تندرج المقاربة التركية تجاه “إسرائيل” في إطار تقييم شامل للسياسة الخارجية التركية، منذ ما يسمى “الربيع العربي”.

استقبل الرئيس التركي رجب طيب إردوغان رئيس العدو الإسرائيلي إسحاق هيرتسوغ في قصره، استقبالاً حافلاً ودافئاً، بعد ما يشبه القطيعة السياسية لنحو 15 عاماً. وشكّلت الزيارة العلنية تتويجاً لمسار غير معلَن، بدأ منذ ما يقارب عاماً ونصف عام، سعت خلاله تركيا لاستعادة العلاقة بالعدو الإسرائيلي.
تاريخياً، تُعَدّ تركيا الدولة الإسلامية الأولى التي اعترفت بالعدو الإسرائيلي عام 1949. ومنذ ذلك الحين، تطورت العلاقات الاقتصادية والعسكرية والسياسية بين البلدين. وفي عام 1991، تبادلت الحكومتان السفراء. وعام 1996 تم توقيع اتفاقيات التعاون العسكري، والتي شملت إجراء مناورات عسكرية مشتركة، وعقد صفقات بيع معدات عسكرية متعددة وشرائها. ومطلع عام 2000، أصبحت اتفاقية التجارة الحرة بينهما سارية.
استمرت العلاقات بين تركيا و”إسرائيل” بعد تولي حزب العدالة والتنمية الحكم عام 2002، وزار رئيس الوزراء التركي (حينها)، رجب طيب إردوغان، “تل أبيب” عام 2005، والتقى رئيس وزراء العدو في حينه أرييل شارون، وقال له إن حزب العدالة والتنمية يعدّ معاداة السامية “جريمةً ضد الإنسانية”. وأضاف أن طموحات إيران النووية تشكل تهديداً، ليس فقط لـ”إسرائيل”، بل لـ”العالم بأسره” أيضاً.
تعرَّضت العلاقات بين الطرفين لأزمة نتيجة حادثة أسطول الحرية عام 2010، عندما قتلت “إسرائيل” ناشطِين أتراكاً كانوا مبحرين في اتجاه قطاع غزة المحاصَر، واشترطت تركيا رفع الحصار عن قطاع غزة من أجل استعادة العلاقات بـ”إسرائيل”، وهو الشرط الذي تنازلت عنه عام 2016. وتم الاتفاق على بدء تطبيع العلاقات، ومعالجة الأزمة الدبلوماسية بينهما.
وعلى الرغم من اتفاق عام 2016، فإن العلاقات اتسمت بالفتور على المستوى الدبلوماسي، بينما شهدت ازدهاراً ملحوظاً، اقتصادياً وتجارياً، ولم تتأثّر بالعامل السياسي.
تتباين السياقات والمحاولات التي بُذلت من أجل رأب الصدع في العلاقة بين الجانبين. وعلى الرغم من أن الدفع في اتجاه إصلاح العلاقة كان “إسرائيلياً”، منذ توترها خلال الأعوام الخمسة عشر السابقة، فإن الحرص التركي، مؤخّراً، على تطبيع العلاقات مع العدو وترميم شوائب المرحلة السابقة كان هو الغالب، بل إن الجانب الإسرائيلي طرح مطالب واشتراطات لعودتها.
فما هي دوافع القيادة التركية إلى تطبيع العلاقات مع العدو في كل المجالات؟
يُعَدّ العامل الاقتصادي أحد الدوافع البارزة، نتيجة تعرض الاقتصاد التركي لأزمات حادة، أدت إلى تراجع ملحوظ في قيمة الليرة التركية، وبلغت معدلات التضخم مستويات قياسية. وعلى الرغم من استمرار العلاقات التجارية بين الجانبين، فإن الحكومة التركية تسعى للتفاهم مع “إسرائيل” بشأن موارد الطاقة وإمداداتها في المنطقة. وأبدى الرئيس التركي رغبته في التعاون مع “إسرائيل” في إطار مشروع مدّ خطّ أنابيب للغاز في شرقي المتوسط، بحيث تتمّ الإمدادات من “إسرائيل” في اتجاه أوروبا عبر الأراضي التركية. وبالتالي، تستفيد تركيا من العامل الجيوسياسي في دعم اقتصادها المترنّح.
كشفت الحرب الروسية الأوكرانية أهمية خفض الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي، علماً بأن مشروع “إيست ميد”، الناقل للغاز من “إسرائيل”، يُفترض به أن يمدّ أوروبا بـ 10% من حاجتها، وهو المشروع الذي ألغته إدارة بايدن، الأمر الذي يعدّه أردوغان فرصة يجب استغلالها.
ينعكس تدهور الحالة الاقتصادية في تركيا على شعبية الرئيس إردوغان، الذي يسعى لتحسين شعبيته التي تراجعت قبل انطلاق الانتخابات الرئاسية العام المقبل.
تندرج المقاربة التركية تجاه “إسرائيل” في إطار تقييم شامل للسياسة الخارجية التركية منذ ما يسمى “الربيع العربي”، فلقد دعمت تركيا مسار التغيير في المنطقة، وراهنت على تغيير الأنظمة وبناء علاقات إستراتيجية بالأنظمة الجديدة التي ترتبط بعلاقات وثيقة بتركيا، ولاسيما حركة الإخوان المسلمين، ثمّ تعزيز أكبر للنفوذ التركي في المنطقة، سياسياً واقتصادياً، في إطار تنافس المشاريع بين تركيا وإيران و”إسرائيل” في الشرق الأوسط، وفي ظلّ غياب شبه كامل لأيّ مشاريع عربية مستقلة…
ثَبُتَ فشلُ تموضُع تركيا منذ عام 2010، وعدم قدرته على تحقيق أهدافه، بعد فشل مسار التغيير في المنطقة، ودخولها في حالة احتراب داخلية، أدّت إلى تراجع المشروع التركي بينما تعزّز النفوذ الإيراني، وهو ما قابله نجاح في تغلل المشروع الصهيوني في إطار مسار التطبيع مع عدد من الأنظمة العربية.
يبدو أن صانع القرار التركي استعاد قراءة المشهد الإقليمي، وانخرط في مسار خفض التوتر وتطبيع العلاقات بخصومه في المنطقة، وبدأ منذ عام ونصف عام التواصلَ مع “إسرائيل” ومصر والإمارات، وعرضت الدول الثلاث مطالبها، التي تركّزت على تخلي تركيا عن دعم جماعة الإخوان المسلمين، والكفّ عن سياسة التحريض الإعلامي، والحد من النشاط الحمساوي في الأراضي التركية. واستجاب الأتراك لبعض المطالب، وتقدم مسار تطبيع العلاقات بـ”إسرائيل” والإمارات، بينما ما زال مسار التطبيع مع النظام المصري متعثراً حتى الآن.
تتَّجه القيادة التركية إلى مستوى أكبر من الاستجابة للمطالب الإسرائيلية في سبيل تعزيز العلاقة بالعدو الإسرائيلي، وشجّعها تغيير الحكومة الإسرائيلية، بسبب العامل النفسي تجاه رئيسها السابق بنيامين نتنياهو، وساهم تغييرُ الادارة الأميركية وتولي جو بايدن الرئاسةَ في الدفع في اتجاه المقاربة التركية الجديدة، انطلاقاً من تقليص الفجوة بين بايدن وإردوغان، الذي ارتبط بعلاقة أكثر انسجاماً بسلَفه دونالد ترامب.
سينعكس تطبيع العلاقات التركية الإسرائيلية على العلاقات بين “حماس” وتركيا، وقد تطلب الأخيرة من قيادة “حماس” الحدّ من أنشطتها داخل تركيا، وربما تُبدي عدم ترحيبها بوجود ثقل قيادي حمساوي في الأراضي التركية. وأصدرت الحركة بياناً شجبت فيه توجهات دول المنطقة إلى التطبيع مع “إسرائيل”، تزامناً مع زيارة هيرتسوغ لتركيا، من دون ذكر اسم تركيا في البيان، وهو ما يعكس الحرج الحمساوي نتيجة الخطوة التركية، الأمر الذي قد يُخفي توتراً في العلاقات بين الطرفين، قد تتضح آثاره في المرحلة المقبلة.
(سيرياهوم نيوز-الميادين11-3-2022)