شاهر الشاهر
الأنظار تتجه إلى الزيارة المنتظرة للرئيس السوري إلى بكين، وكل التوقّعات تشير إلى أنها ستكون زيارة تاريخية ونقطة فارقة في صياغة توازنات القوى الدولية في منطقة الشرق الأوسط.
نهجاً دبلوماسياً جديداً تنتهجه الحكومة الصينية، قائماً على المزيد من الإصرار في تحدي الإملاءات الأميركية، والمضي قدماً في تطوير علاقات بكين مع الدول التي أرادت لها الولايات المتحدة أن تكون معزولة عن العالم، وتأتي في مقدمة هذه الدول سوريا.
قبل أيام استقبلت بكين الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، وأعلن البلدان رفع مستوى العلاقات بينهما إلى “شراكة استراتيجية قادرة على الصمود”. وهذا هو المستوى الأعلى في العلاقات الدبلوماسية الصينية مع دول العالم. حيث أن هناك ثلاث دول فقط تحظى بهذا المستوى من العلاقات، وهي (باكستان وروسيا وبيلاروس)، فهل ستكون سوريا هي الدولة الرابعة؟
الرهان على سوريا بالنسبة لبكين هو رهان جيو سياسي، لا يمثل الاقتصاد والثروات إلا أحد أبعاده. فدمشق بالنسبة لبكين تُمثّل “استثناءً أيديولوجياً على صعيد الشرق الأوسط، من حيث نمط الخيارات الفكرية والأيديولوجية المؤطرة للدولة والسياسة السورية، إضافة إلى التنوع الحضاري للمجتمع السوري، وتعدديته الثقافية والاجتماعية.
تُعد سوريا رصيداً استراتيجياً للصين، لا من حيث ثرواتها الطبيعية فقط، بل من زاوية ثقلها الجيو سياسي على صعيد الموقع الجغرافي والمكانة الحضارية، والدور الذي تؤديه في معادلات السياسة الشرق أوسطية. على الرغم من أن العلاقات الصينية مع سوريا بقيت مستمرة طوال سنوات الحرب، إلا أنها لم ترتقِ في مظاهرها إلى مستوى المواقف الصلبة لبكين في مجلس الأمن، حيث استخدمت حق الفيتو عدة مرات من أجل سوريا.
ففي العام 2012 استخدمت الصين حق الفيتو ضد مشروع قرار تقدّمت به واشنطن يطالب بسحب جميع القوات العسكرية من المدن والبلدات السورية. وفي شباط/فبراير 2017 استخدمت بكين حق الفيتو ضد مشروع قرار يتضمن فرض عقوبات على الحكومة السورية بعد اتهامها باستخدام أسلحة كيميائية. وفي تموز/يوليو من العام 2020 اعترضت بكين على تمديد إرسال المساعدات إلى سوريا عبر تركيا.
ارتكزت السياسة الخارجية الصينية تجاه سوريا على تقاطع عاملي المصلحة والأيديولوجيا، وهذان العاملان كانا وما زالا محدّدين أصيلين لسياسة الصين الخارجية، ولهما جذورهما في الفكر السياسي الصيني.
فبين ما تشكّله سوريا من أهمية جيوسياسية واقتصادية للصين، وبين سياسة الصين الثابتة والمتمثّلة في رفض التدخّل في الشؤون الداخلية للدول، وتحقيق العدالة وإرجاع الحقوق، استطاعت بكين أن تضع ملامح سياستها الخارجية تجاه سوريا بانسجام تام بين تحقيق مصالحها الوطنية، والدفاع عن المبادئ التي تؤمن بها والتي شكّلت هوية خاصة للسياسة الصينية.
الموقف الصيني من الحرب على سوريا كان موقفاً مبدئياً منسجماً مع مبادئ السياسة الخارجية الصينية وتوجّهاتها المتمثلة في رفض التدخل في الشؤون الداخلية للدول. لذا فقد سعت بكين إلى العمل على وقف الحرب في سوريا، وطرح العديد من المبادرات التي تهدف إلى إيجاد مخرج للصراع الدائر فيها.
إن موقف الصين من الحرب على سوريا، استند إضافة إلى اعتبارات المصلحة والأيديولوجيا، إلى اعتبار سعي الصين لحفظ وتعزيز نفوذها في معادلة توازنات القوى الدولية في منطقة الشرق الأوسط. فبكين باتت أحد الأقطاب الرئيسة في العالم، وما التطور في السياسة الخارجية الصينية تجاه سوريا إلا انعكاس لتصاعد مكانة الصين وقوتها.
المتابع للعلاقة بين البلدين لا يجد ما يشير إلى تطوّرها لتصل إلى مستوى “الشراكة الاستراتيجية”، كما دأبت وسائل الإعلام في وصفها لتلك الشراكة.
ربما السبب في ذلك يعود إلى الغموض الكبير ودبلوماسية الغرف المظلمة التي فضّل البلدان انتهاجها، لظروف تتعلق بكل منهما، وربما كان ذلك مطلباً صينياً أكثر منه سورياً، ولا سيما أن بكين لها حساباتها الخاصة والدقيقة لجهة عدم المضي في استفزاز الولايات المتحدة الأميركية أكثر من اللازم، سعياً منها لتمرير الوقت، وصولاً إلى تحقيق مشروعها الاستراتيجي الكبير (مبادرة الحزام والطريق).
سوريا من جهتها، وإن كانت بأمسّ الحاجة لوجود أصدقاء يقفون معها في محنتها، إلا أنها تدرك تماماً مصالح الدول الأخرى وتتفهّم ظروفها، وتعي أن العلاقة معها لا يمكن أن تقاس بميزان “الربح والخسارة” فقط، فهناك بعد استراتيجي يشكّل العامل الأهم في توجهات الدول العظمى.
الصين من جهتها وقفت مع سوريا دبلوماسياً وإنسانياً، فأبقت على سفارتها مفتوحة في دمشق، وكانت إلى جانب الحق السوري في مجلس الأمن، ولم تتوانَ عن تقديم المساعدات الإنسانية لسوريا، وخاصة في ظل انتشار كوفيد 19، وعند كارثة الزلزال التي مرت بها سوريا قبل عدة أشهر.
ربما ذلك لم يكن كافياً للقول إن العلاقة بين البلدين ترقى إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية، لكن الجانب المخفي في العلاقة بين البلدين يبدو أنه الأهم والأكثر فاعلية في السمو بتلك العلاقة لتكون “علاقة استراتيجية”.
الدبلوماسية الشعبية كانت حاضرة، وسعي الصين لتفعيل “قوتها الناعمة” استفادت منه دمشق، فلم تتوقّف الوفود الحزبية والاقتصادية بين البلدين، كما ازداد عدد الطلاب السوريين الذين يدرسون في الجامعات الصينية وعلى نفقة الحكومة الصينية. اللافت للنظر أن الزيارات المتبادلة بين مسؤولي البلدين كانت قليلة جداً، ويبدو أن سفارتي البلدين كانتا تفيان بالغرض لإدارة تلك العلاقات وتوثيقها.
ولكن، لم يكن من قبيل الصدفة ربما أن يقوم وزير الخارجية الصيني وانغ يي بزيارة دمشق يوم إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية في سوريا في 17/7/2021، ليكون بذلك أول المهنئين للرئيس الأسد بفوزه في تلك الانتخابات. تلك الزيارة اكتسبت أهمية كبرى، ومثّلت تحوّلاً في السياسة الخارجية الصينية نحو مزاحمة الغرب في مناطق عديدة في العالم، حيث كانت أول زيارة يقوم بها مسؤول صيني كبير إلى سوريا منذ العام 2011، بعد اندلاع الأحداث فيها.
وانغ التقى الرئيس الأسد وهنّأه بإعادة انتخابه رئيساً للجمهورية، وقام الرئيس الصيني، شي جين بينغ، بإرسال برقية تهنئة إلى الأسد بمناسبة انتخابه، قائلاً: “إن الصين تدعم بقوة سوريا في حماية سيادتها الوطنية واستقلالها وسلامة أراضيها، وستقدّم كلّ ما تستطيع”.
بعد زيارة وانغ إلى دمشق دعت بكين إلى رفع العقوبات عن سوريا، وقدّمت مبادرة من أربعة محاور لحل الأزمة فيها، وقد تضمنت هذه المبادرة:
١-احترام السيادة الوطنية ووحدة الأراضي السورية، من خلال ترك الشعب السوري هو الذي يحدّد مصير بلاده وبشكل مستقل.
مواضيع متعلقة
“الممر الهندي”.. مشروع اقتصادي أم مؤامرة سياسية؟
14 أيلول 23:07
الرياض ومآلات تعزيز الروابط العسكرية مع بكين
9 أيلول 23:02
٢-التسريع في عملية إعادة الإعمار ورفع جميع العقوبات عن سوريا وبشكل فوري، وهو الطريق لحل الأزمة الإنسانية في البلاد.
٣-مكافحة المنظمات الإرهابية المدرجة على قائمة مجلس الأمن الدولي.
٤-دعم حل سياسي شامل وتصالحي للقضية السورية، وتضييق الخلافات مع جميع فصائل المعارضة السورية من خلال الحوار والتشاور.
جاءت زيارة وانغ بعد أن استطاعت الحكومة السورية فرض سيطرتها على معظم الأراضي السورية، وهو ما كان يعني الانتقال إلى مرحلة إعادة الإعمار التي تسعى بكين لأن يكون لها دور كبير فيها، نظراً لامتلاكها المقومات المالية والسياسية اللازمة لذلك.
في ظل التصعيد الكبير في العلاقات بين الصين والولايات المتحدة الأميركية، وجدت الصين نفسها مضطرة للمواجهة “الفاعلة والصامتة” ضد الولايات المتحدة الأميركية. وقررت بكين الدخول إلى مناطق النفوذ التاريخية للولايات المتحدة، وخاصة منطقة الشرق الأوسط، رغم ما في تلك المنطقة من توترات وأفخاخ، لطالما سعت بكين إلى تجنّب الخوض فيها.
الولايات المتحدة، ولعقود مضت، استطاعت تصوير المشاكل في منطقة الشرق الأوسط بأنها “مشكلات عصية على الحل”، محورها صراعات دينية تعود أسبابها إلى عدة قرون مضت.
نجاح الصين في تفعيل التعاون العربي الصيني، وخاصة بعد القمة العربية الصينية التي عقدت في الرياض، شكّل عاملاً مشجّعاً لبعض الدول العربية لتحقيق المزيد من الانفتاح على دمشق. هذا الانفتاح توّج بعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، والمضي بالمبادرة العربية مع دمشق، والتي يبدو أنها تسير ببطء شديد، وربما هو متعثّر، لكنها لم تصل إلى طريق مسدود بكل تأكيد.
وكذلك نجاح الوساطة الصينية في تقريب وجهات النظر بين السعودية وإيران، والوصول بالعلاقات بين البلدين اليوم إلى مستوى إعادة افتتاح السفارات وتبادل السفراء، لا بد أن ينعكس إيجاباً على العلاقات العربية مع سوريا. كما باتت الصين تشعر بارتياح أكبر في تعاطيها مع الملف السوري بعيداً عن المنافسة مع الأطراف الدولية الفاعلة على الأراضي السورية، وخاصة إيران وروسيا.
وفي ظل تصاعد الحملة على دمشق، والتي تمثلت بإرسال المزيد من القوات الأميركية إلى المنطقة، والحديث عن ضرورة قطع الطريق بين سوريا والعراق عبر حزام يصل بين التنف والبوكمال، عماده الاستخبارات الأميركية وأدواته فصائل من المنطقة لها انتماءات وولاءات غير وطنية.
تزامن ذلك كله مع تصاعد الاحتجاجات في الجنوب السوري (السويداء)، والمعارك بين ميليشيا “قسد” وقوات العشائر في شمال وشرق سوريا. فالأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها سوريا، ساهمت وبشكل كبير في تأجيج تلك الصراعات، وازدياد حجم المخاوف من انتقالها إلى مناطق أخرى في سوريا.
السبب في تلك الاحتجاجات عائد ربما في الكثير منه إلى الرؤية بعين واحدة، فالحكومة السورية ترى في العقوبات الأميركية السبب الرئيس في ذلك، فيما يرى الكثير من السوريين أن السبب عائد إلى ازدياد حجم الفساد الذي فاق المعقول وأثقل كاهل المواطن.
دخول الصين على خط الأزمة السورية، وفي هذا الوقت بالذات يشكّل دعماً سياسياً قوياً لسوريا، ولا بد أن يتزامن مع مزيد من الدعم الاقتصادي الذي باتت سوريا بأمسّ الحاجة إليه.
استقبال الرئيس السوري في بكين سيشكّل قفزة نوعية في العلاقات بين البلدين، وعلامة فارقة في الموقف الصيني الذي يهدف للانتقال إلى نظام دولي أكثر عدلاً.
هذا النظام ربما كانت الحرب على سوريا نقطة البداية له، فيما أسهمت الحرب الأوكرانية في تبلوره بشكل أكبر، حيث باتت سياسة المحاور الدولية أكثر تمظهراً وحضوراً على الساحة الدولية. كانت الزيارة الوحيدة للرئيس الأسد إلى بكين في العام 2004، وتمّ التركيز خلالها على التعاون الاقتصادي بين البلدين.
صحيح أن التنمية تحتاج إلى استقرار سياسي وأمني، لكن يجب ألا يمنع ذلك من البحث عن حلول للمشاكل التي قد تعوق التعاون الاقتصادي أو المشاركة في إعادة الإعمار.
ومن المفيد تعزيز وتشجيع الحوار المشترك بين رجال الأعمال السوريين والصينيين، خاصة فيما يتعلق بإيجاد حلول للمشاكل المرتبطة بإعادة الإعمار (التمويل مثلاً). والعمل على الانتقال من تعاون اقتصادي إلى شراكة اقتصادية حقيقية بين البلدين، من خلال الربط الطرقي والسككي وربط خطوط الطاقة بين كل من إيران والصين والعراق وسوريا.
وهو المشروع الذي كان قد طرحه الرئيس السوري بشار الأسد في العام 2002 كاستراتيجية لتحويل سوريا إلى قاعدة لنقل الغاز، ومنطقة تجارة حرة تصل الشرق بالغرب، عبر ربط البحار الخمسة، وهو ما رأت فيه الصين إحياءً لطريق الحرير، لتشكيل أطول ممر اقتصادي رئيس في العالم، من سوريا إلى الصين، وهذا يتوافق مع مبادرة الطريق والحزام الصينية التي طرحها الرئيس الصيني شي جين بينغ عام 2013.
كما تحتاج سوريا إلى تطوير النظام المصرفي فيها، وهي بحاجة إلى خبرة الصين في هذا المجال، والبحث عن آليات دفع تعتمد على غير الدولار الأميركي. ومن المفيد تعزيز العلاقة بين الغرف التجارية والصناعية والزراعية وإقامة غرف مشتركة على هذا الصعيد بين الدولتين، وغير ذلك من مجالات التعاون….
مجالات كثيرة للتعاون بين البلدين، ستحقق نتائج هامة لكلا البلدين، فيما لو استطاعا تجاوز العقبات البيروقراطية وإيجاد قنوات للتواصل المباشر بينهما. ذلك التعاون لن يكون مرحّباً به من قبل أعداء سوريا، وخاصة الولايات المتحدة الأميركية التي تمارس النهب اليومي للنفط السوري من الآبار التي تحتلها، فيما تعلن للعالم أن هدف تلك القوات الأميركية الموجودة هناك هو مكافحة الإرهاب “داعش”. وكانت وسائل الإعلام الصينية قد سلّطت الضوء وبشكل كبير على تلك الجريمة، التي تعد أكبر عملية سرقة دولية، وعلى مرأى ومسمع الجميع.
يبدو أن الصين باتت اليوم أكثر قوة وجرأة لإظهار قوتها وموقعها في النظام العالمي، وخاصة بعد تصاعد التوترات بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية، وهو ما يشكّل فرصة أمام سوريا لتطوير علاقاتها مع بكين.
الأنظار تتجه إلى الزيارة المنتظرة للرئيس السوري إلى بكين، وكل التوقّعات تشير إلى أنها ستكون زيارة تاريخية على مستوى العلاقات بين البلدين، ونقطة فارقة في صياغة توازنات القوى الدولية في منطقة الشرق الأوسط، بل وربما في العالم.
سيرياهوم نيوز1-الميادين