فؤاد إبراهيم
زهران ممداني، البالغ من العمر 34 عاماً، هو أول عمدة لمدينة نيويورك من أصول شرقية وإسلامية، وأصغر مَن يتولّى هذا المنصب منذ قرن. لم يأتِ من فراغ، بل هو ثمرة مسيرة فكرية ونضالية طويلة لوالده البروفيسور محمود ممداني (إلى يسار الصورة)، أحد أبرز الأكاديميين في دراسات أفريقيا بالجامعات الأميركية، والمناضل الذي جمع بين النظرية والممارسة. فقد شارك في نضالات الحقوق المدنية في الولايات المتحدة عام 1963، وسُجن بسبب نشاطه السياسي، ثم طُرد من أوغندا عام 1972، وأسقط النظام الأوغندي جنسيته، ليصبح عديم الجنسية عام 1984.
تقاطعت تجربة محمود ممداني النضالية مع مسيرته الأكاديمية لتنتج رؤية نقدية عميقة تجاه الدولة القومية التي يعتبرها نتاجاً استعمارياً يقوم على أسس عرقية أو دينية. وقد ألّف عدداً من الكتب والدراسات المؤثّرة التي شكّلت زاداً معرفياً للمناضلين ضد الاستعمار والإمبريالية في شتى أنحاء العالم.
من أبرز أعماله كتابه «لا مستوطن ولا مواطن أصلي: صناعة وتفكيك الأقليات الدائمة» (جامعة هارفارد، 2020)، حيث يتناول فيه العنف المفرط بوصفه نتيجة لبناء الدولة القومية الحديثة، والحداثة ما بعد الاستعمار، وهيمنة المنظومات العنصرية. يعالج الكتاب تاريخ الحداثة السياسية من خلال التفاعل بين الدولة القومية والدولة الاستعمارية، وكيف غذّت كل منهما الأخرى على حساب الأقليات الأصلية المُهمَّشة في العالم، متسائلاً عن المفاهيم الكلاسيكية للمواطنة والحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية.
يرى ممداني أن أزمة الدولة القومية تكمن في تحويل الأغلبية والأقلية إلى هويات سياسية دائمة، وأن الخطيئة الأصلية لهذه الدولة تتمثّل في العنصرية المتجذّرة داخل المجتمع المدني، حيث تُمنح الحقوق المدنية للسكان الأصليين فحسب. ويُحمّل النظرية الليبرالية مسؤولية هذا الانقسام حين أسّست لمفهوم «الأغلبية ذات السيادة» مقابل «الأقليات غير ذات السيادة»، فصارت السيادة امتيازاً أغلبوياً محضاً، بينما تُدفع الأقليات إلى الهامش.
يعارض ممداني هذا النموذج القائم على تسلسل هرمي لأنواع متعدّدة من المواطنين – من الدرجة الأولى والثانية والثالثة – والذين قد يكونون ذوي سيادة أو محرومين منها. ويرى أن هذا النموذج تمّ تصديره إلى أنحاء العالم، مؤدّياً إلى ترسيخ البنى العنصرية والعنف السياسي في المجتمعات الحديثة.
يحاول ممداني سبر بنية الدولة القومية معرفياً بوصفها مشروعاً أسّس التمييزات السياسية والقانونية والمعرفية بين الرعايا «ذوي السيادة» وغير «ذوي السيادة»، موسّعاً تحليله ليشمل الدولة القومية كبناء حضاري وعرقي في آن. وينطلق من سؤالين محوريين:
(1) كيف يمكن التمييز بين الاستعمار والهيمنة العرقية؟
(2) وما الفرق بين المهاجر والمستوطن في سياق الدولة القومية الحديثة بعد الاستعمار؟
وللإجابة عن ذلك، يقارن ممداني بين نماذج للعنف المفرط مثل النازية في ألمانيا، والفصل العنصري في جنوب أفريقيا والسودان، والنظام الصهيوني في فلسطين/إسرائيل. ويُرجع جذور هذه النماذج إلى تجربة «حلّ الدولتين» في أميركا الشمالية، حيث أُنتجت طبقة دنيا دائمة من السكان الأصليين وأُقيمت فوقها أمة استيطانية جديدة من المهاجرين. وبهذا سنَّت المواطنة الأميركية تسلسلاً هرمياً للمواطنين، وصدّرت هذا النموذج إلى أوروبا وأفريقيا وآسيا.
إنّ مشروع محمود ممداني الفكري والنضالي يسعى إلى بناء عدالة اجتماعية ضد العنف، وإلى إعادة التفكير في المجتمع السياسي على قاعدة «الإقامة المشتركة» دون تقسيم البشر إلى مستوطنين وأصليين
في تحليله، لا يكتفي ممداني بتفكيك أعراض الدولة القومية، بل يتوجّه إلى نموذجها البنيوي ذاته بوصفه احتكاراً للأمّة والهوية. ويحمّل هذه الدولة مسؤولية العنف السياسي الذي لا يقتصر على الجناة فحسب، بل يشمل المتفرّجين والمستفيدين أيضاً. فالمستفيدون، في رأيه، يجب أن يُساءلوا لا عن نواياهم، بل عن المنافع التي جنوها من جرائم العنف.
إنّ مشروع محمود ممداني الفكري والنضالي يسعى إلى بناء عدالة اجتماعية ضد العنف، وإلى إعادة التفكير في المجتمع السياسي على قاعدة «الإقامة المشتركة» دون تقسيم البشر إلى مستوطنين وأصليين. إنه، كما يقول، ينشد دولة بلا أمّة. ويستند في تنظيره إلى رؤى مناهضي الفصل العنصري والمفكّرين ما بعد الاستعماريين الذين رأوا أن القومية والاستعمار وجهان لعملة واحدة، ونتاجان متزامنان للتطورات السياسية الأوروبية داخل القارة وخارجها.
في كتابه السالف الذكر، يذهب ممداني إلى أن القومية والاستعمار وُلدا معاً، وأن الدولة القومية الحديثة تمثّل الضامن لبقاء النظام الدولي القائم على العنف المفرط واستبعاد المهاجرين وغير المواطنين. فبينما ترفع الدولة شعارات حقوق الإنسان، فإنها في الوقت نفسه تمارس الإقصاء ضد غير المنتمين إلى «الأغلبية الوطنية»، مستنسخة منطق الاستعمار ذاته في تمييزها بين «المواطن« و«الآخر».
يربط ممداني بين العنف ضد المهاجرين والبنية التاريخية للدولة القومية الحديثة، إذ يُستخدم هذا العنف لإعادة إنتاج الهيمنة الدولية لنظام الدولة القومية، ويظهر ذلك في سياسات الهجرة في أوروبا وأميركا وغيرهما. ومن هنا، فإنّ التحرّر من الاستعمار السياسي لا يكتمل – في نظره – إلا بمشروع موازٍ لتحرير النظام الدولي من استعمار الدولة القومية وهيمنتها.
وفي كتابه «المواطن والرعية: أفريقيا المعاصرة وإرث الحقبة الاستعمارية المتأخّرة» (1996)، يقدّم ممداني قراءة نقدية لتاريخ أفريقيا الاستعمارية وما بعدها، مفكّكاً وهم «الوحدة التاريخية لأفريقيا السوداء» الذي حسبه اختراعاً استعمارياً. ويرى أن المقاربة المقارنة لأفريقيا تغفل خصوصياتها البنيوية، لأن غالبية الأمثلة الدراسية مأخوذة من التجربة البريطانية وحدها.
يقسّم الكتاب إلى قسمين: بنية السلطة وتشريح المقاومة. في القسم الأول، يحلّل التناقض بين الحكم المباشر في المدن والحكم غير المباشر في الأرياف، أي بين المجتمع المدني والسلطات القبلية، بين المواطن والرعية، أو بعبارة أخرى بين الاستبداد المركزي واللامركزي. ويؤكّد أن النضال ضد الاستعمار لم يُنهِ الاستبداد، بل حوّله من لا مركزي إلى مركزي، بحيث تولّد نموذج سلطوي معولم يتّكئ على التقاليد القومية الراديكالية.
ومع أن محمود ممداني يطرح رؤية شمولية لتاريخ أفريقيا، إلا أن مشروعه يبقى مفتوحاً على النقد، خاصة في ما يتصل بإمكانية ترجمة هذا الوعي إلى مشروع مستقبلي جامع للقارة.
يغطي مشروع ممداني الفكري طائفة من الموضوعات السياسية الملتهبة ذات الصلة بالإرث الكولونيالي، والدولة القومية بكامل حمولتها المفاهيمية ومبادئها المعلولة، وهو المشروع الذي عكسه ابنه زهران وترجمه في شعارات انتخابية بانتظار التسييل العملي.
* كاتب من الجزيرة العربية
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار
syriahomenews أخبار سورية الوطن
