لا شكّ في أن اللحظة التي اختارها الرئيس الروسي الأسبق، بوريس يلتسين، أو أُجبر على اختيارها للتنازل عن سُدّة الرئاسة لفلاديمير بوتين، مطلع الألفية الجديدة، تشكّل علامة فارقة في تاريخ روسيا، بين عهدٍ مضى غير مأسوف عليه لدى معظم المواطنين الروس، لكونه الشاهد على أعظم خيباتهم على الإطلاق، وعهدٍ آخر مثّل الحدّ الفاصل بين الخيبة والأمل.
من ظلّ الرئيس إلى زعيم بلا منازع
زعيم روسيا الجديد، الذي سطع نجمه أواخر عام 1999، يميل مناصروه إلى إسباغ هالة مشبَعة بالخيال والحنين على حدث تتويجه، وكأن الرجل قد انتدبتْه الأقدار لأداء «مهمّة مقدّسة»، ستجعل منه في نهاية المطاف «منقذ روسيا» و«باعث أوراسيا»، وليس فقط رئيسها. ولعلّ سيرة حياة الوافد الجديد إلى الكرملين، والمولود في 7 تشرين الأوّل 1952، وخرّيج الدائرة الدولية لكلية الحقوق في جامعة سان بطرسبورغ (لينينغراد سابقاً) عام 1975، كفيلة برسم معالم شخصيّته التي ظلّلت «مهمّته الرئاسية».
مكنونات تلك الشخصية كشفت جوانب منها سلسلة الحوارات الطويلة التي أجراها المُخرج الأميركي، أوليفر ستون، مع الرئيس الروسي، والتي تطرّق فيها الأخير إلى فصول من حياته، متحدثّاً عن العائلة المتواضعة في سان بطرسبورغ التي ينحدر منها، وعن والده الذي كان ميكانيكياً في أحد المصانع، قبل أن يلتحق بصفوف الجيش خلال الحرب ضدّ ألمانيا النازية أو ما يُعرف بـ«الحرب الوطنية العظمى»، ويَلقى حتفه لاحقاً خلالها. رحلةُ صعود فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين تبدو دراماتيكية؛ إذ عايش الضابط الشاب في جهاز الاستخبارات السوفياتية «KGB»، من مقرّ خدمته في ألمانيا الشرقية، تسارُع مسار الأحداث أواخر الثمانينيات مع انهيار جدار برلين، والتفكّك المدوّي للاتحاد السوفياتي. وهي تطوّرات نقلت الكولونيل في الجهاز الاستخباري إلى منصب مدني، حيث عمل بدءاً من عام 1994 مساعداً لعمدة سان بطرسبورغ آنذاك، آناتولي سابتشاك، الذي ارتبط ببوتين بعلاقة وطيدة. ومع انتدابه للعمل ضمن الفريق الحقوقي للرئيس بوريس يلتسين عام 1996، وتعيينه لاحقاً مديراً لجهاز الأمن الفيدرالي الروسي «FSB» (KGB سابقاً)، وسكرتيراً لمجلس الأمن القومي، بدأت مرحلة جديدة في عمر رجل سترتبط باسمه تحوّلات كبيرة داخل روسيا وخارجها.
بين عهدَي يلتسين وسلفه ميخائيل غروباتشوف، شاهد بوتين بشيء من الأسى والمرارة، حجم الفوضى والخراب الذي كان يحيق ببلاده يوماً بعد يوم، ومدى الإذلال الذي قاستْه موسكو بعد إعلان خروجها من الحرب الباردة مع الغرب، بثوب المنهزم، وتنازلها طواعية عن الكثير من مصادر قوتّها، بخاصة في أوروبا، حيث نجح الأميركيون والأوروبيون في فرْض هيكل أمني إقليمي على قياس مصالحهم، متجاهلين المصالح الروسية، وفق ما كشفتْه أحداث حربَي البلقان والشيشان الأولى من هشاشة الموقفَين السياسي والعسكري لموسكو أمام الغرب. واقعٌ سنحت الفرصة لبوتين لتغييره حين تضافرت عوامل داخلية ودولية لإيصاله إلى سدّة الحُكم، لعلّ أهمّها تأييده من قِبَل المؤسّسة العسكرية وقطاع واسع من الشعب الذي بدأ يحنّ إلى زمن الشيوعية.
الولاية الرئاسية الأولى: «المهمّة المستحيلة»
قبل وصوله إلى الرئاسة، حين اختير رئيساً للوزراء في آب 1999، وفي ظروف خيّم عليها مشهد الأزمات الاقتصادية والجيوسياسية المتلاحقة، والاضطرابات المعيشية والتحوّلات الاجتماعية العميقة في بيئة أدرك فيها الروس معنى الخوف والقلق على المصير، لم تكن للرجل، خلافاً للنمط المألوف عن رجالات السياسة الذين يميلون إلى إغداق الوعود الفارغة، مواقف واضحة وعلنية إزاء تلك الهواجس، لسبب بسيط وهو أنه أدرك مدى حراجة الوضع في بلاده، وأنه لا أجوبة جاهزة تكفل لها الخروج من النفق المظلم الذي دخلتْه مطلع التسعينيات. فلدى سؤاله من قِبَل أحد الصحافيين عن برنامجه الرئاسي، قبيل انتخابات 2000، أجاب بكل بساطة: «لن أفصح عنه»، وهو موقف وضعه في صورة اللوح الفارغ الذي يستطيع كلّ مواطن روسي أن يَكتب عليه أيّ شيء يريده، وأظهر ما بدا أنه نقطة ضعف وقوّة لديه في آن واحد، إذا ما أُضيفت إليه مهاراته في التواصل مع الجمهور حين فتَح أبواب الكرملين لحلقات لنقاش مع شخصيات من الطبقات الاجتماعية كافة حول القضايا الهامّة المتّصلة بشؤون البلاد، فضلاً عن شخصيّته الودودة.
هكذا اتّسمت مسيرة بوتين، لا سيما سنواته الأولى في الحكم، بالحذر والغموض، وبشيء من الصمت المتقَن والمقصود، في إطار الترويج لقناعاته الوطنية حول بناء الدولة، ولرؤاه السياسية والثقافية والاقتصادية لدور بلاده الخارجي في عالم ما بعد الحرب الباردة، والتي غالباً ما كان ينجح في تسويقها للرأي العام الروسي، متسلّحاً بالحاجة الشعبية إلى زعيم قوي ودولة قوية؛ المطلبَين الأساسيَين لنحو 70 في المئة و60 في المئة على التوالي من الشعب الروسي، وفق استطلاعات رأي أُجريت عشية الاستحقاق الرئاسي عام 2000. رؤى الزعيم الجديد، الذي بدا على دراية بما يحتاجه شعبه منه، سواءً حول شكل النظام السياسي للدولة، أو الدور الخارجي المنوط بها، جاءت مدموغة بلا أدنى شك ببعض من أحلامه وتصوّراته الجيوبوليتيكية، فكانت بمثابة «وصْفته السرّية» لإلهام شعبه وبعْث الروح القومية لديه من جديد، بهدف إعادة الثقة بروسيا ومكانتها العالمية، على نحو ما يشتهي الرئيس الشاب. مرّة أخرى، لعب القدَر «لُعبته» مع بوتين، على وقْع ارتفاع أسعار النفط في بداية ولايته الرئاسية الأولى عام 2000. آنذاك، تمكّن، مستفيداً من مُهادنته للغرب بعد أحداث أيلول 2001، من زيادة عائدات بلاده من الخام، واستثمارها لمعالجة بعض المشكلات الاقتصادية والمعيشية للمواطنين الروس، والتخفيف من أزمة المديونية الحادّة التي عصفت بروسيا. كذلك، انطلق من نجاحه في القبض على خيوط اللعبة في السياستَين الداخلية والخارجية، لإعادة فرْض الأمن ومكافحة الجريمة المنظمة، وقصقصة أجنحة أبرز وجوه الطغمة السياسية والاقتصادية الفاسدة التي تضخّمت ثرواتها بعد انهيار الحكم الشيوعي، جرّاء استفادتها من بيع مؤسّسات القطاع العام بأثمان بخسة، وهي مؤسّسات استطاع بوتين إعادتها على مراحل إلى إدارة الدولة، ليحقّق الناتج المحلّي الإجمالي الروسي بين عامَي 2000 و2006 نِسب نموّ سنوية قاربت 6.7 في المئة.
وبالنظر إلى أن تعريف الجيوبوليتيكا الروسية بعد الحرب الباردة ترَكّز حول «أيديولوجيا استعادة مكانة القوّة العظمى» للدولة، كما يوصّفها الباحث الروسي، ألكسندر ميخايلوف، فقد عَقد الرئيس الشاب عزمه على تجاوُز الإرث الصعب لحقبة يلتسين على الصعيد الخارجي، عبر إطلاق حرب الشيشان الثانية، مراهناً على أن الحصيلة النهائية لتلك الحرب ستحدّد طريقة التعامل الغربي مع روسيا مستقبلاً. وبالفعل، كان انتصاره فيها رسالة إلى الخارج باستعادة بلاده مكانتها العسكرية الدولية، وأخرى إلى الداخل باسترجاع هيبة الدولة، بما كان من شأنه تعزيز ثقة المدنيين والعسكريين على حدّ سواء بالنظام السياسي، إضافة إلى تقوية الشعور القومي لديهم، ما أسهم بدوره في ارتفاع شعبيّة بوتين إلى حدود 70 في المئة، وترسيخه كرجل قوي وزعيم مؤثّر وقتذاك.
الرجل الذي نجح في ترسيخ صورته أمام الجمهور المحلّي والدولي على أنه أحد رموز «القومية الروسية»، يمكن اعتباره في الحقيقة رجلاً براغماتياً بامتياز، كونه جمَع في مقاربته لقضايا الداخل والخارج بين مختلف المشارب الفكرية والسياسية في روسيا، وفي طليعتها تيّار «المؤسّساتية الدولية»، الذي يشدّد على أهمّية دفاع موسكو عن القانون الدولي، وتفعيل آلية عمل المنظّمات الدولية كالأمم المتحدة؛ و«تيّار الليبرالية الجديدة» الداعي إلى تعميق الانفتاح على الغرب، وتنمية الاقتصاد الروسي من خلال اقتصاد السوق؛ إضافة إلى «التيّار الأوراسي الشيوعي»، وتيّارات أخرى تدمج بين مختلف ما تَقدّم. فعلى مستوى السياسات الداخلية، وعلى رغم تبنّيه نهجاً اقتصادياً ليبرالياً في بعض الجوانب، فإنه يَعتبر أن العقيدة الشيوعية تشتمل على «أفكار جيّدة»، مؤكداً أنه عمل خلال الحقبة السوفياتية بكلّ قوّته لتترجَم على أرض الواقع، بدافع إيمانه العميق بها، وذلك قبل أن تصل إلى طريق مسدود، وفق تعبيره. وكنوع من الاعتزاز بالماضي السوفياتي، ورفْض التكفير عنه، تمت استعادة بعض الرموز القديمة للحقبة الشيوعية ومنها العلم الأحمر كرمز للجيش الروسي، والنجمة السوفياتية الذهبية، فضلاً عن إعادة فرْض النشيد القديم مع بعض التعديلات الطفيفة.
وبهدف إبعاد العوائق من أمامه، سعى بوتين، في سنواته الأولى، إلى كسْب ثقة النُخب الموالية للعهد السابق على غرار فولوشين، وهو كبير موظّفي الكرملين في عهد الرئيس يلتسين، بالتوازي مع تقاربه بصورة نسبية مع بعض الشخصيات الليبرالية الفاعلة في الاقتصاد، من أمثال أناتولي تشوبايس. ومع تحرّره تدريجاً من سطوة «الحرس القديم»، استعان الرئيس الجديد بشخصيات موثوقة، ممَّن يُعرفون بـ«السيلوفيكي»، أو «الرجال الأقوياء» ضمن الدائرة الضيقة المحيطة بالرئيس، وجلّهم من زملائه القدامى في الاستخبارات، كنيكولاي باتروشيف، الذي يشغل حالياً منصب سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي، وسيرغي شويغو، وزير الدفاع الأكثر قرباً للكرملين، أو من فريق عمله السابق مع عمدة سان بطرسبورغ، وعلى رأسهم ديمتري ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن الروسي حالياً، وهو رئيس ورئيس وزراء سابق.
الولاية الثانية: إرهاصات الصدام مع الغرب
إذا كانت حرب الشيشان الثانية قد طبعت الولاية الأولى لبوتين، كعنوان للتعاون بين موسكو وواشنطن في «الحرب على الإرهاب»، فإن ولايته الثانية شهدت إرهاصات صِدامه مع الغرب، لا سيما في الشرق الأوسط بسبب الغزو الأميركي للعراق. فمن «محطّة الفيتو الروسي – الفرنسي» عام 2003 رفضاً للمزاعم التي روّجها الأميركيون بشأن أسلحة الدمار الشامل العراقية لتبرير الغزو، إلى خطاب ميونيخ الشهير عام 2007، والذي هاجم فيه الرئيس الروسي بشدّة سياسات الهيمنة الأميركية، وصولاً إلى تمايز ديبلوماسية موسكو في التعامل مع الملفّ النووي الإيراني، تشكّلت معالم الوجه الآخر لروسيا في عهد بوتين. أبدى الأخير، على مستوى السياسة الخارجية، مرونة فائقة في التعامل مع الغرب، وبخاصة الولايات المتحدة، جاعلاً الحرب معه الملاذ الأخير للدفاع عن مصالح روسيا الحيوية، وفق ما أظهرتْه الأزمة الأوكرانية. هكذا، أجاد اللعبة الديبلوماسية وفنّ التسويات وفق مبدأ «توازن المصالح»، مثلما فعل في الملفّات المتّصلة بضبط مستويات التسلّح التقليدي والنووي، و«الحرب على الإرهاب»، حيث أمكن تأمين تلك المصالح بأقلّ التكاليف والأضرار، خصوصاً أنه يَعلم تماماً مواطن ضعف بلاده في معركة واسعة وشاملة مع الغرب. وعليه، لم يكن مستغرَباً من ساكن الكرملين، على مدى ولايتَين أولى وثانية بين عامَي 2000 و2008، وأخريَين بدءاً من العام 2012 حتى اليوم، أن ينصبّ جهده على عكْس مآلات انهيار الاتحاد السوفياتي، ومقاومة توسُّع حلف «الناتو» ونشْره قواعد عسكرية قرب الحدود الروسية، من أجل تهيئة الأرضية لعملية تفاوضية تعيد تشكيل مناطق نفوذ موسكو، وهيكلة الأمن الأوروبي والعالمي بصورة أكثر عدالة بالنسبة للأخير، خلافاً لما جرى مطلع تسعينيات القرن الماضي.
اتّسمت مسيرة بوتين، لا سيما سنواته الأولى في الحكم، بالحذر والغموض
«المبشّر بأوراسيا الجديدة»
ارتكزت العقيدة السياسية والعسكرية التي تقف وراء تحرُّكات الرئيس الروسي، إلى تصوّرات مُنظّري المشروع الأوراسي الذين يرون أن لا وجود لروسيا المستقلّة والمقتدرة إلّا في عالم متعدّد الأقطاب، وعلى رأسهم ألكسندر دوغين، الذي تُطلَق عليه في الغرب تسمية «عقل بوتين»، وسبق أن عمل مستشاراً في مجلس الدوما الروسي حتى عام 2003، وشغل منصب رئيس مجلس خبراء الجيوبوليتيكا للأمن القومي الروسي بعد ذلك. وكشكل من أشكال السير على خُطى التجربة «الأتاتوركية»، يشدّد دوغين على ضرورة أن يكون نظام الحُكم في روسيا «أيديوقراطياً» (أي يتبنّى عقيدة سياسية محدّدة)، بحيث يقوم على مأسسة نهج بوتين، كإرث أو كنهج أيديولوجي رسميّ متّبَع في إدارة السياستَين الداخلية والخارجية. وفي سياق رفْضه لنموذج الحُكم في الديموقراطيات الغربية، يعرض دوغين نظريته القائمة على تحكيم «أقلّية مقدّسة» يقع على عاتقها تحديد وجهة البلاد ومصيرها. ووفق هذه النظرية، وبشيء لا يخلو من فكر سياسي موغل في الدوغمائية، يستنسخ التقاليد السياسية لحقبة الممالك الدينية في أوروبا، يصبح بوتين هو «النبي المبشّر بعصر أوراسيا الجديدة».
وعلى رغم تنوّع الرؤى الفكرية حيال المشروع الجيوبوليتيكي المذكور، إلّا أنها تتقاطع عند نقطتَين أساسيتَين. تتعلّق الأولى ببناء شبكة من الشراكات البراغماتية مع بعض القوى المتوجّسة من واشنطن مِن مِثل تركيا، لدوافع اقتصادية أو نفعية، وكذلك بنسج التحالفات الاستراتيجية مع قوى مناوئة للولايات المتحدة كالصين وإيران، تشارك روسيا رغبتها في إيجاد توازن دولي بوجه الغرب، والدفاع عن القيم المحافظة الأخلاقية. أمّا النقطة الثانية، فتتركّز على حتمية التوسّع الجغرافي عند الضرورة، وأيضاً إيجاد تشابكات إقليمية جديدة أمنية واقتصادية وسياسية، برعاية أو مشاركة روسية، ضمن منطقة أوراسيا ذات الأهمية البالغة استراتيجياً. ولتأكيد هذا التوجّه، أعلن بوتين، في الأوّل من تشرين الأوّل 2000، أن روسيا الاتحادية هي دولة أوراسية، كإيجاز لبرنامجه على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية. وفي أثناء خطابه الوطني عام 2005، أكد التزام حكومته بالمبادئ الأساسية للمشروع الأوراسي، مشدّداً على أن «لروسيا مهمّة خاصة في قارة أوراسيا».
بوتينية أم دوغينية؟
مهما يكن من أمر، فقد برهنت الأزمة الأوكرانية، وقبْلها أزمتا سوريا وجورجيا، على تمسّك «قيصر روسيا»، بما بات يُعرف بـ«مبدأ بوتين» المتّسق مع قناعاته الأوراسية، والمرتكز بصورة جوهرية إلى أولويات بناء المِنعة الداخلية لروسيا، وتعزيز موقعها بين القوى الكبرى على مختلف الصعد، في نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب، لا يتجاهل المخاوف الأمنية لبلاده، ويقرّ بحقّها في دائرة امتيازات خاصة داخل الفضاء السوفياتي السابق، وبنفوذ معترَف به من قِبَل القوى الغربية، يليق بـ«المكانة التي تستحقّها» كقوة عظمى لها هيبتها وكلمتها المسموعة، ودولة نووية، وأحد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي. ففي أحد خطاباته إلى الشعب الروسي، قال بوتين: «نحن قوة عالمية، ليس بسبب أنّنا نمتلك قوّة عسكرية عظمى وقوّة اقتصادية محتمَلة، ولكن كذلك لأسباب جغرافية، وسوف نظلّ موجودين مادّياً في أوروبا، وآسيا، في الشمال والجنوب، كما لنا في كلّ مكان بعض من الاهتمامات والمخاوف».
ومع ذلك، لا تزال النظرية الأوراسية القائمة على تبرير التوسّع الجغرافي في الفكر الاستراتيجي الروسي في العهود القيصرية والشيوعية، لدواعٍ أمنية، تجد صداها في الكرملين؛ ذلك أن الأوراسيين الأوائل شدّدوا على فكرة «بؤرة التطوّر» أو «مناطق المصير الحاسمة» وفق تعبير علماء الجيوبوليتيك الأوراسيين الكلاسيكيين. وفي واقع الأمر، فإن المفاهيم المذكورة تستنسخ فكرة المجال الحيوي عند العالم الألماني، فريدريك راتزل، مع فارق يكاد ينحصر في إدماج مفاهيم الأوراسية المعاصرة في الاستراتيجية الروسية «التبشيرية»، كتجسيد عملي لـ«قوى الخير» (قوى البرّ) في مواجهة «قوى الشرّ» الأطلسية (قوى البحر). بمعنى آخر، تطرح الأوراسية نفسها مقابل الأطلسية، في مواجهة بينها وبين العولمة، قائمة على رفْض الأولى نموذج الثقافة «الليبرالية» الاستهلاكية بوصفها ثقافة تدميرية تقف خلْفها الولايات المتحدة، لمصلحة توجّه أيديولوجي أكثر محافظة وثورية في الوقت نفسه، على المستويَين الروحي والأخلاقي، وذي طبيعة «خلاصية» لمشكلات روسيا والعالم. وعلى ما يبدو، فإن التماهي شبه التام بين بوتين ودوغين في مقاربة العلاقات الخارجية لروسيا، تفسّره نظرة الأخير إلى إيران بوصفها «الحليف الأكثر أهمّية» لموسكو، و«حجر الزاوية» لتحالفاتها الأوراسية، إلى حد تحمّسه لضمّها إلى معسكر «الإمبراطوريات النووية» ضمن الحلف الأوراسي، في مواجهة «العدو المميت»، إضافة إلى تشديده على أهمّية العلاقة مع الصين، وإنْ كان يضعها في مرتبة «حليف الملاذ الأخير». هذا التوجه، الذي يندرج ضمن ما تسمّيه الأيديولوجيا الأوراسية «النزوح نحو الشرق»، جعل دوغين إحدى أكثر الشخصيات الجيوبوليتيكية الروسية المعاصرة شهرة، وتأثيراً في التوجّهات الاستراتيجية الكبرى لروسيا المعاصرة.
رؤية بوتين لمستقبل الأمن الأوروبي والنظام الدولي
من حرب الشيشان، إلى حربَي سوريا وأوكرانيا، بدا واضحاً حجم طموحات موسكو إلى فرْض دورها، بالقوّة العسكرية إذا تطلّب الأمر، في كلّ مرّة لا يوافق فيها الغرب على حلول سياسية تكفل لها مصالحها وهواجسها، سواءً على المستوى الإقليمي، أو الدولي. وبحسب الباحثة في معهد «بروكينغز»، أنجيلا ستِنت، فإن بوتين بنى تقديراته حين طرح مسألة إعادة تشكيل الهيكل الأمني الأوروبي مع المفاوضين الغربيين، قُبيل تَفجّر الحرب في أوكرانيا، على أنه يحقّ لروسيا امتلاك حق النقض «المشروع» في ما يتّصل بخيارات السياسة الخارجية لجيرانه، أسوة بوضعية الولايات المتحدة في دول أميركا الجنوبية، المتعارَف عليها كـ«حديقة خلفية» للأميركيين. وتشير ستِنت إلى أن مطالبات روسيا شملت التزام دول الجوار المباشر كأوكرانيا، ودول البلطيق والقوقاز، وكذلك السويد وفنلندا، الحياد التامّ، بما يضمن عدم انضمامها إلى أيّ حلف معادٍ لموسكو، فضلاً عن سحْب قوّات «الناتو» من وسط وشرق أوروبا، كما كان عليه الوضع عام 1997. وتضيف المسؤولة السابقة في الاستخبارات الوطنية الأميركية لشؤون روسيا وأوراسيا، أن الرئيس الروسي يبني تقديراته على ضعف الغرب، وإمكانية اللعب على التناقضات بين دول «الأطلسي»، وخصوصاً بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، من أجل ضعضعة تماسك الحلف، وصولاً إلى الإطاحة بالنظام الدولي الليبرالي القائم، والمهيمَن عليه أميركياً، وذلك باستخدام أوراق قوّة روسيا في الدفاع عن أمنها، ومواجهة المخطّطات الغربية في مناطق الأزمات، عبر خطوات مفاجئة وغير متوقعة.
فبوتين، الذي وصف انهيار الاتحاد السوفياتي بأنه «أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين»، والمتوجّس من وجود نوايا أميركية لتحويل أوكرانيا إلى قاعدة انطلاق لتهديد بلاده، على غِرار ما تعرّضت خلال الحرب العالمية الأولى، انطلاقاً من البوّابة بين بحر البلطيق والبحر الأسود، يتبنّى سردية مظلومية الشعب الروسي الذي وجد 25 مليوناً منهم أنفسهم خارج روسيا بعد تفكّك «النظام الشيوعي»، من بينهم 12 مليوناً داخل أوكرانيا وحدها. وفي هذا السياق، تشير مجلّة «فورين أفيرز» إلى مقال نشره الرئيس الروسي صيف عام 2021 بعنوان «حول الوحدة التاريخية بين الروس والأوكرانيين»، أسهب من خلاله في شرح تلك المظلومية، معرباً عن استنكاره تحوّل الملايين من مُواطنيه إلى أقلّيات داخل بلدان الاتحاد السوفياتي السابق، خارج ما وصفه بـ«الوطن الأمّ التاريخي»، علماً أن المقال تمّ توزيعه لاحقاً على الجنود الروس بهدف تبيان أهداف الحرب على أوكرانيا. ولعلّ أكثر ما يُقلق الغرب، أن ما يصنَّف ضمن خانة «الهواجس التاريخية» لروسيا و«المخاطر الجيوبوليتيكية» المحدقة بها، التي يروّج لها بوتين، تلْقى آذاناً صاغية في الشارع الروسي، ما يفسّر تصاعد شعبية الرجل بعد حرب أوكرانيا، تحت ذريعة حماية الأقلّية الروسية في دونباس، والنهج العدائي لكييف. ففي الأدبيات الروسية، تُعدّ أوكرانيا منفذاً جيواستراتيجياً لروسيا، فيما يحاول بوتين اليوم إعادة إنشاء المنطقة الجيوسياسية العازلة حول بلاده، والتي رآها الحكّام الروس، في العهدَين القيصري والشيوعي، جوهرية لبقائهم، مستندين إلى منطق مفاده أن جغرافية روسيا تمثّل مصيرها، وأن على كلّ حاكم تأمين أراضي البلاد من خلال التوسّع ما وراء الحدود، ودمْج الشعوب المجاورة كشكل من أشكال تحييد المخاطر بشكل استباقي.
نظرة الغرب
تتفاوت النظرة في الغرب إلى بوتين، لكن أوساطاً ديبلوماسية وسياسية وإعلامية عديدة تميل إلى تصويره كزعيم روسي متهوّر، ومتغطرس، فيما تَبرز في أوساط النخبة الأكاديمية أوصاف أكثر موضوعية. على هذا الصعيد، يرى رئيس قسم العلاقات الدولية في جامعة لندن للاقتصاد، البروفيسور فواز جرجس، أن معظم ما يأتي على ذكره الغرب والسواد الأعظم من سياسيّيه حول شخصية الرئيس الروسي، يفتقد إلى العمق في فهْم عقلية الأخير، معتبراً أنه ينطلق من اعتبارات سياسية ترمي إلى “شيطنة” مَن يوْصف بـ”قيصر روسيا الجديد”، ومحاولة تصويره “كقائد غير مؤهّل ومفتقد إلى العقلانية والتقدير السياسي. وينطلق جرجس من تلك الاعتبارات، للإشارة إلى وجود “نقص في الفهم الغربي للنظرة الاستراتيجية لبوتين”، مؤكداً في المقابل أن الرئيس الروسي يختار معاركه بطريقة حسّاسة جداً، ذلك أنه يمارس السياسة على طريقة لاعب الشطرنج، الذي وعوض أن يكشف عن كلّ تحرّكاته مرّة واحدة، يتحرّك بشكل تدريجي بعد أن يقوم بقياس ردّة الفعل قبل الخطوة التي تليها.
بدوره، يميل رئيس “مجلس التفاهم العربي البريطاني”، كريس دويل، إلى تأييد آراء جرجس بشأن مدى تعقيد شخصية بوتين “المتعصّب لكلّ ما هو روسي”، و”الذي يحسب ردود فعل الغرب بعناية”، معتبراً شخصيّته صعبة القراءة، وصعبة التوقّع. ويعتقد أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة شيكاغو، جون ميرشماير، من جهته أن محاولة فهم شخصية الرئيس الروسي وتصرّفاته وقراراته، يجب أن تقترن بفهم كيف يَنظر بوتين إلى العالم من حوله. وبحسب ميرشايمر، تَحكم ثلاثة عوامل حسابات بوتين إزاء ما يراه عدائية غربية، بقيادة أميركية ضدّ موسكو: أوّلها، الخشية من توسّع “الناتو” على حدود روسيا؛ والثاني، هواجسه حيال توسّع الاتحاد الأوروبي في الجوار المباشر لبلاده؛ والثالث يتعلّق بمدى خشيته من نجاح الغرب في تطبيق نموذج “الديموقراطية الليبرالية” على النسق الغربي في كلّ دول القارة الأوروبية، وهو ما يعتبره تهديداً لنظام الحٌكم في روسيا والقائم على تمركز السلطات بيد الرئيس، ومحرّكاً أساسياً لكلّ السياسات الغربية منذ انتهاء الحرب الباردة في أوائل تسعينيات القرن الماضي.
سيرياهوم نيوز-الأخبار اللبنانية1