علي عواد
غطّت المقابلة مجموعة واسعة من المواضيع، من الحرب على الإرهاب إلى الهيمنة الغربية ودولة المراقبة
عندما تموت النجوم، تنفجر وتنتج غباراً نجمياً يتناثر في الفضاء لتتشكل منها الكواكب والأجرام السماوية الأخرى. هكذا رحل قائد المقاومة. في استشهاده، لم ينتهِ حضوره، بل تجسدت مقاومته في كل ذرة من هذا العالم، وصار أسطورة يرويها الجميع. صدى صوته لم يخفت، بل صار يتردد في وجدان كل من يناضل ضد الظلم والاحتلال. لقد تجاوزت روح السيد حسن نصر الله حدود الزمان والمكان وامتزجت بنسيج الكون، رمزاً خالداً للعزيمة التي لا تُكسر، ولتذكّرنا دائماً بأن المقاومة ليست مجرد فعل سياسي وعسكري، بل هي جزء من حركة الكون الثنائية بين الخير والشرّ
وقع نبأ اغتيال السيّد حسن نصر الله كالصاعقة، وترددت أصداؤه في شوارع بيروت وفي جميع أنحاء الشرق الأوسط وخارجه. فقد استشهد الأمين العام لحزب الله في عملية اغتيال ما هي إلا استمرار لقواعد الاستعمار الجديد في المنطقة. لكن تاريخ المقاومة اللبنانية، خصوصاً «حزب الله»، يشهد بأن استهداف القادة ليس بالأمر الجديد. اغتيال السيّد عباس الموسوي، الأمين العام السابق للحزب، في عام 1992 لم يُنهِ المقاومة، بل أدى إلى تصعيدها وتعزيز وجودها تحت قيادة نصر الله. فالفكرة الرئيسية التي نشأ عليها مقاومو حزب الله، والعديد من المقاومات الأخرى في العالم، هي أن الاستشهاد أو الاغتيال ليس نهاية المسار، بل هو جزء من التضحية المطلوبة لاستمرار القضية. بالتالي، بُني الحزب على أساس الاستمرارية، وهو تنظيم يستطيع التحرك بكفاءة بمعزل عن فقدان أي قائد.
لم يكن السيّد حسن نصر الله، مجرد شخصية عسكرية. لقد كان رمزاً للمقاومة ضد الإمبريالية الغربية والصهيونية، خصوصاً في لبنان وفلسطين. وفي ظل قيادته، أصبح حزب الله قوة هائلة، متحدّياً المخططات الاستعمارية الجديدة للولايات المتحدة وحلفائها، لا سيما إسرائيل. انتصار «حزب الله» ضد إسرائيل في حرب 2006 جعل من نصر الله بطلاً للملايين في كل أنحاء المنطقة، وشوكة في خاصرة أولئك الذين سعوا إلى فرض هيمنتهم. ولكن كما يُظهر التاريخ في كثير من الأحيان، فاغتيال قائد ثوري يؤدي إلى ما هو أكبر بكثير مما كان يتوقعه الظالمون. لم يؤد اغتيال نصر الله إلى إضعاف المقاومة، بل على العكس، فقد أصبح نقطة التقاء للملايين الذين شعروا بثقل الهيمنة الإمبريالية.
من الحركات الشعبية في أميركا اللاتينية إلى الاحتجاجات الجماهيرية في أوروبا وموجات التضامن في أفريقيا، بدأ العالم يربط بين نضالاته والقوى القمعية. وفي قلب هذه الصحوة العالمية بُعيد عملية الاغتيال، اكتشف شعب الإنترنت مقابلة السيد حسن نصر الله مع جوليان أسانج. وأعادوا النظر في ذلك التبادل بينهما، وما هذا سوى لمحة عن الوعي الذي انفجر حول العالم. غطّت المقابلة مجموعة واسعة من المواضيع، من الحرب على الإرهاب إلى الهيمنة الغربية ودولة المراقبة. وعندما أعاد الناس النظر في هذا الحوار، صُدموا ببعد نظر الرجلين. تحدث يومها نصر الله عن محاولات القوى الغربية للهيمنة من خلال القوة والعقوبات الاقتصادية والدعاية. وكان أسانج، قد فضح الآليات ذاتها التي سمحت لهذه القوى بالعمل من خلال برقيات ويكيليكس، وسجلات الحرب، والكشف عن المراقبة الجماعية. ما أدهش الناس ليس فقط مضمون محادثتهما، بل العلاقة الرمزية بين الاثنين. فنصر الله، القائد العسكري، مثّل الكفاح ضد الإمبريالية الخارجية، في حين أن أسانج، الصحافي، كشف عن الأعمال الداخلية القذرة لتلك الآلة الإمبريالية نفسها.
نصر الله، القائد العسكري، مثّل الكفاح ضد الإمبريالية في حين أن أسانج، الصحافي، كشف عن الأعمال الداخلية القذرة لتلك الآلة الإمبريالية
استعجال إسرائيل إعادة رسم المنطقة بعد استشهاد السيّّد حسن نصر الله، ظهر جلياً في رسالة نشرها على منصة «إكس»، أمس، صهر الرئيس السابق دونالد ترامب، جاريد كوشنر، الذي شغل منصب كبير مستشاري ترامب بين 2017 و2021. تعليقات كوشنر تعكس السردية الخاطئة التي تفترض بأنّ الهيمنة العسكرية، وليس الدبلوماسية والحق في تقرير المصير، هي السبيل لتحقيق السلام والاستقرار الدائمين. ما يحتفي به كوشنر باعتباره انتصاراً لإسرائيل والغرب ليس سوى فصل آخر في استمرار قمع لبنان وشعبه الذي تُختزل معاناته وتُعتبر مجرد أضرار جانبية في لعبة سياسية أوسع. إشارة كوشنر إلى أن «قطع رأس حزب الله» يعرّي إيران ويزيل تهديداً رئيسياً لإسرائيل تتجاهل السياق التاريخي لنشوء الحزب كرد فعل على الاحتلال الإسرائيلي للبنان، مستمداً دعمه من الناس التي تعرضت للتنكيل والقصف. والقول إن اغتيال نصر الله سيجلب «الخلاص» للبنان هو قراءة خاطئة جوهرياً لتعقيدات المشهد السياسي في البلاد. احتفاء كوشنر بعمليات الاستخبارات الإسرائيلية والضربات العسكرية الإسرائيلية يتجاهل الثمن الباهظ الذي يدفعه المدنيون اللبنانيون. ومن خلال تأطير اغتيال نصر الله كضربة استراتيجية بارعة، يعزز كوشنر سردية تبرر المزيد من عسكرة المنطقة، متجاهلًا العواقب الحتمية التي تنجم عن مثل هذه السياسات العدوانية. علاوة على ذلك، تركيز كوشنر على إيران باعتبارها الجهة الوحيدة لعدم الاستقرار في المنطقة هو محاولة متعمّدة لتشتيت الانتباه عن دور إسرائيل كقوة احتلال وعن الإمبريالية الأميركية المستمرة التي تدعم الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط. هذا التهجم المستمر على إيران، في مقابل التغاضي عن الجرائم التي يرتكبها حلفاء الولايات المتحدة مثل إسرائيل وغيرها، يعكس سياسة خارجية منافقة. فالسلام الدائم في الشرق الأوسط لن يتحقق من خلال فوهة البندقية أو بإزالة قادة مثل نصر الله، بل بمعالجة الجذور العميقة لعدم المساواة والاحتلال والإمبريالية. ما يغفل كوشنر عن فهمه – أو يتجاهله عمداً – هو أن دعم حزب الله لا يستند فقط إلى النفوذ الإيراني، بل أيضاً إلى المظالم المشروعة لشعوب عانت لعقود من العنف والقتل، ودعوته إلى «إكمال المهمة» ليست طريقاً نحو السلام، بل وصفة لمزيد من المعاناة والمقاومة.
في ظل العواصف السياسية والعسكرية التي تواجهها المنطقة، تبقى الكلمات التالية مرجعاً في مواجهة الظلم، سواء في لبنان، فلسطين، أو أي بقعة من العالم. إن الاستسلام لليأس يعني الاستسلام للمحتل والمعتدي، وهو ما لا يمكن قبوله في عالم لا يزال مليئاً بالظلم والتفاوت. فكما قال سيّد شهداء المقاومة حسن نصر الله: «لا يجوز أن نيأس. اليأس هو خُلُق الضعفاء. هو خُلُق الفاشلين. هو خُلُق عديمي الإرادة وفاقدي العزم. أما أنتم، أما نحن الذين وقفنا في وجه العواصف العاتية، وصمدنا وبقينا وانتصرنا، لا يمكن أن نسمح لليأس أن يتسلل إلى قلوبنا».
سيرياهوم نيوز١_الاخبار