- حسين إبراهيم
- الثلاثاء 14 كانون الأول 2021
إضافة إلى مشاكله الكثيرة مع بلدان الجوار البعيد والقريب، والتي يسعى جاهداً إلى تصفيرها، صار واضحاً أن وليّ عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، يواجه مشكلة من نوع آخر، لن يكون الخروج منها سهلاً، وذلك على خلفيّة توسّعه في استخدام تقنيات التجسّس، بأكثر مما تحتمله دولة بحجم الإماراتمنذ رحيل زايد بن سلطان آل نهيان، بنى أبناؤه بقيادة محمد، الحاكم الفعلي للإمارات، نظاماً اقتات على تكوين العداوات، في الداخل والجوار والعالم، مع الدول والمنظّمات والأفراد، قبل أن يوقنوا – متأخّرين – أن سياسة كهذه سترتدّ حُكماً عليهم. ولعلّ ما يفوق خلْق العداوات غرابةً، هو الأدوات التي تُستخدم فيها؛ فما الذي يبرِّر، مثلاً، لدولة أن تبني مشروعاً واسعاً للتجسّس على مدى سنوات طويلة، وبكلفة ضخمة، وباستخدام مرتزقة استخبارات، وأحدث التقنيات المتوفّرة في العالم، لاختراق هاتف امرأة من دولة أخرى، لمجرّد أنها تحدّت حظراً على قيادة المرأة للسيارة، ثمّ وضعْها في طائرة خاصة وإعادتها إلى دولتها لكي تُسجن وتُعذّب، أو لمراقبة بنت حاكم إحدى إمارات الدولة حتى لا تهْرب من المنزل؟
توسّعت الإمارات تحت حُكم ابن زايد، في إثارة المشاكل، بأكثر مما تستطيع أن تستوعب دولة بحجمها. وما فعله حكّام الدولة في هذا المجال، بدأ يرتدّ عليهم، ليضعهم في ورطة تضاف إلى المآزق التي يواجهونها في العلاقات مع عدد كبير من الدول، والتي يسعى هؤلاء إلى تصفيرها حالياً. إذ يَدخل النظام الإماراتي في مواجهة قانونية مع كبريات شركات خدمات الإنترنت والاتصالات، مِن مِثل “غوغل” و”مايكروسوفت” و”آبل”، بسبب اختراق أنظمة هذه الشركات في عمليات التجسّس، والتأثير على مصالحها التجارية، عبر دفْع عملائها إلى البحث عن خيارات أخرى أكثر أماناً للبحث والاتصال، علماً بأن التنصّت على الشركات الأميركية أو عبْرها يُعدّ ممنوعاً قانوناً، إلّا على الجهة التي تحصل على إذن قضائي بذلك.
قبل أيام قليلة، أقامت الناشطة السعودية، لجين الهذلول، دعوى قضائية ضدّ شركة “دارك ماتر” الإماراتية و3 عملاء سابقين لوكالة الأمن القومي في الولايات المتحدة، بتهمة اختراق هاتفها لمصلحة دولة الإمارات، عن طريق استغلال ثغرة أمنية في خدمة الرسائل في شركة “آبل”، سمحت للمتسلّلين المدرّبين بتحديد ومراقبة الأهداف التي اختارها عملاؤهم، بِمَن فيهم الهذلول. والجدير ذكره، هنا، أن السلطات السعودية اعتقلت الهذلول عام 2018 ــــ بعدما تسلّمتها من الإمارات ــــ، وسجنتها لمدّة ثلاث سنوات، وعرّضتها للتعذيب، كونها تحدّت حظر قيادة المرأة للسيارة في السعودية، ثمّ أُطلق سراحها في وقت سابق هذا العام، إلّا أنها لا تزال ممنوعة من السفر.
الاستثمار الأعزّ على قلب ابن زايد طوال العشرين عاماً الماضية، يظلّ بلا منافس، التجسّس، سواءً بتقنيات اختراق الهواتف أو بالخبرات الفردية لمرتزقة الاستخبارات، والتي اكتسبوها مع التطوّر الذي أحرزته أميركا في مجال المراقبة والتعقّب، منذ 11 أيلول 2001. ولعلّ ما يدلّل على تلك “المكانة” أن وليّ عهد أبو ظبي أوكل إدارة هذا الاستثمار، الذي تَغيّر اسمه عبر السنوات إلى أن أصبح حالياً شركة “دارك ماتر”، إلى ابنه خالد. حكاية الشركة التي وثّقتها وكالة “رويترز” في تقرير موسّع حمل عنوان “صُنع في أميركا”، بدأت مع ريتشارد كلارك الذي كان مستشاراً للبيت الأبيض لشؤون مكافحة الإرهاب، ثمّ انتقل بعد تقاعده إلى الإمارات في عام 2008، ناقلاً معه الخبرة الواسعة التي اكتسبها والتقنيات التي تمّ تطويرها في حملة ما بعد 11 أيلول داخل أميركا وخارجها. واستفاد كلارك من علاقة قديمة مع ابن زايد تعود إلى عام 1991، حين ذهب إلى الإمارات في الأشهر السابقة لحرب الخليج الأولى، وساعده الأخير في الحصول على موافقة الحكومة الإماراتية على عبور الطائرات الأميركية أجواء الإمارات في إطار الحرب.
توسّعت الإمارات تحت حُكم ابن زايد في إثارة المشاكل بأكثر مما تستطيعه دولة بحجمها
أوصى كلارك، عبر شركة اسمها “غود هاربور” أسّسها بعد تقاعده، بإنشاء وكالة مراقبة في الإمارات، طلَب منه ابن زايد الإشراف على إنشائها، فأطلَق الاستخباري الأميركي القديم، مشروعاً سرّياً تحت اسم “دريد”، عُرف لاحقاً باسم “مشروع رافن”، وكان مقرّه مبنًى على طرف مطار أبو ظبي، ليمثّل ذراعاً لقصر الحُكم في البلد. ثمّ في عام 2011، مع بداية “الربيع العربي”، عزّزت الإمارات من تجسّسها الإلكتروني ضدّ منتقدي الحكم. وفي عام 2016، تولّت “دارك ماتر” السيطرة على مشروع التجسّس، وأُعطي مرتزقة الاستخبارات الأميركيون الخيار بين المغادرة أو الانضمام إلى الشركة الإماراتية. ثمّ في عام 2017، امتلكت الشركة تقنية لدخول هواتف “آي فون”، واستخدمتها ضدّ شخصيات إعلامية وقادة أجانب منافسين مثل أمير قطر تميم بن حمد. لم يَذكر تقرير “رويترز”، التي راجعت عشرة آلاف وثيقة وأجرت عشرات المقابلات لإعداده، اسم تلك التقنية، كما لم يأتِ على ذكر امتلاك الإمارات وأنظمة أخرى عربية وغير عربية برنامج “بيغاسوس” الإسرائيلي الذي استُخدم في اختراق أجهزة “آي فون” بالذات، للتجسّس على قادة دول وناشطين وصحافيين، في ما أثار كشْفُه فضيحة دفعت السلطات الأميركية إلى إجراء تحقيقات موسّعة في نشاط الشركة المالكة للبرنامج، أي شركة “أن أس أو” الإسرائيلية. وتُطرح تساؤلات، هنا، عن إغفال ذكر إسرائيل، على رغم العلاقات الأمنية القديمة التي تجمعها بالإمارات.
واحدة من المشكلات التي يواجهها ابن زايد، أن الخبرات التي نقلها مرتزقة الاستخبارات الأميركيون إلى أبو ظبي هي ليست مُلْكهم، بل مُلْك الحكومة الأميركية، وليس مسموحاً لهم قانوناً نقلها مقابل المال. فقد سبق للمتهمين الثلاثة الواردة أسماؤهم في الدعوى القضائية التي تقدّمت بها الهذلول، أن اعترفوا بانتهاكهم قوانين التسلّل الإلكتروني وإساءة استخدام برامج الكومبيوتر، كما اعترفوا بإقدامهم على بيع تكنولوجيا عسكرية حسّاسة، خلال مقاضاتهم من قِبَل وزارة العدل الأميركية في أيلول الماضي. وعلى رغم ذلك، خلص تقرير “رويترز” إلى أن وزارة الخارجية الأميركية سمحت، عبر اتفاقات سرّية، لمرتزقة الاستخبارات بالعمل لدى أبو ظبي مقابل تقاضي رواتب. لا يمكن، إذاً، أن تكون الإمارات قد فعلت ما فعلته، تحت أنف الإدارات الأميركية المتعاقبة طوال تلك الفترة، من دون أن تعلم الأخيرة بالأمر. لكن الإدارة الأميركية شيء، والرأي العام الأميركي ومصالح كبريات شركات خدمات الإنترنت والاتصالات، شيء آخر. إضافة إلى كلّ هذا، لا، ليست هذه الإدارة بالذات أفضل صديق لابن زايد.
(سيرياهوم نيوز-الاخبار)