الدكتور طارق ليساوي
تابعت تعليقات القراء الأفاضل على مقال “ما الفائدة من مهاجمة الإسلام وتشريعاته؟ وما الغاية من الجهود المحمومة لنشر الإباحية والشذوذ وتدمير الأسرة في عالمنا العربي؟ “وما يمكن قوله أن الملاحظات و التعليقات تكمل المقال وتحاول سد بعض الثغرات و الأمور التي اهملها الكاتب أو لم يركز عليها بشكل أساسي، و من الصعب أحيانا تناول مثل هذه المواضيع الشائكة في مقال واحد، لكن الغاية هي فتح النقاش وتوجيه انتباه القارئ الكريم إلى مخاطر أنية ومستقبلية…فما نراه اليوم على أنه مجرد كلام و هجوم كلامي وترويج لقيم و ممارسات شاذة من الصعب أن تجد لها جمهورا، سندرك بعد مرور الوقت أن الاستثناء أصبح هو القاعدة والأصل ,أن ما نراه اليوم على أنه السائد والبديهي سيتحول فيما بعد هو الشاد والاستثناء فما يتم في الخفاء والعلن من هجوم على الفطرة والقيم ليس بالأمر العبثي وإنما هو مخطط وأجندة متكاملة الحلقات، ووراءها عقل إستراتيجي / شيطاني يخطط و يرسم الأدوار و يضع الاستراتيجيات…
والواقع أن تعليقات القراء دفعتني إلى أضافة هذا المقال لأن بعض الملاحظات جوهرية وأرى من الضروري توسيع النقاش حولها، فقد قال الأستاذ محمد كريم في تعليقه: ” تدمير النظام الاسري بشكل ممنهج لم يبدأ في العالم العربي
يبدو انه خطة عالمية لتحديد نسل البشرية حتى الأوربيين العاديين يحاولون محاربة هذه السياسة لا اعتقد ان له اهدافا أخرى اسبرطة كانت المثلية نظام دولة يقوم كل رجل باصطحاب طفل بعمر اربعة عشر سنة يخرج معه الايام الطوال يعلمه فنون القتال و يعاشره كان قلة المواليد مع موت الرجال في الحروب و منع الزواج من اجنبي سبب انهيار اسبرطة” ..
و في ذات السياق و لكن من زاوية مغايرة نسبيا يضيف الخراز عبد المنعم في تعليقه : ” حسب اخر الاحصائيات يسجل في المغرب 800 حالة طلاق يوميا، وازدادت خلال وباء كورونا اللعين، فعوض الانكباب على معرفة الأسباب والدوافع عبر النقاش العلمي الرصين، في رحاب الجامعات والمراكز الثقافية، وعبر شاشات الاذاعة والتلفزيون، نجد النقاش يتجه إلى الهجمة على الإسلام، والجهود المحمومة لنشر الإباحية والشذوذ، فالأسرة هي عماد المجتمع، وهي العمود الأول في عملية التنشئة الاجتماعية، ولتفادي انهيار هذا الأساس، لابد من البحث في سبب الانهيار، وتحسين دخل المواطن المتزوج ليواكب متطلبات الحياة العصرية، والتي تختلف جذريا عن حياة اباءنا واجدادنا الذين عاشوا كما كانوا يرددون على مسامعنا ” بالبركة”، فاخر الشهر في الحياة المعاصرة مثل “الحسابة بتحسب..”
و الواقع أن قضية الأسرة و النسل من القضايا الحيوية، فالرأسمال البشري هو الثروة الحقيقة للأمم، و لعل أكبر خطر يتهدد البلدان المتقدمة هو ضعف الخصوبة و ارتفاع نسبة الشيخوخة بداخل المجتمع، و مجتمعاتنا العربية بدورها تتجه نحو الدخول في ذات الأزمة ، نتيجة تفاقم الأزمات الاقتصادية و الاجتماعية ، و صعوبة تأسيس اسرة ، نتيجة ارتفاع تكاليف المعيشة، و أيضا نتيجة التعديلات المتتالية في قوانين الأسرة و التي تدفع بعض الشباب إلى العزوف عن الزواج..هذا في الوقت الذي نشهد فيه تسامح متزايد مع الفاحشة …و الأرقام و الإحصائيات حول نسبة الطلاق و العنوسة في صفوف الذكور و الإناث تنذر بمستقبل أسوأ ، و خطر داهم ، لأن الرأسمال البشري هو العنصر الحاسم في التنمية ..
و حتى أوضح خطورة الوضع سأحيل القارئ الكريم إلى تجربة الصين ، التي انتقلت من النقيض إلى النقيض ، انتقلت من سياسة الطفل الواحد إلى سياسة ثلاث أطفال ، بل أصبحت تمنح تسهيلات لمواطنيها من أجل إنجاب مزيد من الأطفال ، و كما نعلم فالصين بلد المليار و ربع إنسان ، ومع ذلك فقدت الصدارة ..كأكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان..
فقد أوضح المكتب الوطني للإحصاء في بكين أن إجمالي عدد السكان انخفض بمقدار ثمانمائة وخمسين ألف نسمة خلال العام الماضي، ليبلغ مليارا وأربعمائة وأحد عشر مليون نسمة، وهو أول انخفاض منذ 60 عاما، كما أعلنت بكين أن عدد الوفيات لديها العام الماضي، فاق عدد المواليد لأول مرة منذ عقود ورأى مراقبون في هذا الانخفاض السكاني نقطة تحول تاريخية ، وبداية لانخفاض سكاني طويل الأمد لا رجعة فيه.
ويجمع المراقبون على أن انخفاض عدد سكان الصين يرجع للعديد من العوامل في مقدمتها سياسة الطفل الواحد..
فبعد إنشاء جمهورية الصين الشعبية في 1949 ونهاية الحرب الأهلية، قدّمت الحكومة تدريباً لعشرات الآلاف من “الأطباء الحفاة” لتوفير الرعاية الصحية في المناطق الفقيرة والريفية. هوى معدل الوفيات وارتفع معدل النمو السكاني من 16 لكل ألف نسمة في 1949 إلى 25 لكل ألف نسمة بعد 5 سنوات فقط.
حفز ذلك المحاولات الأولى لتشجيع تخطيط الأسرة في 1953. مع ذلك؛ ازداد إجمالي تعداد السكان إلى أكثر من 800 مليون نسمة في أواخر الستينيات. بحلول السبعينيات؛ واجهت الصين أزمات نقص في الغذاء والإسكان.
في 1979، قرر زعيم البلاد “دينغ شياو بينغ” تحديد العدد بطفل واحد كحد أقصى لأغلب الأزواج. (كانت هناك استثناءات للمزارعين الريفيين والأقليات العرقية وبعض الحالات، مثل أن يكون أول الأبناء معاقاً).
و لتطبيق تلك السياسة تعرضت النساء لضغوط من أجل الإجهاض. ولم يُسمح للأطفال المولودين خارج خطة الدولة بالحصول على ميزات “هوكو”، وهو تسجيل حكومي يحتاجونه للحصول على بعض المنافع..
و قد قادت هذه السياسات لمجموعة من الكوارث لعل أهمها إجهاض العديد من الآباء الصينيين للأجنة من الإناث، إذ وصل معدل الذكور للإناث إلى 120 لـ100 في بعض الأقاليم.
استقر معدل جنس المواليد عند نحو 105 في السنوات الأخيرة، لكن في بعض المناطق، مثل غواندونغ وجزيرة هاينان ، ما يزال المعدل مرتفعاً فوق 110. وكان من نتائج ذلك تراجع أعداد النساء في سن الإنجاب…
و قد تم إلغاء سياسة الطفل الواحد عام 2016، وفي عام 2021 بدأ السماح للأزواج بإنجاب ثلاثة أطفال، لكن هذا الإجراء لم ينجح في عكس مسار التدهور الديموغرافي يضاف إلى هذا شيخوخة السكان، وانخفاض نسبة الخصوبة في الصين وهي النسبة المتعلقة بعدد المواليد، وتأخر سن الزواج والعزوف عن الإنجاب بسبب تكاليف المعيشة، وكذلك سياسة الصين الصارمة “صفر كوفيد” لكبح انتشار كورونا، منذ ما يقرب من ثلاث سنوات ما أسهم في تراجع أعداد المواليد، حيث تسبب الإغلاق والحجر الصحي، في فصل بعض العائلات لفترات طويلة.
و قبل هذا التراجع الإجمالي التاريخي؛ أخذ تعداد السكان في سن العمل يتضاءل لسنوات، وتُظهِر التوقُّعات أنَّ ربع تعداد السكان سيصل لعمر 60 عاماً أو ما فوق بحلول 2030. يهدد ذلك النمو الاقتصادي، الذي يعتمد على عدد كبير من الأيدي العاملة، فضلاً عن احتمال غياب العدد الكافي من الأشخاص الأصحاء لرعاية كل كبار السن.
لذلك عمدت الحكومة الصينية والحزب الشيوعي على توجيه رسالة للأزواج مفادها ” نرجو منكم إنجاب المزيد من الأطفال”.. وقد جعل الرئيس الصيني شي جين بينغ، مؤخرا التحديات الديموغرافية في بلاده أولوية، متعهدا “بنظام سياسة وطنية ” لزيادة معدلات المواليد، كما بدأت بعض المناطق تقدّم حوافز للأزواج من أجل الإنجاب، التي تشمل إطالة فترة إجازة الوالدين لرعاية الأبناء، فضلاً عن منح إعانات وتقديم قروض للتشجيع على الإنجاب. كما تعمل مدينة شينزين، المجاورة لهونغ كونغ، على خطط لتقديم إعانات للآباء إلى أن يصل أبناؤهم لسن الثالثة.
لكن جهود الحكومة المركزية والحكومات المحلية لحل الأزمة الديموغرافية – بما في ذلك تقديم المساعدات النقدية والسماح بإنجاب ثلاثة أطفال- أخفقت في تثبيت معدلات المواليد المنخفضة…
ويقول المراقبون إنه مع تراجع عدد السكان لن يكون لدى الصين عدد كاف من الأشخاص في سن العمل لدعم النمو عالي السرعة الذي جعلها محركا للاقتصاد العالمي، وبحلول عام 2035، من المتوقع أن يتجاوز 400 مليون شخص في الصين سن 60 عاما أي ما يقرب من ثلث سكانها، كما أن نقص العمالة الذي سيصاحب شيخوخة السكان السريعة سيقلل أيضا من عائدات الضرائب والمساهمات في نظام المعاشات التقاعدية الذي يتعرض بالفعل لضغط هائل.
وقد يتراجع عدد سكان الصين كل عام بمعدل 1.1 بالمئة، بحسب دراسة لأكاديمية العلوم الاجتماعية في شنغهاي، وقد يبلغ عدد مواطني الصين 587 مليون نسمة فقط في العام 2100، أي أقل من نصف عددهم حاليا بحسب توقعات خبراء علم السكان.
والغاية من استحضار تجربة الصين هو تنوير الرأي العام العربي إلى أن العالم العربي لازالت تستوطنه خرافات تنموية من قبيل ضرورة الحد من الإنجاب و خطورة النمو الديموغرافي و ما إلى ذلك من الخرافات التي تكذبها الحقائق على الأرض ..و التجربة الصينية بسلبياتها و إيجابياتها تفيد صناع التغيير في أخد الدروس، و تجنب المثالب التي سقط فيها الغير. وحينما ندرس تجربة الصين الشعبية لابد أن نضع في الاعتبار أننا أمام معجزة تنموية صنعها شعب بأكمله… فهذه التجربة التنموية الصاعدة أبطلت مفعول مجموعة من الخرافات التنموية، وأهمها خرافة الانفجار الديموغرافي..
ففي البلاد العربية غالبا ما يتم تكرار أسطوانة الانفجار السكاني و أن مستوى العرض من السلع و الخدمات العمومية يظل أقل من الطلب ، وبدلا من إرجاع الفشل في إشباع الطلب على هذه السلع العمومية كالصحة والتعليم و النقل …إلى سوء الإدارة و التدبير يتم في الغالب إرجاع هذا القصور إلى النمو الديموغرافي، و هو ما تبعناه بوضوح في مصر الشقيقة، فهناك خطاب رسمي و إعلامي محموم، يحمل الفشل التنموي للزيادة الديموغرافية، بل إن بعض شيوخ السلطان خرجوا عن اللياقة و المألوف، عندما قالوا بأن من لا يستطيع توفير البيت و الباءة و يدفع الزكاة لا ينبغي أن يقدم على الزواج في مخالفة صريحة للنهج النبوي و لآيات القران الكريم.. و الصين تكذب هذا الزعم، فمجموع ساكنة العالم العربي بأسره، لا تمثل ثلث ساكنة الصين، و التي تقدر بحوالي1.4مليار نسمة، ومع ذلك فهذه البلاد استطاعت أن تحقق تقدما جد ملموس في مجال تقديم السلع العمومية بجودة و كفاءة عالية، بل إنها تراجعت عن سياسة الطفل الواحد التي تم تبنيها في سبعينات القرن الماضي، و الصين اليوم تشجع مواطنيها على الزواج و إنجاب أكثر من طفل … وحتى لا أطيل على القارئ الكريم لنا عودة لهذا الموضوع في المقال الموالي إن شاء الله تعالى … و الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون…
إعلامي و أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة .
سيرياهوم نيوز 4_راي اليوم