أحمد الدبش
كتب الروائي الفلسطيني الشاهد الشهيد، غسان كنفاني: «وجدت غزة كما تعهدها تماماً: انغلاقاً كأنه غلاف داخلي، التفّ على نفسه، لقوقعة صدِئة قذفها الموج إلى الشاطئ الرملي اللزج قرب المسلخ، غزة هذه، أضيق من نفس نائم أصابه كابوس مريع، بأزقتها الضيقة، ذات الرائحة الخاصة، رائحة الهزيمة والفقر، وبيوتها ذوات المشارف الناتئة…هذه غزة» («ورقة من غزة»، قصة قصيرة من مجموعة «أرض البرتقال الحزين»).
هذه الصورة القاتمة والمأساوية لغزة التي رسمها غسان في قصته القصيرة، تشير إلى كل أنواع المرارة التي مرّ بها الفلسطيني، واختزلت معاني «فقدان الوطن» الذي عانينا منه، وأصبحنا نعيش في المنفى نبحث عن وطن في ذكرياتنا. هنا يطرح غسان سؤالاً وجودياً عندما قال: «لكن ما هي هذه الأمور الغامضة، غير المحددة، التي تجذب الإنسان لأهله، لبيته، لذكرياته، كما تجذب النبعة قطيعاً ضالاً من الوعول؟ لا أعرف!».
أجاب غسان عن هذه الأمور الغامضة، في روايته «عائد إلى حيفا» بالقول: «لا شيء، لا شيء أبداً، كنت أتساءل فقط، أفتش عن فلسطين الحقيقية، فلسطين التي هي أكثر من ذاكرة». وهذا ما قصده كنفاني من طرحه السؤال البديهي، في نهاية روايته «رجال في الشمس»: «لماذا لم يدقّوا جدران الخزان؟» أي «إلى متى تظل بوادر الثورة هاجعة لا تستيقظ؟». فالسكون، والانتظار المرهون بالشلل، أدّيا إلى ظهور قيادة فلسطينية وعربية تؤدّي دوراً قاتلاً يتمثّل في إنهاء وإغلاق ملف القضية، دون النظر إلى خيارات الشعب، فهذه القيادات الفلسطينية والعربية العفنة تطابق شخصية «أبو الخيزران»، في رواية «رجال في الشمس»، الذي يعاني من نقص الرجولة (مخصيّ)، انتهازي، فهلوي، عاجز، مغرور، خادع مخدوع قائم على المداورة والمراوغة والكذب. كادت هذه القيادات أن تنفّذ مشروعاً تصفوياً للقضية، عبر الطريقة التي انتهجتها، مثلما قاد «أبو الخيزران» الجميع إلى الموت.
أنبئك يا غسان بأن الشعب الفلسطيني قد دقّ جدران الخزان هذه المرة وبكل قوته، فالخمسة آلاف صاروخ التي أطلقتها قوى المقاومة الفلسطينية وَحَّدَت القدس بِشِقَّيْها، الغربي والشرقي، ووَصَلَت إلى كلِّ مُدنِنا التي هُجِّرنا منها، واستبدلت رائحة الهزيمة برائحة النصر، مُحمّلة ببشائر العودة، عندما اقتحم مئات المقاتلين الفلسطينيين عدّة كيلومترات من غزة إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، فكانت البداية، كما وصفتها في «ورقة من غزة» بالقول: «كانت غزة… جديدة كل الجدة، أبداً لم نرها هكذا… كانت تلوح لي أنها… بداية فقط، لا أدري لماذا كنت أشعر بأنها بداية فقط، كنت أتخيّل أن الشارع الرئيسي، وأنا أسير فيه عائداً إلى داري، لم يكن إلا بداية صغيرة لشارع طويل طويل يصل إلى صفد».
هذا الشارع الطويل الذي يصل إلى مدننا وقرانا في فلسطين المحتلة عام 1948، هو «الصراط الذي وعد الله خلقه أن يسيروا عليه قبل أن يجري توزيعهم بين الجنة والنار. فمن سقط عن الصراط ذهب إلى النار، ومن اجتازه وصل إلى الجنة» (عائد إلى حيفا). فالعودة إلى حيفا أصبحت واقعاً يكسر كل معاني الهزيمة العربية المسخ، فما عليك إلا أن تحتضن الصاروخ الذي أطلقته يد مقاوم وجد بندقيته الضائعة الذي وصفته، في رواية «العروس»، بأنه «محاط بشيء يشبه الغبار المضيء… ذلك الرجل المحاط بما يشبه النور… من الذي سيعيره بندقية في ذلك الطوفان الذي لا تنفع فيه إلا البندقية؟ هي وحدها التي كانت تستطيع أن تحمل الإنسان عبر ذلك الموج، إلى شاطئ النجاة أو إلى شاطئ موت شريف».
والزورق الصغير الذي «يتّسع لأبوين يبحثان عن طفلهما المفقود»، أصبح الآن يتّسع لأربعة مقاتلين يرسو بهم على شواطئ عسقلان، وشعارهم «أموت وسلاحي بيدي، لا أن أحيا وسلاحي بيد عدوي». خلفهم الأم، التي استعصت على التطويع والانحناء، رغم كل ما حاق بها، والتي وصفتها في روايتك «أم سعد»: «إنّ أم سعد لا تزال شامخة، تمشي بقامتها العالية، كرمح يحمله قدر خفيّ (….) تصعد من قلب الأرض، وكأنها ترتقي سلماً لا نهاية له».
المقاتل اليوم يذهب إلى المعركة مودّعاً حبيبته، قائلاً: «سأظل أناضل لاسترجاع الوطن لأنه حقّي وماضيّ ومستقبلي الوحيد… لأن لي فيه شجرة وغيمة وظلاً وشمساً تتوقّد وغيوماً تمطر الخصب… وجذوراً تستعصي على القلع».
إذاً، الوطن «هو المستقبل»، كما قال خالد في روايتك «عائد إلى حيفا»، فقد حمل خالد السلاح، واليوم «عشرات الألوف مثل خالد لا تستوقفهم الدموع المفلولة لرجال يبحثون في أغوار هزائمهم عن حطام الدروع وتفل الزهور، وهم إنما ينظرون إلى المستقبل، ولذلك هم يصحّحون أخطاءنا، وأخطاء العالم كله».
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية