آخر الأخبار
الرئيسية » السياحة و التاريخ » زنوبيا في المصادر التأريخية القديمة والأدلّة الأركيولوجية

زنوبيا في المصادر التأريخية القديمة والأدلّة الأركيولوجية

 

علاء اللامي

 

 

 

أقدمت سلطات الأمر الواقع السلفية الجهادية في سوريا على اتخاذ قرارات وقامت بممارسات عملية عديدة في سياق ترسيخ سلطتها وتوجّهاتها السلفية المحافظة في مجالات عديدة، منها التعليم. ولكنها استمرت بتوخي الحذر وتغليب الطابع العصري في ما يتعلق بهندام قادتها، والابتعاد عن الصورة النمطية للمقاتل السلفي الانتحاري وتفادي نشر الصور والفيديوات عن عمليات القمع والتصفيات الجسدية الثأرية ضد أعدائهم.

 

تَدْمر وزنوبيا من «داعش» إلى «تحرير الشام»

 

حرصت هذه الجماعات المسلحة، التي يقودها الجولاني الذي أصبح اسمه بعد دخوله دمشق أحمد الشرع، على مغادرة مربع الفظاظة الدموية الداعشية، والأخذ بالطرق والأساليب الإدارية، آخذةً العبرة من الماضي أحياناً، ومنصاعةً لتوجيهات الحليف التركي والمموّل القطري أحياناً أخرى. فلم تكرر محاولة «داعش» إلغاء الماضي الحضاري السوري والعراقي بالعنف من خلال تدمير آثار معابد وتماثيل وشواخص مدينتي الحضر قرب الموصل سنة 2015 وتدمر سنة 2018 حين أقدمت على ارتكاب جريمة ذبح أحد علماء الآثار السوريين ومدير آثار تدمر، الرجل المسنّ خالد الأسعد (82 عاماً) في 18 آب 2015 وعلقت جثته على عمود كهربائي في مدينة تدمر الآثارية، بل أصدرت السلطات الجديدة قرارات فوقية تدخلت فيها بمواد المناهج التدريسية المقررة حذفاً وتعديلاً وإضافة.

وإذا كان بالإمكان تفهّم قرار هذه السلطات في حذف ما يتعلق برموز وزعامات نظام الحكم السابق، وكتبه التعليمية الأيديولوجية ككتاب «التربية الوطنية»، رغم أن هذا ليس أمراً ملحاً واستثنائياً، ولا هو من صلاحياتها كسلطة أمر واقع، ولكن يبقى مستهجناً تدخلها في مادة التاريخ العام نفسها ومن قبل أشخاص لا علاقة لهم بهذا الميدان العلمي الحساس والدقيق، قرروا، بجرّة قلم، وعلى طريقة خصومهم الأيديولوجيين الاستبداديين، حذف شخصيّتَي ملكة تدمر زنوبيا وخولة بنت الأزور من العهد الراشدي بحجة أنهما شخصيتان خياليتان وغير تأريخيتين (الفقرة 19 من تعميم وزاري بهذا الخصوص).

 

استبدال العلمي بالأيديولوجي

 

سنتوقف في هذا النص عند شخصية الملكة زنوبيا لتفنيد هذه الحجة، بما يتوفر من أدلة، مسجلين أن البحث والنقاشات والسِّجلات في هذا الموضوع التأريخي البحت هو شأن علمي في الدرجة الأولى، ولا يمكن تسييسه وأدلجته.

إن القصد من هذه المادة هو التعريف بهذه الملكة وبما ورد حولها في المصادر الرومانية والإغريقية والعربية وليس الرد على السلفيين المتعصبين السائرين على خطى الدكتاتوريين العرب الذين حاول بعضهم أيضاً وبقوة القبعة الجنرالية كتابة التأريخ وفق مزاجه وهواه، فاخترع شعوباً وقبائل وأسماء دول وشخصيات ونفى وجود أخرى من دون حجج علمية تخصصية أو منطق سليم!

إن نفي وجود شخصيات تأريخية، دينية وغير دينية، ليس جديداً في عالم البحث، وقد ألفت كتب كثيرة تشكك بوجود أنبياء التوراة لانعدام أي أثر مادي أركيولوجي في المحيط الذي عاشت ونشطت فيه على وجودهم، أو بسبب وجود تضارب وتناقض بين الحيثيات التأريخية وزمان حدوثها، وأثارت تلك الكتب جدلاً واسعاً لم تنتهِ تداعياته حتى يوم الناس هذا. ولعل من أهم وأشهر تلك الكتب كتاب «التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها» للثنائي فنكلستاين وسيلبرمان.

سأركز هنا على شخصية زنوبيا، وهي من الشخصيات التي ثبت وجودها بالدليل الأركيولوجي «الآثاري» القاطع، أمّا خولة بنت الأزور فأمرها مختلف، ويمكن أخذ التشكيك في تأريخيتها وكونها شخصية خيالية على محمل الجد؛ إذ لا وجود لأي أثر أركيولوجي باسمها، ولم تُذكر إلا في كتاب واحد هو «فتوح الشام» المنسوب زوراً للواقدي (ت 823) كما قال أحد الباحثين، وبعض الكتب المتأخرة التي أخذت عنه. ومع ذلك لا يمكن التعامل مع هذا الأمر بخفة وطيش، وينبغي ترك الحسم فيه للباحثين المتخصصين.

 

دينار زنوبيا وأدلة أخرى

 

من الأدلة الأركيولوجية القوية التي تؤكد الوجود التأريخي للملكة زنوبيا ما عُرف بين الآثاريين بدينار زنوبيا. وتعرّفه موسوعة تاريخ العالم (World History Encyclopedia) وفي مادة كتبها Joshua J. Mark وترجمها إلى العربية سامي الأطرش بالقول:

دينار زنوبيا التدمرية: يسمى أحياناً «تترادراخما»، هي عملة نقدية تنسب إلى ملكة تدمر زنوبيا وتذكر اسمها وصفتها أوغستا (ومن معاني هذه الكلمة في اللاتينية صاحبة الجلالة ورفيعة الشأن ومهيبة). ويظهر لها تمثال نصفي على أحد وجهَي الدينار. يحمل مَنْشَأَهُ وهو دار سك النقود الثامنة في أنطاكية – الإصدار الثاني، آذار مارس – أيار مايو 272 م. زنوبيا. والتمثال النصفي ملفوف على اليمين ومغطى بتاج على شكل هلال. وعلى الوجه الآخر للقطعة، تظهر شخصية واقفة هي إيفنو ريجينا وهي تحمل باتيرا (طاسة القرابين) في يدها اليمنى، وصولجان في يدها اليسرى، وطاووس عند قدميها، ونجمة لامعة على اليمين. تاريخ العملة يعود إلى 271-272 م. وإلى جانب هذا الدينار، سكَّت مملكة زنوبيا عملات أخرى ذهبية وفضية ونحاسية وبرونزية، حمل بعضها صورة ابن زنوبيا وهب اللات (وهبلاتوس).

أعتقد أن هذا الدينار، ومع هذه التفاصيل عليه، يضع النقاط على الحروف ويؤكد بالدليل القاطع تأريخية وحقيقية هذه الشخصية المهمة وسيكون من قبيل الفضيحة العلمية تكرار هذه المزاعم الميليشيوية والتشكيك بوجودها.

كما ورد ذكر الملكة/ الإمبراطورة زنوبيا (بالتدمرية اسم زنوبيا مكتوب باللغة التدمرية وتُلفظ: بات زباي)، وعُرفت باللاتينية باسم جوليا أوريليا زنوبيا (Julia Aurelia Zenobia) وباليونانية سبتيما زنوبيا، كما عرفها العرب باسم زينب.

وتختلف المصادر التأريخية الأجنبية في تفاصيل سيرتها ومن ذلك:

– ورد ذكرها في كتاب العالم والخيمياوي الإغريقي زوسيموس والذي عاش في قرن زنوبيا نفسه، الثالث الميلادي، وحتى بدايات الرابع. وفي كتاب المؤرخ واللاهوتي البيزنطي زوناراس الذي عاش في القسطنطينية من القرن الثاني عشر الميلادي. وكلا الكتابين يوصف بالموثوقية.

– كما ورد ذكر زنوبيا في موسوعة «Historia Augusta» وتترجم أحيانا بـ«تأريخ الأباطرة» وهي مجموعة من السيَر الذاتية الرومانية المتأخرة، المكتوبة باللغة اللاتينية، للإمبراطور الروماني، وزملائه الصغار، والورثة المعينين والمغتصبين للتاج من عام 117 إلى 284. وهي تقدّم نفسها كمجموعة من أعمال ستة مؤلفين مختلفين. ولا توصف هذه الموسوعة بالدقة ويشكك كثيرون في تفاصيلها.

 

خلافات في التفاصيل واتفاق على الوجود

 

– في المصادر العربية، ورد ذكر زنوبيا في تاريخ الطبري (عاش 839-923 م). ومن المرجح أن الطبري اعتمد في قصته رواية عدي بن زيد (عاش في القرن 6 م). واللافت أن الطبري والمؤرخين العرب الآخرين لم يأتوا على ذكر صراع زنوبيا وتحدّيها لروما ومعركتها مع الإمبراطور أورليان، بل ركزوا في رواياتهم على علاقاتها وصراعاتها مع القبائل المجاورة لها، وعلى حيثيات شخصية ذات طابع نمطي من قبيل أنها كانت بارعة في ركوب الخيل ولها قدرة هائلة على التحمل، فكانت تسير على قدمَيها مع قواتها لمسافاتٍ طويلة، وتصطاد لتتغذى كأيّ رجل، وتشرب خمراً أكثر من أي شخص. كما ذكروا أنها كانت عفيفة لا تجامع زوجها إلا لغرض الإنجاب. ويروي الطبري ومؤرخون عرب متأخرون أخذوا عنه أنها قتلت زعيماً قبلياً يدعى جُذيمة في ليلة زفافهما، وسعى ابن أخيه إلى الانتقام فلاحقها إلى تدمر حيث هربت على جمل ثم عبرت الفرات نحو الشرق حتى تم القبض عليها وقتلها.

ومن المرجح أن هذه الحيثيات – الطبرية – التي تعتمد الرواية الشفهية كما وصلت إلى عصر الطبري أي بعد أكثر من ستة قرون على عهد زنوبيا هي التي استمد منها السلفيون المعاصرون حججهم حين قرروا نفي وجودها وشطبوا على كل ما ورد من أدلة تأريخية وآثارية (أركيولوجية) – لو كانوا يعلمون أصلاً بوجودها – في المصادر الأجنبية المعاصرة لزنوبيا وفضّلوا عليها الروايات الشفاهية الأساس والمضطربة المحتوى كرواية الطبري.

يبقى الخلاف في التفاصيل في هذه المصادر القديمة كبيراً، ولكنّ أحداً من القدماء المعاصرين لزنوبيا لم يجرؤ على التشكيك بوجودها وكونها شخصية تأريخية وحقيقية. ولكن بعض تفاصيل حياتها مختلطة ومتعارضة وقد تمت أَسْطَرَةُ بعضها بمرور الأزمان فدخلت في مجال الأساطير، ولكن كأحداث وصفات وكشخصية تأريخية أيضاً. وبهذا فزنوبيا تشبه في هذا المآل ملك «أوروك» الرافداني جلجامش والذي أصبح بطلاً لملحمة تحمل اسمه وشخصية أسطورية إلى جانب كونه ملكاً حقيقياً عثر على اسمه ضمن ثَبْتِ وقوائم أسماء الملوك السومريين. ومما اختلف فيه المؤرخون هو شكل علاقة زنوبيا بالحكم الروماني، حيث يذهب جُلُّ المؤرخين الرومان والإغريق إلى أن زنوبيا لم تتمرّد أو تثُر ضد روما وهيمنتها العالمية آنذاك، بل تحدّتها في عهد ضعفها وحاولت أن تقيم إمبراطورية شرقية آرامية مستقلة ونجحت إلى حد كبير، ولكن نجاحها شكل خطراً على روما وعلى فارس أيضاً بعدما كان أذينة زوج زنوبيا قد هزم الفرس هزيمة قاسية وردعهم عن التقدّم غرباً قبل اغتياله.

ومع ذلك، تؤكد كل هذه المصادر أن الملكة زنوبيا ملكة تدمر تحدّت سلطة روما، إلا أن أيّاً منها لا يصف أفعالها بأنها تمرّد صريح أو ثورة ناجزة ضد الإمبراطورية الرومانية. وبطبيعة الحال، تعتمد هذه النظرة على التعريف المراد بـ«التمرد» و«الثورة» حسب موقع المؤرخ. وتقف وراء هذه الفكرة النافية لتمرد زنوبيا على روما قناعة استعلائية غربية ما تزال متفشية في الفكر الأورومركزي المعاصر، ومفاده أنهم لا يريدون أن يصدّق الناس أن هناك مَن تمرّد وثار في أطراف العالم على طغيان روما الإمبراطورية القديمة، ولكنه يمكن أن يكون قد تحدّاها ذات مرة فدفع ثمن تحدّيه!

ومع ذلك، يمكن أن نتساءل هنا: أليس صحيحاً اعتبار المعركة الأخيرة «معركة إيماي – إنطاكية» في عام 272 ميلادية، والتي هُزمت فيها زنوبيا أمام جيش الإمبراطور أورليان تأكيداً لهذا التمرّد والثورة الطرفية على المركز الإمبراطوري الروماني؟ بل قد يكون من المغري أن نتمادى في التساؤل فنقول: ألم يشكل الاجتياح التحريري العربي الإسلامي وذروته في معركة اليرموك سنة (636 م) والتي جاءت بعد بضعة قرون على تجربة زنوبيا الفاشلة في تحدّي روما، ونجاح العرب المسلمين في عهد الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب في طرد الاحتلال الروماني البيزنطي وتحرير بلاد الشام ومصر من هيمنتها إلى الأبد، ألم يشكل هذا الاجتياح أضخم عملية استكمال وثأر جيوسياسي وحضاري في التأريخ القديم لمنطقتنا؟ ألا يَعْتَبِرُ رجال الميليشيات السلفيين المعاصرين الذين ينسبون أنفسهم إلى السردية السلفية الإسلامية بمغزى هذه الحيثيات وعمقها الحضاري ليخففوا من غلوائهم وعماهم الحضاري ضد تراث الأمة القديم بحجة أنه وثني؟ ترى، ألم يكن هذا التراث والآثار والأهرامات والتماثيل موجودة في عصر صدر الإسلام وامتداداً حتى عصرنا الحاضر بما في ذلك في قلب الجزيرة العربية والشام والعراق ومصر، فلماذا لم يقرر المسلمون آنذاك تحطيمها وإزالتها من الوجود؟

 

أدلة آثارية أخرى محتملة

 

إلى جانب الدليل الأركيولوجي الذي ذكرناه كدليل قاطع على تأريخيتها، أي دينار زنوبيا، هناك بعض التماثيل المنسوبة لزنوبيا أو لزوجها أذينة (أوديناثوس) أو لابنها الوحيد وهب اللات (وهبلاتوس) ومرافقيهم ومجايليهم من دون أن تذكر أسماؤهم عليها ولكنها من الجغرافيا التأريخية التي وجدوا ونشطوا فيها، ومنها:

– تمثال قديم وينسب إلى زوج زنوبيا أُذينة «أوديناثوس» وهو محفوظ في متحف ني كارلسبرغ غليبتوتيك في الدانمارك.

– نقش بارز من معبد جاد في دورا أوروبوس قرب دير الزور يصور الإله «جاد» من دورا (الوسط)، والملك سلوقس الأول نيكاتور (يمين) وحيران بن ماليكو بن نصر، وهو قريب محتمل لأوديناثوس (يسار).

– قطعة فسيفسائية من الطين تحمل تصويراً محتملاً لأُذينة وهو يرتدي تاجاً مدبّباً خشناً، ملتحياً، وبتسريحة شعر على شكل كرة كبيرة على مؤخرة العنق ربما كان لأذينة.

– عُملة أنطاكية تعود إلى الإمبراطور غالينوس بن فاليريان حوالي عام 264-265، تصوّر الأسرى على أحد وجهيها. ربما تم سكّها احتفالاً بانتصارات أذينة في بلاد فارس بعد انتصاره على الفرس الذين كانوا قبلها قد هزموا وأسروا فاليريان ثم قتلوه.

 

كاتب عراقي*

 

 

 

 

 

أخبار سورية الوطن١_الاخبار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

إعادة تأهيل معابد سيتي الأول ورمسيس الثاني في أبيدوس تعزز السياحة الثقافية بمنطقة الصعيد

  عمر المهدي أعلنت وزارة السياحة والآثار عن تقدم الأعمال في مشروع تطوير وترميم منطقة أبيدوس الأثرية، أحد أقدم المواقع التاريخية في البلاد، بالإضافة إلى ...