عزيز باكوش
رواية سباق المسافات الطويلة للسامق عبد الرحمان منيف تحفة إبداعية أكثر من رائعة، ليس لكونها تركز على نقاط محددة في تاريخ الصراع الحضاري المريب بين الشرق والغرب ،عبر دهاليز وأجهزة الإستخبارات . حيث تسود المتعة القصوى بشرط معرفة تاريخ الانسحاب، ويبرز التصور الكولونيالي الغربي جليا ،وتكنشف عاريا أطماعه للشرق الأوسط عموما وللشرقيين قيما وثقافة على نحو خاص إن بظاهر الاكتشاف أوالاستشراق. وإنما لكونها تجسد إعلانا إجرائيا صريحا لتفعيل رؤية الغرب القائمة على السيطرة بالقوة والنفوذ بمكر بالغ الجودة ، وترسيخ اهتمامه البراغماتي ومطامحه الانتهازية على أرض الشرق المتمثلة أساسا في سرقة الثروات النفطية بشكل خاص من قبل قوتين عظيمتين هما بريطانيا وأمريكا .
كتبت هذه الرواية على شكل مذكرات خاصة لأحد دهاقنة الاستخبارات البريطانية. والهدف حسب توجيهات لندن لعميلها بيتر ” أن نسخر كل شيء لمصلحتنا ،لتحقيق اهدافنا ،النساء ،والمال ،والقتل . حتى الرياح والطيور إذا أمكن تسخيرها يجب ألا نتردد” وقد أجمعت الكثير من المقاربات الأدبية التي تناولت الرواية الذائعة الصيت للروائي العربي الكبير على اعتبارها ” مذكرات كتبها المبعوث البريطاني “بيتر ماكدونالد” في إيران بعد قرار تأميم النفط . والمذكرات في الجوهر،محاولة لاستعادة السيطرة وزمام المبادرة مرة أخرى ،وتحصين المكاسب البريطانية التي كانت تستولي على النفط الإيراني بالتفاوض مع المعارضة وإثارة الفتن ضد حكومة مصدَّق، في نفس الفترة التي تواجد فيها مبعوثو الولايات المتحدة الأمريكية.”
لكن الشرق ليس لقمة صائغة ،كما تصوره راندلي كبير الاستخباراتيين اللندنيين والمشرف العام على الدائرة برمتها، على الرغم من كونه مستودع للتناقضات من جميع الأنواع والمستويات .العصور الحجرية إلى جانب العصور الحديثة ،أكثر النظريات تخلفا إلى جانب أكثر النظريات تطرفا وحداثة ، أقصى حالات الشجاعة الفردية إلى جانب أقصى حالات فوضى التنظيم. كل شيء في هذا الشرق يثير الاستغراب والتساؤل” لذلك نصحه راندلي قائلا : كن شرقيا بكل معنى الكلمة،إلا أن ضغط العيش والتفكير بلغة لا تفهمها فهما كاملا،واضطرارك إلى تناول أطعمة لا يهضمها إلا الوحوش،والى لبس الملابس الغريبة …ومصاعب التعامل وقساوة المناخ أمور ينبغي التفكير بها بشكل جدي قبل ركوب هذا المركب الخشن” ص 93
ad
وكما هي عادته دائما عبر كرونولوجيا منجزه الأدبي البليغ ” يدمج عبد الرحمان منيف التاريخ الواقعي بالخيال الروائي، والحاصل عمل إبداعي فاتن الروعة باذخ للغاية . رواية فادحة تعبِّرعن واقع سياسي واجتماعي متناحر يتنفس وسط بحر من الشكوك تطوقه من كل جانب. واقع لا يكف عن الانجراف البطيء نحو الهاوية ، صاغه بأسلوب أدبي جميل سلس وجذاب ، هي عادة دأب عليها هذا العملاق في روائعه ” الأشجار واغتيال مرزوق ، حين تركنا الجسر، خماسية مدن الملح، قصة حب مجوسية ،وشرق المتوسط، والآن هنا. الديمقراطية أولا الديمقراطية دائما”
عندما أقرأ رواية” سباق المسافات الطويلة” في طبعتها الخامسة 1992 أجد فيها أسلوبا رصينا ،وتحليلا عميقا للذات العربية الحالمة ،ونظرة متفحصة واعية للخطر المتربص بها والملتف حول عنقها عبر العصور والأزمان ، ( إن من يملك الشرق يملك العالم ) إنها تيمة أدبية رفيعة راهنة ،يتشابك فيها الأدبي بالنفسي بإتقان مبهر،وينصهر فيها السياسي بالواقعي والموضوعي بالاستشرافي ،بلا مساحيق بشكل سلس وبالغ المتعة والإحالة ،لتشكل عالما إبداعيا عربيا جديرا بالإشادة والعالمية بامتياز . كل شيء في الرواية يأتي في موعده عند منيف ، الترميز يأتي في محله ، والغضب لا يخالف السياق، وبينما يختل التوازن في المفاوضات، تطرق الشهوة الشيرينية باب العاشق بيتر في أوج هيجانه واشتعاله العاطفي . وعندما تستجيب شيرين فسوف يقتحم بيتر عالم المنافس الأمريكي الأرعن ،وسوف يدفعها لأن تضع أذنيها حيت يريد راندلي.
لقد تملك هذا الأديب الألمعي قدرة هائلة على توليد الأفكار وتناسل التيمات الموضوعاتية المتجانسة ، قوة خرافية في البناء والتماسك الدرامي للأحداث بشهوتها المدمرة واجتياحها البائس . بحيث يجعل القارئ متلهفا شغوفا متخما باللذة والقراءة ، متأهبا لالتهام عشرات الفصول دون كلل أو ملل ، بفضل أسلوب ساحر فائق السحر واللذة . وكما هي الحياة في الشرق حيث التقليد وقساوة الطبيعة، كذلك أمر البشر وسلوكهم “صيف لاهب مشتعل تنبع فيه الشمس في الأرض والجدران والأشجار”.
في ذلك الشرق عاش “بيتر ماكدونالد” حقبا سياسية متقلبة جارفة ، راقب فيها انهيار سلطة الامبراطورية التي طالما اعتبرت السيطرة على الشرق رمزاً لقوتها. روض طاقما استخباراتيا براغماتيا بسقف طموح غير متجانس ” شيرين النمرة الشرسة ، القطة والثعلب ، عباس، ميرزا، شرف آية الله ، شخصيات من واقعنا المرير ،مشحونة بحمولة انتظارية تفيض بالقسوة والقذارة معا .
ونخلص في سباق المسافات الطويلة ، إلى أن من يفوز هو صاحب النفس الطويل ،والقدرة على التحمل والمراوغة، فالمناورة والخدع وأشكال التضليل ، وتغيير الأساليب ، والانسحاب في أوج المتعة ،مع ضبط أوراق اللعب بحساسية مفرطة ،طريق سالك نحو التحكم في النسيج المجتمعي وتلغيم محيطه ،ودفع الحساسيات والأطياف المدنية نحو الاعتقاد بالمؤامرة الخارجية دون أدنى دليل . لقد أبدع عبد الرحمن منيف رواية ملهمة قائمة بالأساس على الواقع كما هو والتاريخ كما كان وسيكون . والفاعلون قوى غربية الهوى ،سلطوية النفوذ ،براغماتية الرؤية، أما المفعول به هو العجوز ، فيما الهدف الأكبر هو تطويع الشرق والسيطرة على وثرواته. في فترات تاريخية مضطربة وما ترتب عنها من مشاكل سياسية واقتصادية مؤثرة .
يعرض منيف بوصف بالغ الذكاء مختلف الوسائل المعتمدة لدى أجهزة الاستخبارات الغربية ، الغير مشروعة والمؤثرة في توجيه العملاء و توجيه الشخصيات المستهدفة ، النساء ،والليالي الحمراء الغرف المضيئة على الدوام والمشتعلة بكل الموبقات وتغيير السياسات حسب مستجدات الأرض ،استخدام المال بسخاء وإذكاء الفتن الدينية بين الطوائف ، توظيف الصحافة لتشتيت الرأي العام و نسج المؤامرات وطمس الفاشل منها ،وتدبير الاغتيالات بهدف زعزعة الاستقرار المدني والتفريق بين القوى والحساسيات السياسية الداخلية. ثمة أساليب مروعة ومريبة في فن التمويه خلال المفاوضات والمناقشات بين القوى الغربية المهيمنة والماسكة لخيوط اللعبة . وعلى امتداد السرد، تظهر بجلاء ثقافة الشرق بإكراهاته وإشكالاته وتناقضاته ومواقفه المريعة
تتحدث الرواية عن صراع أجهزة الاستخبارات الغربية ضد إيران . بالطبع الروائي الداهية لم يشر إلي البلد صراحة لكنه، استخدم أسماء وألقاب و تشبيهات تجعل القارئ يستنبط ملامح الأحداث والأشخاص والأمكنة . لنتفق أولا على السباق نحو الهيمنة على الشرق هو الخيط الناظم لهذه الرواية الملهمة بكل اللغات. أن السباق لم يكن سوى الصراع بين الاستخبارات البريطانية والأمريكية، أما الراوي فهو عنصر الاستخبارات البريطاني “بيتر ماكدونالد” لقد تمكن هذا المارد بفضل توجيهات لندن ، الاستثمار بنجاح في مشاريع استخباراتية مذهلة لفترة بهدف الإطاحة بالعجوز “إيران” التي لم يتعمد ذكرها لأسباب موضوعية .
وفي الوقت الذي كان العميل بيتر يحذر لندن من الوجود الأمريكي في الشرق باعتباره منافسا شرسا لأهداف الإمبراطورية ، و قدرته متعددة الأوجه في التأثير من خلال المساعدات الغذائية ودعم التحالفات الخفية مع بعض عناصر الجيش و أيضا مع جيل من الصحافيين و الفنانين ،و لم تستثني المساعدات الأمريكية رجال الدين وبقوة ونعومة هادئة . ظلت لندن تؤكد بمختلف الوسائل أن مصالح مشتركة تجمع بين بريطانيا وأمريكا طالما أن الهدف واحد هو إسقاط العجوز “، المسألة ليست في القدرة فقط بل في التراكم الحضاري وإرث الخبرة.”
في هذه الرواية يتعلم السياسي ويتمرن كيف تعمل أجهزة الاستخبارات؟ كيف تحرك الكادحين للتظاهر بمهارة ؟ ويميز نوعية الشعارات التي يتم ترديدها ،وتختلف حسب دقة المرحلة وحساسيتها . ويدرك دهاليز السلطة ،ومؤامراتها، وأشكال التفاوض ،وفرض الآراء دون كلمة رفض واحدة، وكيف تتحرك أجهزة الاستخبارات للتخطيط ورسم قوالب الانقلابات والأدوات المستعملة من التوظيف والتحريض والإغراء، وصولا إلى الاغتيالات وطمسها ،ونسف المكونات المجتمعية ، وإشعال فتيل المواجهات بين رجال الدين وقوى المعارضة من اليساريين وغيرهم ،و متى يمكن أن تترك الأمور تسير علي مهل ، إلى أن تصل إلى حد التضحية ببعض عناصرها ،واستبدالها بوجوه جديدة . وتعبئتهم للتظاهر ضد ممثليها الحقيقيين، بل و لمصلحة أعدائها. وعند كل قراءة تمنح القارئ كل الأبعاد التي تكتنف أجهزة الاستخبارات التي تتلاعب و تنتقل وتتحرك داخل مناطق النفوذ بدهاء وخبث ماكرين ، بأياد داخلية تعبث بتزوير الإرادات وإذكاء النعرات.
كيف تسنى لهذا السامق المنيف أن يبدع عملا بهذا السحر والجاذبية ؟ لقد كتب للعرب والمسلمين مستقبلهم ببراعة لا توصف لقد قرأت لمنيف الأشجار واغتيال مرزوق بداية الثمانينيات ،واستلهمت منها اسم بطلها لأحد أبنائي . قرأت في مرحلة شبابي رواية سباق المسافات الطويلة صيف 99 . وعدت لقراءتها ثانية الآن وهنا بفارق حوالي ربع قرن. وبدا لي أن كل شيء من مخططات الغرب ضاع وبقي العجوز حاكما .
أما على سبيل البوح ، فقد سحرني الأسلوب الواقعي للأحداث السياسية في القرن الماضي، كما حبكه المنيف . فصرت أفهم الدوافع والحبائل والشراك ، وقوانين اللعبة السياسية في أدق تفاصيلها . وهوس الغرب وجموحه للسيطرة على الشرق الأوسط والأقصى عبر دهاليز المخابرات وقنواتها المعهودة : النساء طعم لذيذ لا يستوي دونه التخابر مهما تلونت شكلياته
توقفت كثيرا عن قاعدة المعطيات الضخمة حول الشرق والمشارقة لدى بطل الرواية البريطاني “مستر پيتر ماكدونالد”، لقد أسهب حتى الثمالة في وصف عاداتهم وثقافتهم طريقة الأكل واللباس والتفكير حالات التردد، أوضاع الجهل، مواقف الانفعال، أشكال الفوضى ، ربما بسبب المناخ الحار الصحراوي الذي تغرق فيه المنطقة .ومن الغرابة أيضا بُعد نظر المؤلف ، و تنبؤه بالسياق السياسي الذي برع فيه نسجا وخيالا .
“إن الدم إذا بدأ في الشرق يصبح جريانه بسيطا وعاديا، ويمكن أن يتكرر كل يوم.” بهذه الجملة يختم بيتر ماكدونالد عميل المخابرات البريطاني مهمته الطويلة في مراقبة ما يجري. منيف يفوز بوصف الوضع (الشرقي) ؛ تدهشني قدرته على تقديم تحليل كامل لأثر الطبيعة والعادات والظروف في تشكيل حياة الإنسان الشرقي وسلوكه ومواقفه تجاه كل الأشياء.”
رحم الله عبد الرحمان منيف السعودي الأصل ،العراقي الثقافة،الأردني النشأة ،السوري العمل و الأمل و الزواج و الموت، الأديب والعالم مهندس البترول الذي أصبح أحد أهم الروائيين العرب على مر العصور .
في نهاية الرواية نقرأ ” واستمر الدوي واستمر رنين الكؤوس واستمرت الضحكات العالية في حديقة القصر حتى بعد أن ركبت السيارة وتحركت، كنت أسمع الدوي والرنين والضحكات كنت أسمع أصواتا قوية وكنت أسمع الأصداء وكان رأسي يمتلئ يشتعل بآلاف الصور ،وكنت لا أصدق ما حدث، وظللت أتساءل: هل وقع هذا فعلا؟ هل هو النهاية؟ هل هو بداية من نوع آخر؟.
(سيرياهوم نيوز4-رأي اليوم)