- حسام عبد الكريم
- السبت 23 كانون الثاني 2021
هذه المواقف الحادّة من النظام الحاكم في السعودية ليست مستغربة من الرجل الذي كتب «مدن الملح»، فهذه السلسلة هي بلا شك أعظم وأهم عمل أدبي/ تاريخي عن المملكة السعودية ومجتمع نجد والحجاز في القرن العشرين. إنها عملٌ ملحميّ حقيقي يتكوّن من حوالى 2500 صفحة كتبها عبد الرحمن منيف ما بين 1984 – 1989 في خمسة أجزاء سماها: «التيه»، «الأخدود»، «تقاسيم الليل والنهار»، «المنْبَتّ» و«بادية الظلمات».
السلسلة هي أعظم عمل أدبي تاريخي عن المملكة السعودية ومجتمع نجد والحجاز في القرن العشرين
قراءة «مدن الملح» تحتاجُ إلى نفس طويل، وإلى تركيزٍ وانتباهٍ شديدين. عنوان الرواية معبّر وناطق بما يكفي. هذه المدن هي من ملح، إذا هطل عليها المطر، فإنّها ستنهار دون شك. إنها مدنٌ شاسعة ببناياتٍ شاهقة وشوارع ضخمة وبنية تحتية رفيعة، ولكنها مصطنعة وليست حقيقية، بلا عمق ولا جذور. إنّها دول من إنتاج مقاولين وأجانب ونهّازي فرص، قبضوا ثمن شغلهم نقداً وسَلَفاً.
تناولت «مدن الملح» مجتمع الجزيرة العربية، وبالذات نجد والحجاز، قبل اكتشاف النّفط، وهو الذي كان يعيشُ في بيئةٍ بدوية متواضعة، وبحياة بسيطة جداً. سبّبَ اكتشافُ النّفط تغييراً جذرياً في البلاد، وأدى إلى تحوّل قيم المجتمع بشكلٍ مخيف ومتسارع. الصدمة حدثت بعدما جاءت الشركات الأجنبية وبدأت تشيّد مراكز لها في موران (الاسم الرمزي الذي اختاره منيف لبلد روايته) من أجل مشاريع الاستثمار واستخراج النفط. كانت تلك الشركات تضمّ في صفوفها رجالاً بيضاً ونساءً شقراوات (شبه عاريات) خلافاً للقيم السائدة. وضع منيف في «مدن الملح» شخصية استثنائية، وهو متعب الهذّال، الّذي كان حضورهُ مكثّفاً في الجزء الأوّل من الرواية، وهي شخصية أقرب إلى الحلم، نظراً إلى القيم والمبادئ السامية التي يحملها، وهو الغاضبُ المتوجّس بفطرته من الآخر الأجنبي، والذي دافع وبشدّة، عن أصالة المجتمع؛ رافضاً الاستثمار الأميركي، ومعتبراً أن النّفط صار نقمة لا نعمة. وقد أبدع عبد الرحمن منيف وهو يصف نهاية متعب الهذّال في الصحراء التي خرج إليها بصمتٍ رهيبٍ وحزنٍ تاركاً خلفه الأهلَ والولد، رفضاً لما يجري ويأساً مما رآه من تخاذل أهل قريته.
تحدثت الرّواية بالتفصيل عن ثلاثة ملوك: خريبط وخزعل وفنر، وصفاتهم تنطبق تماماً على الملوك الذين حكموا في تلك الفترة (عبد العزيز، سعود وفيصل). انتقل منيف في أجزاء روايته الخمسة من ساحات المعارك التي خاضها السلطان خريبط لتوحيد الجزيرة العربية وتثبيت حكمه فيها إلى مخادع نسائه وصراعاتهن وتأثيراتها على علاقات الأبناء وتنافسهم على السلطة. وانتقل من القصور ودهاليزها وحكايات الخدم والعبيد إلى حياة البسطاء من أهل البلد المأخوذين بالتحولات السريعة.
وشرحت الرواية تفاصيل انقلاب فنر على أخيه خزعل واستيلائه على الحكم، وكيف تحوّل «الملك» خزعل، صاحب الجاه والهيلمان، الى منفيّ تعيس في ألمانيا (جاءها لقضاء شهر عسل مع عروس جديدة) يثير الشفقة وهو غير مصدق لما جرى ويعيش أحلام اليقظة بأن «رجاله» سيعيدونه إلى البلد، وعندها سوف ينتقم ويعاقب كل الخونة الذين ناصروا أخاه الغادر! وكم كان رائعاً عبد الرحمن منيف وهو يغوص في أعماق عقل السلطان خزعل ويكشف عن هواجسه وطريقة تفكيره وأوهامه… كأنه كان هو !
ومن الشخصيات الرئيسية في الرواية «الدكتور صبحي المحملجي» الذي هو طبيبٌ شاميّ جاء طمعاً في الثروة في بلاد الفرصة الناشئة، واستطاع بذكائه ودهائه الوصول إلى «العود»، وهو المصطلح الذي يستعمله منيف للإشارة إلى الملك، وصار شخصاً لا يستغني عنه السلطان خزعل يوماً واحداً بعدما أصبح كاتم أسراره الصحية ومزوّده الرئيسي بالمقوّيات الجنسية. وبحكم العلاقة الخاصة جداً هذه، أصبح «الحكيم» من أهم الشخصيات في السلطنة وأكثرها نفوذاً وثراءً، قبل أن تتم الإطاحة به على يد الأمير/ السلطان فنر الذي اعتبره من رجال أخيه المخلوع. لكن ابنه «غزوان» الذي تعلم في أميركا، تمكّن من تجاوز أزمة أبيه وتابع المسيرة وصار من أثرى الأثرياء، بعد أن دخل في شراكات مع أمراء العهد الجديد وصفقات سلاح وسمسرة. كان غزوان يضع نصب عينيه دائماً نصيحة أبيه الحكيم: الوطن، يا غزوان، ليس البلد الذي تعيش فيه، ولا الأرض التي ولدتَ فيها. الوطن، يا غزوان، هو القرش الذي في جيبك.
اختلفت آراء الباحثين حول من يكون صبحي المحملجي في الحقيقة، فمنهم من اعتبره محمد خاشقجي، ومنهم من قال إنّه كمال أدهم، أو رشاد فرعون. وربما يكون هو كل هؤلاء مجتمعين. لكنّ آراء الباحثين لا تختلف على أن «مدن الملح» مثّلت نقلة نوعية في السرد التاريخي الأدبي وخلّدت الأديب المبدع عبد الرحمن منيف الذي قال: «وإذا كان لكل قريةٍ ولكل مكانٍ ذاكرةٌ وقلب، فإنّ المدنَ الكبيرة، خاصة التي تتكوّن وتتغيّر بسرعة، تفقد ذاكرتها وتتعلمُ القسوة بإتقان».
* كاتب وباحث من الأردن
(سيرياهوم نيوز-الاخبار)