بديع صنيج
مهما بلغ الخلاف حول شخص الفنان زهير رمضان (1960 – 2021)، إلا أن ذلك يتلاشى أمام احترافه في التمثيل، وقدرته على أداء الأدوار المختلفة وتقمّصها بشكل دقيق، وإعطائها حقها والمساحة اللازمة من روحه لإظهارها بأبهى حلة، على اختلاف نوع العمل الدرامي الذي تنتمي إليه. تتعزز تلك الرؤية النقدية بما يخص إبداعه لـ”الكاراكتيرات” (الشخصيات)، فمن يستطيع أن ينسى شخصية الأب الفارع الطول الذي يُدرِّس ابنه الكسول جدول الضرب في فيلم “رسائل شفهية”؟ (تأليف وإخراج عبد اللطيف عبد الحميد) وتعنيفاته الظريفة رغم قسوتها؟ ومن لم يترك في وجدانه “المختار البيسة سليل الإقطاع” ضمن مسلسل “ضيعة ضايعة” (تأليف ممدوح حمادة وإخراج الليث حجو) عشرات الانفعالات؟ ولا سيما في صراعه المرير والدائم مع “سلنغو”، فادي صبيح، حبيب ابنته “عفوفة” رواد عليو؟ أو عندما ضاع منه ختم المخترة ثم عاد وعثر عليه؟ أو حين اشتغل عازف طبل في الفرقة الموسيقية الناشئة حديثاً؟ من لا يتذكر رئيس المخفر الفاسد “أبو جودت” في باب الحارة (مروان قاووق وبسام الملا) والفتن التي يديرها بين مجتمع الحارات؟ من لم يلفته الأداء المميز لـرمضان في فيلم “نجوم النهار” للمخرج أسامة محمد بشخصية المثقف ذي الخطاب الفارغ، صاحب مقولة: “أين برلين من شجرة التين؟”، والذي يحفظ أنصاف الجُمَل، وبضعة أبيات من الشعر بغية إغواء ابنة من يسكن عندهم؟ رب الأسرة المِثالي، وأحد زعماء الحارة في المسلسلات الشامية، والضابط الشريف، ورجل الأعمال، وبائع الفول في فيلم “حسيبة”، وغيرها الكثير من الشخصيات جسَّدها رمضان بكامل الحيوية بين السينما والتلفزيون، من دون أن يترك الشخصية تسيْطر عليه، فقد كان قادراً على الخروج من شخصية والدخول في أخرى بسلاسة وتَمَكُّن، ولم يكتفِ بأن يكون مؤدياً جيِّداً، بل كان صانع شخصيات من الطراز الرفيع. ينهل من الذاكرة الجماعية، ويلتقط بذكاء الكثير من ملامح الشخصية، ثم يوظِّفها في خدمة أدائه التمثيلي، بعد أن يُشذِّبها ويضيف إليها، وهذا ما جعل له مكانة مميزة على الصعيد الشعبي، لأنه يداعب مخيلة الناس البسطاء، ويُشعرهم بقربه منهم وتعاطفه معهم، حتى في أدواره التي تنحو باتجاه الشر. يقوم نقيب الفنانين السوريين بوضع الشخصية في ميزانه الأخلاقي الخاص، ويعزز سلبياتها في أدائه لها، ولو دفعه ذلك إلى “المبالغة” في كثير من الأحيان، فهو يقبل أن يُحاكَم نقدياً، على أن ينتصر للخير في النهاية، وإيصال رسالة درامية تترك أثرها النبيل لدى الجمهور. لطالما آمن رمضان بأن قيمة الدراما في ما تستطيع أن تُحدِثه من تغييرات إيجابية على الواقع. وإضافة إلى يقينه بـ “تنويرية” الدراما، فإنه في جميع ما اشتغله، سواء في الأعمال الكوميدية أو الدرامية، امتلك سطوة فريدة في الأداء، بمعناها الإيجابي، عزَّزتها الكاريزما الشخصية التي يتمتع بها، وملامح وجه مميزة، من جبهة عريضة، وعيون جاحظة، ونظرة حادّة، يدعمها حاجبان شبه مُقطَّبين حتى أثناء الابتسام، والأهم صوت قادر على الإقناع ودعم وجهة نظره المبنية على رؤيته الخاصة للأمور الحياتية والفنية. منذ بداية الأزمة السورية، كان لزهير رمضان موقفه الواضح مما يجري، وقالها مرة في حوار مع كاتب هذه السطور في العام 2013: “سوريا بلد النور والسر الإلهي المتجسِّد على الأض. لن نسمح لبعض الظلاميين الذين يعيشون جاهلية ما قبل الإسلام أن يحكموا هذا الوطن. سوريا منذ بدء الخليقة ساهمت، ولا تزال تساهم، في بناء الحضارة الإنسانية، فالسوريون هم من علّموا الناس الأبجدية، واللون، والثقافة، والرياضيات، وهم من دوَّنوا للعالم أول مقطوعة موسيقية، وغير ذلك الكثير. لذلك، كيف نسمح أن يحكمنا بعض القتلة السوداويين المارقين؟”. انطلاقاً من هذا الموقف، كان درامياً مع وضع الإصبع على جرح الواقع، وتبيان مكامن الفساد وفضح الفاسدين والمتآمرين. جعل الدراما بمثابة ضوء كاشف يقرأ الواقع ويوضح مثالبه، لكنه كان ضد السُّموم المبثوثة من خلال المسلسلات التي كانت تُرفَض رقابياً، لكنها تُصوَّر في الخارج، وتَعرُض “حِقدَها” كوجبات درامية يشتهيها كل من لا يريد الخير لسوريا. في المقابل، ومنذ تسلمه مهامه كنقيب للفنانين في العام 2014، وتجديد انتخابه في العام 2020، ورغم الجدل الكبير الذي أثارته بعض قراراته وتصريحاته، فإنَّ المُطلعين على عمل النقابة يرون أن معظم اشتغالاته وهمّه فيها انصبّ على الاهتمام بالمنتسبين إليها، المستجدون منهم والمتقاعدون، وذلك عبر الكثير من الطرق، كتهيئة فرص عمل لهم، إذاعية أو تلفزيونية أو في الدوبلاج، وفق جداول زمنية، ومن خلال دعم صناديق النقابة التي وصلت إلى شفير الإفلاس بسبب عدم الالتزام بمضامين مرسوم إنشاء النقابة من قبل بعض شركات الإنتاج، وتهربهم من دفع الضرائب المترتبة عليهم منذ سنوات، والتي تصل إلى ملايين الليرات. يأتي كل ذلك مضافاً إلى قوننة عمل ممثلي الدوبلاج في سوريا، من خلال ضم جمعية “صوتنا فن” إلى النقابة، ومساعدة المتقاعدين والمهجرين من الفنانين بكل ما يتيح له منصبه أن يقوم به. ولأن “حرب الكراسي”، كما يسميها البعض، شرسة، والواقع الفني في سوريا أقل ما يمكن أن يوصف به بأنه “مريض”، فإن ذلك كان كفيلاً بجعل كثيرين لا يتذكرون سوى المساوئ ويتناسون المحاسن، بغض النظر عمَّن يجلس على الكرسي، بحيث ينسفون تاريخه الفني من جذوره بسبب قرار خاطئ أو تصريح مُزعج لهم. رغم كلّ ذلك الأخذ والرد، يبقى حضور زهير رمضان في الوجدان الشعبي هو الميزان، ولا بد من أن عشرات الأدوار التي جسدها على مدى ما يقارب 40 عاماً في السينما والتلفزيون ستترك أثرها لدى محبيه وخصومه على حد سواء.
(سيرياهوم نيوز-الميادين ١٨-١١-٢٠٢١)