الرئيسية » ثقافة وفن » رياض الصالح الحسين لا يزال بين يديك أيّها العالم

رياض الصالح الحسين لا يزال بين يديك أيّها العالم

| يوسف م. شرقاوي

مات عن 28 عاماً. في الذكرى الأربعين لرحيله، ماذا تعرفون عن الشاعر السوري رياض الصالح الحسين؟

تنطلق الكتابة عن رياض الصالح الحسين (1954 – 1982) من إيمانٍ بــ “أسطورة” ظهرت فجأة، وآمن بها كثيرون فجأة، وأحبّوها، ثمّ خافوا أن يفقدوها. إنّ رياض، وشعره كذلك، تعبيرُ الطفولة عن نفسها وهي تواجه العالم بالدهشة واللغة الخاصة، كما قال أحمد يوسف داود مرّة.

لذا فإنّ الكتابة عنه وعن شعره، كتابةٌ عن الطفولة البسيطة التي خطفها الموت فجأة، وهي إذعانٌ لليأس والموت والأغنية المُتعبة، وهي الإيمان أنّ كلّ الأبواب التي تُطرَق في العالم إنما هي أبواب أناس صُمّ، وأنّ كلّ الصرخات الممدودة كأذرعٍ ميتة إنما هي صرخات بكماء.

تنطلق الكتابة عن رياض الصالح الحسين من كلّ أولئك الذين خطفهم الموت، كأنه لعبة، لوركا ورامبو والنجم الساطع جون كيتس ولوتريامون، وامرؤ القيس والشابّي وأمل دنقل، إلّا أنّ أكثر ما يجب أن تنطلق منه هو الشِعر، لا بوصفه رفاهيةً ولا كمالاً، بل ضرورة يوميّة وغريزة، وطفولة وأغنية رجل متعب عائد إلى البيت، حيث في كلّ خطوة قمر مكسور.

تنطلق الكتابة من سؤال الشعر، ولغة اليوم المهدور، وعيد القبلة الوحيد وأعياد القتل الكثيرة، ومن الحب الذي يحاول أن ينتصر على مساوئ العالم. تنطلق، أخيراً، وقفة نهائية بين يدَي العالم، كما وقف رياض 28 سنة، مغنيّاً أغنية الرجل المُتعب، قبل أن يعود إلى البيت، مرةً أخيرة ونهائية.

تمرّ في 21 تشرين الثاني/نوفمبر الذكرى الأربعين لوفاته، ومع ذلك، تبدو أمام المأخوذين بــ “الأسطورة” التي صارها، 40 يوماً فقط، لشدّة ما هو حاضر: طفلاً لم يمت وإن مات، ولم يعش وإن عاش ثانيةً، حاراً كجمرة، بسيطاً كالماء، واضحاً كطلقة مسدس. يركض في عينيه كوكب مذبوح، وسماءٌ منكسرة، يركض في عينيه بحرٌ من النيون، ومحيطٌ من العتمة الطبقية.

صورة شخصية ل: ر. ص. ح

في طبعة “دار المتوسط” للأعمال الكاملة للشاعر الحسين عام 2016، يمكن العثور على تفاصيل حياته كاملة في تقديم صديقه الشاعر منذر مصري للكتاب.

يذكر أنّ رياض مات في عمر أصغر من أن يكون له سيرة حياتية حافلة بالأحداث والمواقف، أو: وُلد رياض ومات ولا شيء ذا أهمية قصوى في حياته إلا شعره. كما لا يفوت مصري ذكر أنّ رياض لم يكن يحب التطرق إلى هذه الخصوصيات، ولم يسمعه يوماً يتحدّث عن أهله، ولا عن دراسته.

أما مرضه فقد كان يودّ لو أمكنه أن يخفيه عن الجميع، ولأنّ هذا لم يكن ممكناً، فعلى الأقل يمكنه أن يجعل الحديث عنه محظوراً. كان أكثر ما يغيظه أن ينتبه أحدٌ ما، من خارج دائرة أصدقائه ومعارفه، لإعاقته السمعية والنطقية ويسأل عنها، ولذا أخذ يحجز مقعدين في الحافلة كلّما سافر تجنباً لجلوس فضوليٍّ بجواره، ما أبقى المعرفة به مقتصرة على الشذرات.

مع ذلك، تبدو تلك الوقائع الحياتية شيئاً أشبه بالوصيّة، ولأنّ الشعر والحبّ وحدهما هما ما كانا مهمّين في حياته، فسوف يبقيان أجدى ما يمكن التطرّق إليه. من هنا يبدو رياض أقرب ما يكون إلى الأسطورة، إذا ما وُضِع فوق الزمان والمكان، فوق ما كان يعده نقصاً أو عيباً بشرياً في نظر الآخرين، وسيرته ستبقى ناقصة، لأنه مات وترك كل شيء ناقصاً.

إذن، يمكن تكوين صورة شخصية وسيرة حياة لرياض مأخوذة من شعره، في قصيدة “الرجل السيئ” من ديوانه الأول “خراب الدورة الدموية” يقول: “أنا رياض الصالح الحسين، عمري اثنتان وعشرون برتقالة قاحلة، ومئات المجازر والانقلابات، وللمرة الألف يداي مُبادتان، كشجرتي فرح في صحراء”.

أما في قصيدته “أساطير” من الديوان نفسه، فيقول: “جائع جائع، كعصفور على صخرة نائية في بحر متسع، ولكني لا أريد أن أموت/أنا مقهور مقهور، كورقة صفراء لم تأخذها الريح في الخريف، ولكني لا أريد أن أسقط في الفراغ/أنا معذب معذب، مثل ديك بعنق مقطوع يركض في أزقة خاوية، ودمه لا يتساقط منه”.

ورياض كذلك، في ديوانه “أساطير يومية” يصف نفسه: “أنا رجل وسيم، طولي ١٦٧ (سم). أنا تراكتور معطوب، أبحث عن عمل منذ ثلاثة أشهر وتوابيت، جلست في المقهى لأشرب شاياً ممزوجاً بالدبابيس. أنا رجل وسيم، قال لي صديقي “مدّ يدك واقطف امرأة”، أيها الصديق الجاهل، الحب قطاع خاص، ولذلك علينا أن نفعل شيئاً”.

ولقد قرّر في “جرثومة النبع” أن يموت لمرة واحدة بدلاً من الموت سبع مرات في الأسبوع، وبما أنه لا يملك تابوتاً ولا قبراً ولا كفناً، فقد قرّر أن يعيش ويفتح دكاناً لتوزيع الحب علينا، من خلال القصيدة.

في الثالثة والعشرين من عمره، في “عيد للقبلة.. أعياد للقتل” أصبح رياض رجلاً “بوجنتين شاحبتين ومستاء للغاية” يعمل ليشتري لـــ (س) تفاحةً ورغيفاً. تبقى النبوءة تتردّد، منذ قصيدة الرجل السيئ: “كان عليّ أن أموت صغيراً”.

وفي قصيدته “كتابة” من “وعل في الغابة” موجز حياته: “إنه يكتب منذ أن مات، يكتب، ربما، لأنّ الكتابة فعل حياة”.

هكذا يمكن الذهاب بعيداً في دواوينه الأربعة: “خراب الدورة الدموية” و”أساطير يومية” و”بسيط كالماء واضح كطلقة مسدس” و”وعلٌ في الغابة”، لتعويض وإكمال كلّ ما تركه ناقصاً.

خلطة من ثلاثة شعراء

يُطلق منذر مصري على تركيبة رياض لأهم مؤثرات القصيدة السورية في السبعينيات هذا اللقب، وتتمثل هذه الخلطة أولاً في الإغواء الذي لا يقاوَم لأدوات محمد الماغوط الشعرية، هو المؤثِّر الطاغي على قصيدة النثر السورية. وثانياً: العفوية الشديدة التي اتّصفت بها قصيدة بندر عبدالحميد، وثالثاً: الانفعال والاضطرام اللذان ميّزا شعر نزيه أبو عفش، تفعيلة كان أم نثراً، هو الذي كان- برأي مصري- المثال الأعلى: الشعري، والإنساني لرياض الصالح الحسين، وإن لفترة من الزمن.

من هذه التركيبة، أو “الخلطة”، عد شعر رياض المثال الأعمّ لقصيدة النثر السورية، لملاءمتها الجو الثقافي والسياسي السائد في سورية خلال آخر ثلاثة عقود من القرن الماضي.

تبدو أسطرة رياض أمراً مبالغاً فيه، إلا أنه مع ذلك متفقٌ عليه، لأنّ عمل الشعر كما يقول مصري في أحد أهمّ وجوهه، هو أسطرة الواقع، وتحويل الهامشي إلى متن، ورفع المهمل والمتروك إلى رفّ الصمديّات، وتجميع فتات زمننا وخلق حياة، الأمر الذي جعل رياض يختار (أساطير يومية) عنواناً لمجموعته الثانية.

 زيارة للشعراء الموتى

كان لموت رياض، المتنبأ به، إسهامه المباشر في التحوّل إلى “أسطورة”، ويمكن مقاربته بموت كلٍّ من شاعر إسبانيا لوركا، والفرنسي آرثر رامبو، والنجم الساطع جون كيتس، ولوتريامون صاحب “أناشيد مالدورور”.

على الطرف الآخر، يجمع فادي عزام في كتابه “رحلة إلى قبور ثلاثة شعراء بمرافقة رياض الصالح الحسين” بين رياض ورامبو وفرناندو بيسوا وكافكا. حكايات متفرقة في مسامرة الموتى، حبكتها الداخلية سيرة رياض وموته، واستعادتها في 3 مدن أوروبية موازية: شارل فيل، وبراغ، ولشبونة. يقرأ عزام أمام قبر كلّ واحدٍ من الثلاثة شعراً لرياض، ليأنس الراقدون تحت التراب.

معجمٌ لغوي من بساطة

ما يميّز رياض كذلك أنّ المعجم اللغوي الذي ينهل منه بسيطٌ مثله. إنه، مرة جديدة، تعبيرُ الطفولة عن نفسها وهي تواجه العالم بالدهشة واللغة الخاصة.

يقول الكاتب علي العجيل في حديثٍ إلى “الميادين الثقافية” إن رياض الصالح الحسين “من القلة القليلة جداً ممن تحرّروا من النّمطيّة الشّعريّة المهيمنة آنذاك، وقاموا برفع الكلام العادي إلى مراتب شعريّة عليا”.

ويضيف: “لأنه لم يسافر بعيداً من حياته، كان شعره صورة لحياته، وحياته مصدر أساسي ومهمّ لإبداعه، وحتى الحب. لم يكن الحبّ عند رياض حالاً طبيعية للراحة وكان حافزاً للحياة والكتابة”.

إنه، وفقاً للعجيل، “أيقونة شعرية يجد فيها كثيرون أنفسهم، ربما لأن السوريين وجدوا في قصيدته (سوريا) ومثّلت الحرب السورية مناسبة أعيد فيها اكتشافها وتكرار نشرها على نحو كبير، مرثية لبلدهم المنكوب”.

لقد استعاد السوريون رياض فجأة، ذلك صحيح، وكُتبت عنه عشرات الدراسات فجأة، كأنه شعورٌ ممزوج من الإثم والندم، جعله يبرز كأسطورة. كان عليه أن يموت صغيراً، وهذا ما جعل من اكتشافه جزءاً مهماً من اكتشاف العالم.

سيرياهوم نيوز3 – الميادين

x

‎قد يُعجبك أيضاً

دهب سبيعي في أحدث ظهور.. جمالها نسخة طبق الأصل عن والدتها سلافة معمار

لفتت دهب سبيعي، ابنة الفنانة سلافة معمار والمخرج سيف سبيعي، الأنظار بجمالها اللافت وشبهها الكبير بوالدتها. تظهر دهب بين الحين والآخر في صور وفيديوهات عبر ...