هالة نهرا
رنّمت للمسيح وللنبي محمد. في الذكرى الـ25 لرحيلها، كيف صنعت نور الهدى نجوميتها؟
نور الهدى، فنانة لبنانية وعربية كبيرة وأصيلة حُفر اسمها في التاريخ بحروف من ذهب. لم تنل نصيبها من الشهرة التي تستحقّها. اسمها الحقيقي ألكسندرا بدران. وُلدت عام 1924، وهي مغنية وممثلة شاركت في الكثير من الأفلام المعروفة، علماً أنّ نجوميّتها تتكثف في حنجرتها وخصائصها والتماعاتها وصداها.
في الذكرى الخامسة والعشرين لرحيلها، تضيء “الميادين الثقافية” على أهمّية صوتها الرقراق والوثير؛ ففيه شرفاتٌ وأقبية ومتاعٌ مخزَّن، وهو صوتٌ مخملي كان واثقاً منذ البداية من طاقته المتميزة في “السلطنة” الطربية، ومن طلاقته وانسيابيّته التلقائية وملاعبه الموسيقية المشرقية – العربية الرحبة.
من أبرز ما أدّته نور الهدى أغنية “يا جارة الوادي” (مقام البياتي) من ألحان “موسيقار الأجيال” محمد عبد الوهاب وكلمات “أمير الشعراء” أحمد شوقي. تكتسي الأغنية بصوت نور الهدى حلّةً مختلفة تماماً، إذ رصّعت المطربة المتمرّسة اللحن بجواهر الطرب الكلاسيكي في التصرّف الارتجالي.
في أداءٍ اختلف عن شدو فيروز الناعم والعذب، تبدّى حجمُ صوت نور الهدى مع قدراتها الخاصة في الترخيم الصوتي كمن يرخّم قصراً نغمياً، وفي الزخرفة والترجيع والتوشية والنمنمة والمدّ الصوتيّ والمدَد.
تمظهر التجلّي في حنجرتها، علماً أنّ الإبداع في غنائها يرتكز على الموروث الطربي المتحوّل نوعياً في مفهوم التطريب الارتجالي التقليدي وأصوله في المخزون السمعي المتراكم، مع صون خطوط اللحن العريضة، ورؤية الملحّن في إطارها العام وبصمته. هكذا، أصبحت نور الهدى من خلال أدائها شريكةً في العملية الإبداعية اللحنية على مستوى القدرة على توليد الدهشة الطازجة لدى المستمعين.
من ضمن أفلامها فيلم “لست ملاكاً” الذي عُرض عام 1946 من بطولتها مع محمد عبد الوهاب. وقد غنّت “شبكوني ونسيوني أَوام وفاتوني ولا حتّى سلام” (1946) التي افتتحتها بصوتها واستكملها عبد الوهاب. كذلك، غنّت لعبد الوهاب عام 1945: “الدنيا ساعة وِصال ننسى الوجود فيها”، والتي تُعَدُّ من روائعها.
تجدر الإشارة إلى أنّ رياض السنباطي قال “إنها من الأصوات النادرة”. خلال مسيرتها، أدّت الموشحات والأغاني، ورنّمت التراتيل المسيحية الكنسية البيزنطية الأرثوذكسية ببراعة وشخوع، ولمعت في “اليوم عُلِّقَ على خشبة” (عن السيد المسيح).
كما أدّت “رتِّلوا آيَ الكتابِ المُنزلِ”: “وانشدوا في المجدِ أعلى مَنزلِ/ فهو ميراثُ النبيّ المُرَسلِ/ سيّد الأكوانِ شمس المرسلين/ شرعة الحق ونبراسُ الوئام/ (…)/ لفظةٌ منه تنير الظلمات/ آيةٌ منه تضيء الكائنات/ حكمةٌ منه تفوقُ النيّرات/ من سناهُ أشرقَ الصبحُ المبين”. وقد كان ذلك في إشارة إلى القرآن الكريم والنبي محمد، علماً أن الأغنية من ألحان رياض السنباطي وفقاً لما يُشار إليه في مصادر عديدة.
كما غنّت “هل هلال العيد عَ الإسلام سعيد” من ألحان فريد الأطرش وكلمات بيرم التونسي، و”أقبلت يا رمضان بالخير والبركات”، وأدّت “إيدوا الشموع واسقوا الشربات وغنّوا من فَرْحُكُو يا بنات” من ألحان محمد القصبجي.
الفيلم الأوّل الذي شاركت فيه كان بعنوان “جوهرة” عام 1943، علماً أنه من تأليف وإخراج يوسف وهبي الذي اكتشف ألكسندرا، ثم عُرفت بعد ذلك باسمها الفنّي نور الهدى.
في المقابل، غنّت على سبيل المثال “عالميج الميج الميجانا” التي تتدثّر بنكهةٍ محلّية لبنانية مختلفة (من كلمات عبد الجليل وهبي وألحان نقولا المنّي)، وأدّت الفولكلور في أمثلة “عَ اليادي”، و”على دلعونا”، و”يا غزيّل يا بو الهيبة” الأصيلة مقامياً في احتوائها ثلاثة أرباع الطَّنين، لا المعدَّلة على مقام العجم في النسخة الرائجة في زمننا الراهن بأصوات متنوّعة.
أتقنت أداء الموشّحات العربية، وغنّت لبلدها أغنية “اسمك يا لبنان” و”بلادي” من ألحان توفيق الباشا. وقبل أن تسافر إلى القاهرة، كانت مطربة تغنّي في المسارح. وعندما سمع رياض السنباطي صوتها في مصر، لحّن لها “يا أوتوموبيل يا جميل مَحلاك”.
تلحين الكبار لها (محمد عبد الوهاب، والقصبجي، والسنباطي، وزكريا أحمد، ومحمد فوزي، وعبد العزيز محمود، وأحمد صدقي، وسواهم)، ينمّ عن مدى اقتناعهم بشخصية صوتها المستقلّة والناضجة وجماليّاته وطواعيّته، والإضافات التي كان يمكن أن تضفيها على الألحان، والإغناء والرونق اللذين كان باستطاعتها أن تسبغهما على الألحان عبر حنجرتها.
قدّم فريد الأطرش صوتها في “مين علِّمَك كِدَه” قائلاً: “أنا سعيدٌ جداً بتقديم هذه المفاجأة. صوت نور الهدى أسْهَمَ بفنّه في إسعاد جمهور كبير، وهذا الصوت له عشّاق”.
كرّمَ لبنان نور الهدى بوسامٍ من رئيس الجمهورية إلياس الهراوي عام 1997، واستقبلتها السيدة الأولى منى الهراوي في قصر بعبدا، وقلّدتها الوسام تقديراً لتاريخها الفنّي الزاخر وعطاءاتها لإثراء الغناء اللبناني والعربي والفنّ الراقي وأفْضِيَتهما.
رحلت نور الهدى عام 1998 وكانت تشعر في سنواتها، بل في عقودها الأخيرة، بأنها مغبونة. وقد كانت فعلاً تستحق رعايةً فُضْلَى من الدولة اللبنانية التي تُهمل الإنسان والمثقف والفنان والمبدع، إلا في بعض التكريمات والأوسمة الشكلية أحياناً التي لا تسمن ولا تغني من جوع. عبّرت نور الهدى عن قهرها على هذا الصعيد وعن سخطها في صرخة غضب وكرامة وصلت إلى الإعلام اللبناني.
مواءمة نور الهدى بين الغناء والترنيم المتدثّرين بطابعٍ دينيّ وبين الطرب الدنيويّ الآسر كانت طبيعية جداً وتلقائية، وصادرة أساساً عن فطرتها وانفتاحها ونزعتها وطيبتها وقناعاتها، فنور الهدى المسيحية كانت مؤمنة بالقيَم الإنسانية التي تكتنفها الديانات السماوية ورسالة الفنّ الإنسانية النبيلة، وشكّل صوتها العربيّ واحةً جمالية يلتقي حولها الناس والذوّاقة على اختلاف جنسهم ودينهم ولونهم ومَشْرَبهم.
نور الهدى نجمةٌ شديدة الوهج لا تتكرّر في سماء الفنّ العربي الرفيع، وهي قيمةٌ صوتية وفنية لم تقدَّر في لبنان بما تستحقّه من اعتبارٍ واحتضانٍ معنويَّين وماديَّين لازمَين لها ولأمثالها على مرّ الزمن.
سيرياهوم نيوز 1_ الميادين