انس جودة
لا أستطيع عدَّ الساعات، ولا حصرَ النقاشات التي دارت خلال السنوات الماضية حول ضرورة رفع العقوبات عن السوريين. ولا يمكنني الإحاطة بكلّ الردود والتبريرات التي سمعناها لتسويغ الإبقاء على تلك العقوبات، فيما كان السوريون يرزحون تحتها، بينما كانت تتحوّل عملياً إلى غطاءٍ سحريٍّ للنظام؛ غطاء مكّنه من تعزيز منظومات الفساد، وتوسيع شبكات التهريب، والاستيلاء على أموال الناس، وكأنّ من فرض العقوبات كان متواطئاً معه، أو قدّم له—بوعيٍ أو بلا وعي—أفضل الأدوات لتوسيع منظومة النهب وتحويلها إلى نمط حكم.
في تلك السنوات، سمعنا من بعض السوريين، كلاماً لا يعنيهم فيه أن يموت الناس جوعاً، ولا أن تُقطع عنهم موارد الطاقة، ولا أن تُترك المستشفيات بلا مواد طبية، ولا أن يُعزل المجتمع عن العالم والمعرفة وأبسط أدوات التقنية التي تُمكّن الإنسان من تحقيق دخلٍ بسيط أو تطوير معرفةٍ متقدمة. كان الإنسان غائباً عن هذا الخطاب، أو مؤجَّلاً، أو قابلاً للتضحية به باسم قضيةٍ مؤجَّلة إلى أجلٍ غير معلوم.
«لن نقبل برفع العقوبات حتى يسقط النظام، ولو كلّف ذلك حرق البلاد كلّها».
جملة سمعتها مراراً، وكانت في كل مرة كخنجرٍ في القلب. جملة وضعت المدنيين في قلب معادلة وحشية، بين من يقول: «الأسد أو نحرق البلد»، ومن يردّ: «لتحترق البلد حتى يسقط النظام». لم يكن في هذه الثنائية أيّ مكان للناس، ولا لأيّ معنى أخلاقيّ.
وجد النظام، في العقوبات، غطاءً مثالياً لنهبه، ووجد من تمسّك بها باسم إسقاطه مخرجاً أخلاقياً زائفاً لفشل استراتيجيته في اسقاط النظام. فتمسّك الطرفان بالمشهد ذاته، كلٌّ لأسبابه، بينما احترق الناس بين نارين، بلا صوت، وبلا حماية، وبلا أفق.
سعيدٌ جداً برفع العقوبات عن كاهل البسطاء، لأنّها كانت عقاباً جماعياً لا أداة ضغطٍ سياسيٍّ فعّال. لكنني، في الوقت ذاته، لا أستطيع تجاهل التناقض الصارخ عند من يدّعي اليوم العمل لرفع العقوبات «حرصاً على الناس»، بينما كان صامتاً عن آلامهم بالأمس، أو مبرّراً لاستمرارها، ما دامت لا تمسّ مساره السياسي أو مصادر تمويله.
هذا التناقض ليس خطأً في التقدير، بل خيانة أخلاقية كاملة: أن يُختزل البشر إلى أرقام في تقارير، وأن تُستخدم معاناتهم كورقة مساومة، فيما تبقى رواتب الناطقين باسم قضاياهم محفوظة، وتمويلاتهم مؤمّنة، ومسؤوليتهم الأخلاقية مؤجَّلة.
مبروك للسوريين برفع العقوبات عن كاهلهم، فهذا حقّهم لا مِنّة من أحد. لكنّ الفرح وحده لا يكفي، لأنّ التجربة علّمتنا أن العقوبات أفادت النظام بالأمس في ظلّ غياب السياسة والرقابة والمساءلة، وأنّ رفعها اليوم قد يفيد السلطة إذا أُعيد إنتاج الفراغ ذاته، وبالأدوات نفسها، وتحت شعارات مختلفة.
نريد رفع العقوبات لأنّها أذلّت الناس ولم تُسقط الاستبداد، لكننا لا نريد إعادة صناعة السيطرة، ولا استئناف منظومات النهب، ولا أن تتحول المعاناة مرةً أخرى إلى موردٍ سياسيّ أو اقتصاديّ لمن يملك القوة ولا يخضع للمحاسبة. ولانريد بيع أصول الدولة وتهريبها إلى جيوب المنتفعين، رفع العقوبات خطوة ضرورية، لكنه لا يمكن أن يكون بديلاً عن بناء إطارٍ سياسيٍّ شفاف، يضبط تدفّق المال، ويخضع السلطة للمساءلة، ويشرك المجتمع في مراقبة ما يُعاد بناؤه باسمه، ويمنع تمركز السلطة والثروة في يدٍ واحدة.
من يفرح اليوم برفع العقوبات ثم يرفض بناء هذه الضمانات، إنما يتواطأ لتكرار الجريمة نفسها، مع وجوه جديدة فقط.
مبروك للسوريين.
والتاريخ شاهدٌ على كلّ موقف.
#سوريا_لك_السلام
(أخبار سوريا الوطن1-صفحة الكاتب)
syriahomenews أخبار سورية الوطن
