رواية “الخرزة”، رواية البطولة لنفر من المقاومين الفلسطينيين المثقفين، حملة الشهادات الجامعية الذين تركوا أعمالهم وأشغالهم من أجل مقاومة الإسرائيليين في انتفاضة سنة 2000.
بلى،
ما زالت الكتابات الفلسطينية الطالعة من سجون الاحتلال الإسرائيلي ذات حمولة وطنية عالية في قولاتها ومضامينها وأهدافها، وغنية في إبداعها وحرصها على التشكيل الفني، والأخذ بأحدث تقنيات الكتابة التي تزاوج بين أساليب الكتابة التي عرفتها مدونات التراث الشعبي من السير إلى الحكايات، ومن الخبر إلى المرويات التي لها علاقة بالخيال والمجاز، إلى أساليب الكتابة الحديثة التي تبنّت تيارات التراسل ما بين الفنون والآداب، والمونولوج الداخلي،وتداعي السرد الحر، والتغريب والمناقلة بين الواقع والعالم العلوي، والعالم السفلي، والسعي لتوظيف مضامين العجائبية والأسطورية والميثولوجية من أجل مدّ النصوص الإبداعية (شعر، رواية، قصة، مسرحية) بالدهشة والغنى في آن معاً.
ومن هذه الكتابات اللافتة للانتباه رواية “الخرزة”، التي صدرت عن دار الفاروق في نابلس سنة 2020 للأسير الفلسطيني منذر مفلح، المولود في الكويت سنة 1976، والمنتمي إلى أسرة نابلسية عانت ظروفاً صعبة جداً من التهجير والنفي والتشرد طويلاً في البلاد العربية والأجنبية، بسبب انتماء معيل العائلة (الأب) إلى المقاومة الفلسطينية، لقد هجّرت العائلة نفياً إلى الأردن ثم إلى الكويت، ثم إلى لبنان، ثم إلى سوريا، ومن بعد وصلت إلى أميركا اللاتينية، ثم عادت إلى مدينة نابلس، واستمرت روح المقاومة حية كميراث يتوارثه أبناء الأسرة، ومنهم الابن البكر منذر مفلح الذي عرف المعتقلات الإسرائيلية وهو طالب في المدرسة الثانوية في مدينة نابلس سنة 1994. وبعد السجن والتحقيق معه، خرج ليتقدم لامتحان الشهادة الثانوية، ونجح بتفوق، وانتسب إلى كلية الإعلام في جامعة النجاح في مدينة، وحاز شهادة البكالوريوس، وكان حلمه أن يأخذ الشهادات العليا أيضاً، لكن انخراطه في المقاومة، وحضوره الوطني، قاداه إلى السجن، فواصل الدراسة في الزنزانة، وحصل على شهادة الماجستير من جامعة القدس، وهو اليوم يدرس للحصول على شهادة الدكتوراه، داخل السجن، على الرغم من الظروف الصعبة في الحصول على المراجع والكتب والدراسات المؤيدة له، حكم على منذر مفلح بالسجن 33 عاماً، اعتباراً من سنة 2003، وأمضى في السجن 21 عاماً، كتب خلالها إبداعاته في الشعر والقصة والرواية والدراسات الفكرية والتاريخية.
ومن وجوه مقاومة هذا الأسير البطل، حرصه على الإبداع الأدبي. لقد كتب روايته، “اللحظة”، في نحو 1200 صفحة، وهي تتحدث عن تاريخ الصراع العربي – الصهيوني، وعن ثورات الشعب الفلسطيني،ومقاومته للاحتلال الإنكليزي في بدايات القرن العشرين، ومقاومته للاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1948، لكن الرواية لم تر النور لأنها صودرت من زنزانته في سجن جلبوع سنة 2004، فأعاد كتابتها مرة ثانية وبصبر عجيب. وحين انتهى من كتابتها هربها إلى سجن أريحا، لتصل إلى القائد أحمد سعدات السجين في زنزانة، مراقَبة في الليل والنهار، من أجل أن يكتب مقدمة لها، لكن السجان اكتشف الرواية فصادرها مرة ثانية وأحرقها سنة 2006، فقام منذر مفلح بكتابتها مرة ثالثة، وبعزم أوفى من المرتين السابقتين، وحين انتهى منها، حاول إعادة إرسالها إلى القائد أحمد سعدات، لكن محاولته اكتشفها السجان الإسرائيلي، وهي في طريقها إلى سجن أريحا، فصادرها مرة ثالثة وقام بإحراقها أيضاً. وبسبب الحزن الشديد الذي انتاب منذر مفلح، أقلع عن كتابتها مرة رابعة.
رواية “الخرزة” التي هي بين يدي، هي رواية المقاومين الشجعان في مدينة نابلس، الذين قادوا النضال في مدينة نابلس في زمن الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي اندلعت سنة 2000، فتصور أفعالهم البطولية وهم يصنعون القنابل، بما تيسر لهم من قطع الحديد ومواد التفجير، التي زرعوها في الطرق التي تمر فيها سيارات العدو الإسرائيلي وجرافاته عادة، إنها رواية المشاعر الوطنية التي عرفها المقاومون، وقدراتهم الفذة التي أرعبت الإسرائيليين، وحالت بينهم وبين دخول مناطق كثيرة في نابلس، ومنها المخيمات، وقدراتهم أيضاً على توظيف الخبرات في تصنيع قنابل (الأكواع)، والألغام الأرضية، والقنابل اليدوية، واستخدامها في مواجهة قوات الجيش الإسرائيلي. وتوقفت الرواية عند معاني صرامة التنظيم للمقاومة الفلسطينية، والحرص على السرية في تنفيذ العمليات ضد الآليات الإسرائيلية، وتصيد الجنود الذين تجاسروا فدخلوا حارة الياسمينة في نابلس وبصورة استعراضية لا تخلو من التفاخر والغرور، فكان مصيرهم الموت المحتم.
رواية “الخرزة”، رواية البطولة لنفر من المقاومين الفلسطينيين المثقفين، حملة الشهادات الجامعية الذين تركوا أعمالهم وأشغالهم من أجل مقاومة الإسرائيليين في انتفاضة سنة 2000 بعد أن دمّر الإسرائيليون، على نحو وحشي همجي، وجوه الحياة في مدينة نابلس، وحاصروا أحياء المدينة، وشلّوا حركة الناس فيها، وأغلقوا المدارس، وراقبوا حركة المستشفيات، وفتشوا سيارات الإسعاف، وقيدوا حركة الأسوق، لكن المقاومة، من خلال المجموعة التي تتبناها الرواية، استطاعت أن تُفشل خطط الإسرائيليين الذين أرادوا قتل الحياة في مدينة نابلس وشلها.
تبدي رواية “الخرزة” صلابة المقاومين الفلسطينيين، وقوة الروح النضالية، والشجاعة المبهرة في مواجهة الإسرائيليين في الليل والنهار، الأمر الذي أدى إلى خروج الآليات الإسرائيلية من مدينة نابلس، وإنشاء حواجز إسرائيلية في أطرافها.
أما سبب تسمية الرواية بـ”الخرزة” فيعود إلى عثور أحد مقاومي مجموعة نابلس، بعد أن أُسر، وأودع في السجن، على خرزة في جيبه، فجعلها تعويذة شعبية تربطه بأهله، ولاسيما أمه، ومدينته، وتراثه الشعبي النابلسي، فيسرد الكاتب منذر مفلح قصصاً كثيرة عن الأدوار التي أدتها حبات الخرز في حياة الأسر الفلسطينية في نابلس، بصفتها “تعاويذ” دافعة للشر بعيداً عن الأبناء والآباء، وحافظة لحيواتهم التي يراد لها البقاء من أجل إكمال مسيرة النضال والمقاومة الهادفين إلى طرد المحتل الإسرائيلي من الأراضي الفلسطينية، ومعانقة الصباحات الوطنية، ورؤية شعاع الضوء الهابط من الشمس، والمنعكس على سطح الخرزة التي نالت حريتها افتكاكاً من عتمة الزنزانة حين نال صاحبها الأسير حريته المنشودة.
“الخرزة” رواية مكتوبة بانتباهات وطنية عالية، وبوعي شديد للواقع المعيش، وحرص كبير على التاريخ، والجغرافيا، والذاكرة التي تستدعي التراث الشعبي بكل غناه وأهدافه وغاياته، وبكل عاداته وتقاليده وأعرافه وتصوراته الوطنية من أجل إسناد الحياة الراهنة وهي تتطلع إلى المستقبل المحلوم .
اخبار سورية الوطن 2_الميادين