدمه في عالمه.
أنت الكتابة السرية
التي لا يعرفها
إلا الراسخون في العشق
أنت الكلام الذي في كل لحظة
كلامه
ما بين السرّ والسحر
توقف نزار عند متطلبات العشق، فالعشق ليس عادة، وليس أمراً عابراً، وليس ممكناً لكل الناس، وإنما هو كتابة سرية، وخلطة سرية وسحرية تحتاج إلى نوع من الناس أعطاهم صفة (الراسخون في العشق) فكما الفكر والفهم يحتاج إلى الراسخين في العلم، كذلك العشق يحتاج إلى الراسخين في العشق المؤمنين به، القادرين على فك رموزه وقضاياه.
التعابير الصغيرة
إن علاقة الرجل بالمرأة حملت عناوين عريضة عبر تاريخ الشعر، من وصف ولقاء وغزل، وكانت المرأة معشوقة على الدوام، ولكنها كانت في القضايا الظاهرة، ونزار استطاع أن يترك الشعارات ليدلف إلى التعابير الصغيرة:
وعدتك
ألا أتلفن ليلاً إليك
وأن لا أفكر فيك إذ تمرضين
وألا أخاف عليك
وألا أقدم ورداً
وألا أبوس يديك
وتلفنت ليلاً على الرغم مني
وأرسلت ورداً على الرغم مني
وبستك من بين عينيك حتى شبعت
وعدت بألا.. وألا.. وألا..
وحين اكتشفت غبائي ضحكن
نلاحظ هذه القضايا التي لم يكن الشاعر ليقف عندها، وربما رآها بعضهم من سفاسف الأمور، ومن المعيب أن يقف عندها، لكن نزاراً وقف عندها طويلاً، وحوّل اليوميات الصغيرة والتصرفات العادية إلى مسائل عشقية تستحق التوقف عندها.
المرض، الورد، تقبيل اليد، التلفون.. ليقدم لوحة عشقية طريفة جداً بين الأمر وضده، بين ما يضمره العاشق ذات لحظة من غباء، وما يتصرف به ليكتشف حقيقة المشاعر، وهذه الصورة قادرة على أن تعطي تصوراً طبيعياً للحياة وكيف يمكن أن تكون دون تزويق أو تحوير.
المرأة الشريك
قليلة هي الحالات التي تكون فيه المرأة شريكة وفاعلة في الحب، إذا ارتضى لها المجتمع والشاعر، وارتضت لنفسها أن تكون المنفعلة ونزار بلسانها يتحدث ليحولها إلى واهبة وشريكة:
شعري سرير من ذهب
فرشته لمن أحب
غمسته في الشمس
أوجعت الشهب
بعثرته أحس
أن الله من شعري اقترب
لواحد لواحد
أقعد في الشمس أنا
من سنة
أفتل أسلاك الذهب
ففي هذا النص وفي كثير من شعر نزار المرأة شريك وفاعل، سواء كانت قوية أم ضعيفة، فهنا تعقد أسلاك الذهب، وفي مقام آخر
صار عمري خمس عشرة
صرت أحلى ألف مرة
وفي مقام الضعف تشارك أيضاً
لا تمتقع هي كلمة عجلى
إني لأشعر أنني حبلى
وتواجه الشريك في موضع آخر:
أنا لست آسفة عليك
لكن على قلبي الوفي
وهذه المشاركات من المرأة لم تكن قبل نزار لأن المرأة فيما قبل كان الشاعر يتولى الحديث عنها وعن سعادتها ومشاعرها بصورة وصفية تغيب فيها صورة المرأة الندّ والمحاور غالباً.
بساطة التعبير
بين الأمنية والخيبة يعيش شاعرنا دوماً، وفي الغالب يقوم الشاعر بتجميل الواقع، ويحاول القفز عليه ليعطي صورة وردية ليست واقعاً وإنما من الخيال، اعتماداً على أن فضح الواقع سلبي، لكن نزاراً فعل شيئاً آخر
أحاول منذ الطفولة رسم بلاد
تسمى مجازاً بلاد العرب
تسامحني إن كسرت زجاج القمر
وتشكرني إن كتبت قصيدة حب
وتسمح لي أن أمارس فعل الهوى
ككل العصافير فوق الشجر
شيطنات الطفل
أمنيات البراءة
الوطن الذي يشكله الإنسان على هواه
والغاية واحدة هي حرية الشدو والحب والحياة
بعد ألفاظ فخمة عن بلاد العروبة وكينونتها، وبعد حديث استمر قروناً طويلة عن المجد والأمجاد، يأتي نزار قباني ليلبي مشاعر الإنسان البسيطة والبريئة، وينقل دهشته أمام واقع يختلف عن الأمنيات، وأمام حقيقة لا علاقة لها بالمجاز.
تسمى مجازاً بلاد العرب
فالتسمية ليست حقيقة، وإنما من المجاز، والمجاز مبالغة وتعبير عن أمنيات وأحلام، والمفارقة أن هذه البلاد والمجازية هي بلاد مستبدة ترفض أن تعطي الشاعر والحالم ما يريد
كسر زجاج القمر
كتابة قصيدة حب
ممارسة فعل الهوى
الشدو كالعصافير
قرن أو أقل مضى على هذه الرغبة النزارية التي كانت مرفوضة إذ ذاك ولو لم تكن بلاد العرب مجازاً لتغير الموضوع، واليوم أصبحت أكثر مجازية وأكثر صدمة، وأبعد عن الحرية مسافات!
دعوة العمل وخطورتها
لقد قام نزار قباني بدور خطر للغاية، إذ وضع نفسه مقابل كل ما يدور في المجتمع العربي من خرافات وعادات تحولت إلى دين يمارسه الكسالى والنائمون على الأرصفة
في بلادي، حيث يبكي الأغبياء
ويموتون بكاء
كلما حركهم عود دليل وليالي
ذلك الموت الذي ندعوه في الشرق
ليالي وغناء
في بلادي
في بلاد البسطاء
حيث نجتر التواشيح الطويلة
ذلك السل الذي يفتك بالشرق
التواشيح الطويلة
شرقنا المجتر تاريخاً
وأحلاماً كسولة
وخرافات خوالي
شرقنا الباحث عن كل بطولة
في أبي زيد الهلالي
من منا لم يعرف هذه الحالة من الكسل في مجتمعاتنا؟!
في الشرق، والمواويل والليالي والأوف والتواشيح..1
حكايات البطولة الزائفة، سيرة عنترة والزير سالم وأبي زيد!
العيش في الماضي، ولكن الماضي الخرافة، الماضي الأسطورة، الماضي، المليء بالكذب، والسبب الأساسي هو أن سكان هذا الشرق هم البسطاء الذين لا تقوم محاكماتهم على العقل.
يُجلدون ويتغنون بالصبر!
يتألمون ويغنون الليالي!
السوط على فكرهم وظهورهم وينشدون أغاني البطولة!
نزار قباني لم يكن ربيعاً بمعنى الربيع كما يتحدث عنه البسطاء، بل كان ربيع وطن وربيع امرأة وربيع حب، كان ربيع فكر وتحرر للرجل والمجتمع قبل أن يكون للمرأة كما قد نتخيل..
نزار قباني كان نهضة فكرية قبل أن يكون نهضة شعرية، وكان إنساناً يدعو لمجتمع يختلف عن مفهومات المجاز، ولكنه وقبل أن يغادر دنيانا اعترف بإخلاف المجتمع معه! فالمرأة ا لتي عمل من أجل حريتها خمسين عاماً تركته وذهبت إلى الكوافير، والمجتمع العربي أدمته السياط لكنهم أدمنوها وباسوا كفّ من ضربا.. تركوا المعنى العميق وما يزالون يتناقشون: هل يجوز استخدام باسَ؟!
لربيعك وحبك نزار قباني كل الحب، وقد غادرتنا، ونأبى أن نخرج من مجازنا الفكري والاجتماعي.
ولك الربيع الذي تسكنه ولا تغادره.
سيرياهوم نيوز3 – الوطن