آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » زوبعة طه حسين بمصر

زوبعة طه حسين بمصر

د. خالد فتحي

عبارة واحدة لفراس سواح .”انا أفضل من طه حسين، ” كفت كي تثور زوبعة عاتية بمصر اسمها طه حسين، وكي يجد أمناء منتدى “تكوين”، المولود الجديد للساحة – السجالية – أنفسهم في وضع لا يحسدون عليه: .”التنويريون” ممن يحشدهم المنتدى، امتعضوا من جحود وجراءة غير مسبوقة على رائد كبير للتنوير بالعالم العربي من المفروض في “تكوين” استكمال مسيرته النهضوية على الأقل فكريا، و”المحافظون” اهتبلوها فرصة لإطلاق الرصاصة الأولى ضد مشروع تكوين “المشبوه” بنظرهم .

 المستفيدون من هذا الارتطام العلماني الإسلامي بتكوين اثنان: “تكوين” نفسها، والتي استغنت بالواقعة عن سنوات من الدعاية والترويج لاسمها ومشروعها. وطه حسين الذي أثبت أنه الحي بين أشباه الأحياء، و أنه المثير أبدا للجدال والخلاف بين فئتين عظيمتين من “النخب ” العربية لم تضع الحرب اوزارها بينهما كعادة الحروب بين العرب .

وكيف لايكون طه حسين حيا يرزق مع كل هذا النقاش و البعث الذي لاينفك يتجدد لذكراه؟. ذلك ان القضايا التي عالجتها شفتاه لم ترحل بعد نصف قرن من غيابه، بل تحولت حوارا صاخبا مزمنا بنيويا لانكاد نستقر له على مرفأ. مات طه حسين، بعد أن جربت الأمة العربية خلال حياته، ثم بعد حياته كل مشاريع النهضة الممكنة، وأخفقت فيها كلها . مات دون أن يحسم المعركة تاركا مريديه يتخبطون لليوم في مشروعهم، مكتفين منه بتحويل هذا العبقري، طه حسين، إلى شيخ زاوية حداثية يلتئمون تحت صورته عاجزين عن حذو حذوه في التفكير والابداع .حيث لم يفرجوا عن أية بذور فكرية حقيقية لإطلاق حداثة عربية تليق بالتجربة الحضارية للأمة وتنسجم مع جيناتها .الفرق بين طه حسين ومريديه هؤلاء، أنه كان يساجل بعلم وفكر وهدف عظيم يتجاوز ذاته، بينما هم يساجلون بإثارة، وبوز، وتقليد، وعصبية، ومناكفة نفسية لمعارضيهم، وشتان بين الأسلوبين المتنافرين.

ما ميز طه حسين أنه التنويري الليبرالي الحداثي العقلاني الإنساني صاحب العدة الفكرية الثرية، و المتمكن من منهجيته التي لايحيد عنها، الباحث بهما عن غد أفضل لبلده مهما كلفه ذلك من خسائر شخصية جسام .لقد كان ذا بصيرة، وذا قريحة خصبة، يملك أن يقنع بمنهجه وبما يملي. وسواء اتفقت مع نتائج ما كان يذيعه أم لا، ستقر له، إذا كنت منصفا، بأنه كان يبني افكاره بناء متكاملا، ويشدها فيما بينها بمنطق متماسك كي يشيد عليها صرح مشروعه الفكري بل الحضاري.

درس طه حسين بالكتاب، فالأزهر، فالسربون، فكان له أن مارس نقدا للثقافة العربية الإسلامية من الداخل، بصرامة باحث متشبع بالفلسفة الغربية الحديثة، مما جعل حياته تجسد لقاء الشرق بالغرب، وللتقليد بالتجديد، وللاصالة بالمعاصرة، .حتى سوزان رفيقة وعينه كانت لربما داخلة في هذه الخلفية الطاهوية. أي باختصار متعسف، كان طه تنويريا عضويا، وعضويته هذه كانت تشمل مجتمعه ولكن أيضا مسيرة مجتمعه داخل التاريخ، حيث سعى لتفكيك هذا التاريخ باحثا أين تكمن عناصر القوة فيه .وبالتالي، لم يكن هذا الاديب والمفكر الألمعي يرفض القديم كما ندعي عنه، بل لقد كان يتخير من بين هذا القديم، لينتقي ما يعتبره صالحا لنهضتنا . المسيرة أية أمة طويلة جدا، ينبغي فقط اختيار نقطة الإقلاع ضمن هذا التاريخ بدقة وعناية.

طه حسين استثناء ثقافي، مدرسة أدبية قائمة الذات، هو العميد الذي رد للغة العربية جميلها، فأصلح حالها، وطور أساليبها، وجعلها قابلة كي تحمل مضامين حديثة معجما وتركيبا ودلالة، ساعيا بهذه اللغة العصرية الرشيقة السهلة الممتنعة لإخراج العالم العربي من التأخر التاريخي فكريا ووجدانيا، جاعلا من الأدب ساحة للمعركة من أجل الحداثة الشاملة .فهو كان ثائرا على الصنعة الأدبية القديمة، لانه كان ينبغي لها أن تتطور باختلاف العصور، معتبرا أن الجمال الفني في الأدب لا يكفي، وإنما مايلزم هو أن يكون للأدب رسالة يبلغها ويصرفها في المجتمع .كان إذن بهذا المفهوم رجل سياسة واستراتيجيا وسيلته الأدب والكلمة.

 يظهر تفوق طه حسين في جرأته في تصور أسس ومنطلقات غير مطروقة للخلاص الحضاري لمجتمعه المصري، إنه المفكر الذي أراد ان يعود بهذا المجتمع للنبع الإغريقي لإطلاق حداثته تماما كما فعل الغرب .كان ينسخ من الغرب، ما في ذلك شك، ولكنه لم يكن يفعل ذلك انبهارا به ولا تقليدا له، وإنما كان يفعله بحثا عن المصلحة، و من خلال التأصيل لأحقية مصر في النهل من التراث اليوناني الأول اعتمادا على تاريخها الفرعوني الذي كان يدور بالفضاء المتوسطي مرتبطا باليونان القديمة وبروما قيصر.

في كتابه في الشعر الجاهلي، شكك طه حسين بالتاريخ الادبي والسياسي العربي، وبالتالي بالتاريخ الاسلامي، واتهمه بقيامه على النحل والتزوير، ولكن بحجج وبصلابة منطق. كان له في ذلك منهج قوي، فحتى إن ثرت و لم ترض بنتائجه، او دحضته بمنهج آخر، فإن له عليك حق الاعتراف له بقدرته على غرس والتبشير بالتفكير العقلاني الذي هو أساس كل تقدم.

في رأيي، كان طه حسين بصدد نظرية للنهوض بالامة. كان يهدم القديم ليبني عليه الجديد، هذا الجديد الذي سيفرج عنه في ” مستقبل الثقافة في مصر” حين سيعتبر أن لامناص من الخيار الغربي للتقدم، وأن مصر لاتقلد وصفة الغرب، وإنما تعانق هويتها الحقيقية ونسبها “البيولوجي” للغرب، وأن الثقافة هي الحل، والتعليم يجب أن يكون مجانيا مثل الماء والهواء،

وتنظيرات أخرى مما لانزال نشقى سواء في مصر أو في باقي الدول العربية في تنزيلها دون جدوى .

و مع ذلك، لم يكن طه حسين ذا فكر جامد، وإنما كان يبحث عن سبيل للنهضة يتفق والإمكانات المتاحة لها باختلاف الظروف السياسية والتاريخية، ففي عهد فاروق، والدول العربية تعاني انفراط عقد الخلافة، وهيمنة الدول الاستعمارية عليها، كان طه حسين يحبذ الأصول الغربية لمصر لنهضتها، ومع بروز الاستقلالات والتيار القومي مع عبد الناصر وظهور هذا الإمكان الجديد للنهضة، سيهب طه حسين لكي يعيد تعريف الشرق الذي “لا تنتمي” له مصر، قائلا إنه يقصد به الشرق الأقصى، وليس الجزيرة العربية، معيدا مصر لمكانتها المركزية العربية . وهو ما برز ايضا بوضوح في كتاباته عن الاسلام ابان المرحلتين النبوية والراشدية .واظن أن طه حسين بهذا التقلب لم يكن يلفق أو يداري أحدا، ولكنه كان يصدر عن ثقافة واسعة ومخيلة جبارة ورأي مستنير، كان يصوغ أرضية للنهضة انطلاقا من إمكانات الأمة في الظرف الذي توجد، فيه. فالأمة تتقدم بسردية، والسردية ينتبه لها، ويكشف عنها المفكرون. كان إذن ينطلق من الواقع كمحدد للنظرية التي ينبغي أن تكون . هذا ما ينبغي أن نستفيده من هذه العبقرية الفذة، وما ينبغي لنا أن نقلدها فيه، استبصار ما تختزنه المرحلة الراهنة، والبحث لها عن الوقود النظري المناسب في احترام دائما لما هو اساسي في هويتنا، وإلا في ماذا يفيدنا أن نربح النهضة بخسران أنفسنا. ربح النهضة يكون ونحن نحن .فهذا هو الرهان الصعب جدا دون أن يكون مستحيلا .

 وصولا لهذه النقطة، يكون ما قاله فارس سواح مستحقا منا لتفسير نفسي، ، وهو أنه عبر عن أمنية تراود مخيلة الاتجاه الحداثي الحالي : شغر مكان طه حسين، والتقدم ولو قليلا عن المرتبة التي بلغ إليها فكره، ونفي وصمة العقم عنه ولذلك قد قال ما قاله، لقد كان يعبر عن غصة، عن مرارة، و عن شعور يعذبه ناجم عن العجز على استكمال مسيرة العميد الفكرية، هذا العميد الذي لم يقدروا على اسقاطه من زعامته، فظلوا تلاميذ خائبين يتمسحون به، بينما كان يريد منهم ان يرى فيهم خلفه. ولكنهم مثل ابناء عصاة ومتهاونين، لايزالون جميعا قابعين في خيمة فكره مستمرئين الجمود و الكسل، يجترون ما أملاه، غير قادرين عن إبداع الجديد الذي دعاهم له، لانهم بكل بساطة قرأوا انتاجه، ولكن لم يتملكوا منهجه. اذ مهما ادعوا وتباهوا بذلك، فهم لم يأتوا بأي سمين بعد النابغة المبصر طه حسين.

 

 

سيرياهوم نيوز 2_راي اليوم

x

‎قد يُعجبك أيضاً

المؤسسة العامة للسينما تعيد تأهيل صالات الكندي

تماشياً مع رغبة المؤسسة العامة للسينما في تقديم أفضل ما يمكن من أساليب العمل السينمائي، وتأكيداً لضرورة تأمين حالة عرض متقدمة ومتميزة لجمهورها، فإنها عملت ...