الصّين وروسيا هما بلدان لا يعرف قارئ أدبياتهما على ماذا يختلفان. عبارة قد تبدو صحيحة إلى حد كبير في بلدين كانت الأيديولوجية الشيوعية هي الأساس والمرجعية الدستورية لنظامهما السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لكن، وعلى الرغم من ذلك، كان هناك تنافس بينهما على مسألة القيادة والتبعية، فقد رأى الرئيس الصيني ماو تسي تونغ أنَّ بكين يجب أن يكون لها تجربتها الخاصَّة والمتميّزة عن التجربة السوفياتية، في حين كان الاتحاد السوفياتي يعتبر نفسه مهد الشيوعية في العالم.
وبعد وفاة ماو تسي تونغ ووصول دينغ شياو بينغ إلى الحكم، دخلت عبارة الاشتراكية ذات الخصائص الصينية حيّز الاستخدام العام لتصف عملية التحول في السياسات الاقتصادية الصينية، إذ أدخلت الحكومة الصينية عناصر من اقتصاد السوق بهدف دعم النمو باستخدام الاستثمار الأجنبي وزيادة الإنتاج (وخصوصاً في الريف الصيني الذي شكّل 80% من عدد سكان الصين آنذاك).
كان لفشل التجربة الشيوعية في قيادة الدولة السّوفياتية أثر كبير في الصين، لكنَّ بكين نجحت في قلب المعادلة وترسيخ قصة نجاح الحزب الشيوعي الصيني في بناء الدولة وتطوّرها، بعدما كانت قد تبنّت فكرة الشيوعية ذات الخصائص الصينية التي تعدّ سراً من أسرار النجاح في الصين.
وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي وبروز الولايات المتحدة قطباً وحيداً مهيمناً على الساحة الدولية، نجحت بكين في الحفاظ على عزلتها مع التركيز على التطوير والبناء الاقتصادي والسعي لجذب الاستثمارات الأجنبية والاستفادة منها واللعب في الهوامش في سياستها الخارجية، إذ استثمرت في المناطق التي لا يوجد منافسة دولية عليها، فاتجهت إلى الاستثمار في القارة السوداء، وحقّقت نجاحات كبيرة هناك.
وبينما كانت الولايات المتحدة الأميركية تعيش عقداً من الزهو والاسترخاء، استمرَّ منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991 وحتى أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001، حين وجدت نفسها مضطرة إلى الدخول في حرب عبثية مع عدو غير محدد (الإرهاب) وغير معروف بدقة. عندئذ، تنفّست بكين الصعداء، وكذلك موسكو التي بدأت تفكر في استعادة هيبتها ومكانتها الدولية، وبدأ الجانبان يفكران في حتمية التقارب وتصفير المشكلات العالقة بينهما، انطلاقاً من فكرة “عدو عدوي صديقي”، فشهدت العلاقات الروسية الصينية تطوراً ملحوظاً في العقدين الأخيرين، إذ استكمل البلدان اتفاقية ترسيم الحدود بينهما في تشرين الأول/أكتوبر 2004، بعدما أمضيا أكثر من 40 عاماً من المفاوضات الشّائكة، نظراً إلى طول الحدود المشتركة والبالغة 4300 كم.
وبذلك، انتقلت العلاقة بين البلدين إلى نوع من التعاون الَّذي نما وتطور حتى وصل إلى حد التحالف الاستراتيجي القائم على التعاون والمنفعة المشتركة للبلدين، لا على أبعاد شخصية أو أيديولوجية، وهو ما يزيد من احتمال نجاحه وتطوره، فتطور العلاقات بين البلدين ناتج من سببين، الأول هو رغبتهما في تطوير تلك العلاقات التي تحقق مصالح مشتركة لكليهما، والآخر هو الضغط الأميركي والغربي الذي تتعرّضان له، والذي يجعل تقاربهما وسيلة لمواجهة تلك الضغوط.
أما أهداف هذا التحالف، فيمكن تحديدها بالآتي:
– بعد استراتيجي يتمثّل بمحاولة كلا الطرفين تغيير النظام الدولي القائم. والتغير من وجهة نظر الدولتين لا يعني التغير السياسي فقط، بل يشمل التغير الاقتصادي أيضاً، والمتمثل بهيمنة الدولار على التبادلات التجارية الدولية، وكذلك الحدّ من هيمنة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والتخلّص من هيمنة نظام “سويفت” للتعاملات البنكية، الذي يسمح للولايات المتحدة الأميركية بالهيمنة على الحوالات البنكية في العالم.
- وهناك أيضاً تكامل هيكلي بين الاقتصادين الروسي والصيني، وخصوصاً فيما يتعلّق بالطاقة، إذ إنَّ روسيا مصدر كبير لها، والصين هي المستهلك الأكبر للطاقة في العالم. وفي العام 2019، تم تدشين أول أنبوب لنقل الغاز الروسي إلى الصين، وتمت تسميته “قوة سيبيريا”، ويبلغ طوله 4500 كيلومتر، وكلفته نحو 20 مليار دولار، فيما تبلغ قدرته التمريرية 38 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً.
ويأتي المشروع في إطار صفقة وقعت بين “غازبروم” وشركة النفط والغاز الوطنية الصينية “CNPC” لتوريد 38 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً من شرق سيبيريا إلى الصين لمدة 30 عاماً. وبعد الحرب الأوكرانية، أصبحت الصين أكبر مستورد لموارد الطاقة الروسية، متجاوزةً بذلك ألمانيا.
– زيادة التبادل التجاري بين البلدين، إذ أقيمت مشاريع مشتركة على الحدود للربط بينهما، وازداد في الفترة من كانون الثاني/يناير وحتى نيسان/أبريل 2022 بنسبة 25.9، ليبلغ 51 مليار دولار مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
وكانت صادرات الصين إلى روسيا قد ازدادت بنسبة 11.3% على أساس سنوي، لتصل إلى 20.24 مليار دولار، فيما ارتفعت صادرات روسيا إلى الصين بنسبة 37.8% لتبلغ 30.85 مليار دولار. وفي العام 2021، زاد التبادل التجاري بين البلدين بنسبة 35.8% ليصل إلى مستوى قياسي استقرّ عند 146.887 مليار دولار. وكذلك فإنَّ أكبر سياحة لروسيا هي من الصين، وتعد اللغة الصينية هي اللغة الثانية المستخدمة في روسيا.
– ربط مشروعي “الحزام والطريق” الصيني والمشروع الأوراسي (الروسي مع دول مجموعة “البريكس” التي تقودها كلا الدولتين. وبالتالي، تشكيل تكتل قوي سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.
– تعزيز التعاون العسكري بين البلدين، فالصين أكبر مستورد للسلاح الروسي، وكانت أول دولة تحصل على صواريخ “إس 400” الروسية عام 2014. وفي العام 2021، حصلت على 24 طائرة من طراز “سو 35″، وهو ما جعل البعض يعتبر أن سلاح الجو الصيني بات يتفوق على نظيره الأميركي. وكان وزير الخارجية الصيني وانغ يي قد قال قبل الحرب الروسية على أوكرانيا: “إن التعاون الإستراتيجي الصيني الروسي ليس له حدود نهائية ولا مناطق محظورة”.
أثر الحرب الأوكرانية في تعزيز التحالف الصيني الروسي
منذ إعلان روسيا والصين نفسيهما شريكين استراتيجيين عام 1996، أصبح الصراع الروسي الأوكراني هو التحدي الدولي الأكثر حدة في تاريخ العلاقات الثنائية، وكذلك الاختبار السياسي الأكثر صعوبة الَّذي واجهته الصين.
على خلفية هذا الصراع، تعرّضت الصين لضغوط سياسية غير مسبوقة من الولايات المتحدة. وقد دعا كبار الاستراتيجيين الأميركيين، وعلى رأسهم هنري كيسنجر، إلى ضرورة منع روسيا والصين من الالتقاء، لأنّ ذلك سينعكس سلباً على الولايات المتحدة والغرب، لكن ما حصل كان عكس ذلك تماماً.
لقد أدت السياسة الأميركية تجاه الدولتين إلى تعزيز التعاون والتقارب بينهما وتسريعه، وخصوصاً بعد الحرب في أوكرانيا، على الرغم من أن بكين حاولت اتخاذ موقف متوازن من الحرب، فلم تؤيد الغزو الروسي لدولة مستقلة وذات سيادة، على حد تعبيرها، لكنها في الوقت نفسه أعلنت تفهمها للتهديدات التي تتعرض لها موسكو نتيجةً لرغبة حلف شمال الأطلسي بالتوسع في أوكرانيا.
لكن ذلك لم يكن مقبولاً لدى الولايات المتحدة التي طالبت بكين باتخاذ موقف أكثر وضوحاً واستنكاراً للعملية الروسية الخاصة في أوكرانيا. وعندما لم يتحقق ذلك، بدأ التصعيد الأميركي تجاه الصين في تايوان التي شهدت توتراً كبيراً في الفترة السابقة، وخصوصاً بعد زيارة نانسي بيلوسي إلى الجزيرة وما ترتب على ذلك من تصعيد ومناورات عسكرية صينية في محيط الجزيرة.
وهنا، بدا واضحاً أن رغبة بكين وحاجتها إلى التقارب مع موسكو بدأت بالازدياد، فتم الإعلان عن مناورات عسكرية مشتركة هذا الشهر تحت اسم “فوستوك 2022″، جرت في الشرق الأقصى الروسي في 7 ميادين تجارب في الدائرة العسكرية الشرقية ومياه بحري أوخوتسك واليابان، وبمشاركة 50 ألف عسكري من 14 بلداً، بما فيها الصين وبيلاروسيا والهند وكازاخستان وسوريا، وأكثر من 5 آلاف قطعة من المعدات.
وبعد إعلان وزارة الدفاع الروسية في نهاية تموز/يوليو الماضي عزمها على إجراء التدريبات، طالبت اليابان باستبعاد “الأراضي الشمالية”، وهي التسمية اليابانية لجزر الكوريل الجنوبية المتنازع عليها بين موسكو وطوكيو، من خريطة المناورات، إلا أن وزارة الخارجية الروسية أعلنت رداً على ذلك أنَّ هذه الجزر هي جزء لا يتجزأ من الأراضي الروسية.
تحالف الدولتين للتخلص من هيمنة الدولار الأميركي
كان للحرب الروسية الأوكرانية أضرار كبيرة على الاقتصاد الروسي، إذ تراجع حجم الصادرات الروسية بنحو 18% كحجم، لكن قيمتها ازدادت بسبب العقوبات، فقد تراجع حجم الصادرات (النفط والغاز والفحم والأغذية والأسمدة وغيرها) وارتفعت قيمتها إلى نحو 160 مليار دولار.
وكانت معظم هذه الصادرات إلى الصين ودول الاتحاد الأوروبي، إذ بلغت الصادرات الروسية إلى الصين نحو 40 مليار دولار، فيما بلغت الصادرات الروسية إلى دول الاتحاد الأوروبي نحو 85 مليار دولار، رغم كل العقوبات والالتزام الأوروبي بالمقاطعة الأميركية لروسيا، إذ بلغ حجم الصادرات الروسية إلى ألمانيا وحدها نحو 21 مليار دولار، وسعت ألمانيا إلى شراء كميات كبيرة من الغاز وتخزينها.
ومنذ أيام، اتفقت شركتا ”غازبروم” الروسية وشركة النفط الصينية على تسوية التبادلات التجارية بينهما إما باليوان الصيني وإما بالروبل الروسي. وبالتالي، سوف يقل الطلب على الدولار مع مرور الوقت. وتعدّ هذه الخطوة من أقسى الضربات التي وجهت إلى الدولار الأميركي.
وكان الرئيس بوتين قد صرح عن ذلك في قمة دول “البريكس” في حزيران/يونيو الماضي، عندما قال: “لقد آن الأوان للتخلص من هيمنة الدولار، وعلينا أن نبحث عن عملة دولية جديدة”. لقد عمل الرئيس بوتين طويلاً للتخلّص من سطوة الدولار الأميركي وهيمنته، وإقامة نظام دولي بعيداً من الدولار. وقد بدأ في ذلك منذ العام 2014 بعد استعادة جزيرة القرم، وكان قد أعلن حينها ضرورة إقامة نظام مصرفي دولي بديل من نظام “سويفت”، وهو ما عملت عليه الصين وروسيا لاحقاً.
تراجع حصة الدولار كاحتياطي عالمي إلى أدنى مستوى له منذ ربع قرن
في سبعينيات القرن الماضي، كانت حصة الدولار من إجمالي الاحتياطات العالمية نحو 90%. وفي الثمانينيات، انخفضت تلك الحصة إلى 57% بسبب أزمة النفط العالمية، وهو ما دفع الولايات المتحدة الأميركية حينها إلى رفع سعر الفائدة لتقوية الدولار (مقويات صناعية). وفي العام 1999، وعندما طرحت اليورو كعملة موحّدة للدول الأوروبية، كانت حصة الدولار 71% من الاحتياطات العالمية. وقبل الحرب في أوكرانيا، كانت حصة الدولار نحو 59% من إجمالي الاحتياطات العالمية.
لقد ارتفع سعر صرف الدولار نحو 12% خلال هذا العام فقط أمام جميع العملات تقريباً، باستثناء الروبل الروسي واليوان الصيني، لكن، وعلى الرغم من ارتفاع سعر صرف الدولار أمام العملات الأخرى، لم تزدَد حصته من الاحتياطات العالمية، وذلك لوجود لاعبين دوليين جدد هما روسيا والصين، فالعالم تغير، ولم تعد الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة المهيمنة على النظام الدولي، فمستقبل الدولار على المحك، ولعل الخطوة الروسية الصينية ستكون بمثابة الضربة القاضية للدولار، وهو ما يدفعنا إلى التساؤل عما سيحدث لسعر الدولار عندما يتوقف البنك الاحتياطي الفيدرالي عن رفع سعر الفائدة.
ختاماً
العلاقات الروسية الصينية هي علاقة تحالف إستراتيجي، لكنَّ الطرفين، كما يبدو، لا يريدان استخدام هذا المصطلح، لأنه ينطوي على أبعاد عسكرية قد تكون مستفزة للولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية. وبدلاً من ذلك، فضّلا القول إنّ هناك شراكة إستراتيجية بين الدولتين تتضمن علاقات سياسية قوية، وتحالفاً في مجال الطاقة والاقتصاد، ومناورات عسكرية مشتركة بينهما، إضافة إلى بعض المناورات التي جرت في منطقة بحر الصين الجنوبي والمناورات الأخيرة التي جرت في شرق روسيا، والتي أشرف عليها الرئيس الروسي شخصياً.
ولعل اللقاء المرتقب بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جين بينغ في الأيام المقبلة سوف يعطي دفعاً كبيراً للعلاقات بين البلدين. ومما يزيد متانة هذا التحالف هو سعي إيران لأن تكون جزءاً منه، وخصوصاً في ظل الحديث عن فشل المفاوضات بشأن برنامجها النووي.
سيرياهوم نيوز3 – الميادين