| ياسر عبد الحسين
يقول المؤرّخ والأكاديمي الأميركي ألفرد ويتني غريسولد «إن الذين لا يعتبرون من أخطاء الماضي مكتوب عليهم تكرارها مرة أخرى»، وهذا محور حديث مع صديق ديبلوماسي روسي، تعرّفت إليه في المعهد الديبلوماسي في موسكو، عن الأهداف الروسية في حرب أوكرانيا. قال لي إن البشر يعيدون التاريخ نفسه، فهناك من يعيه جيّداً وهناك من لا يستفيد من دروسه. وتساءل ماذا لو عاد الزمن إلى أيّام الحرب الباردة وقد سعى الاتحاد السوفياتي، مثلاً، لإقناع كندا بالانضمام إلى حلف وارسو، هل ستقف واشنطن متفرّجة وترى الخطر قريباً من حدودها ومجال أمنها القومي؟ لا شك سوف تتدخّل، وهذا ما يحصل اليوم بمحدودية الخيارات أمام الكرملين. في المقابل، ما حصل في الدرس الذهبي في تاريخ العلاقات الدولية، المتمثّل في أزمة الصواريخ الكوبية، يعيد إلى الأذهان تلك المشاهد الحابسة للأنفاس تجاه حرب نووية مدمرة. وبغض النظر عن المبررات الرسمية للحرب، يبقى سؤال «لماذا الحرب؟». وبعيداً من معجم الحروب والصراعات العالمية، فإن هناك أسباباً عامة للحروب، وكما يقول الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي، في روايته «الإخوة كارامازوف»، فإن الهمجية والعنف متأصلة في طبيعة الإنسان. أو كما يذهب الواقعي كينيث والتز، بأن الطبيعة البشرية هي سبب مهم من أسباب الحرب، لكن لا يمكن أن تكون هي السبب الوحيد لتفسير الحرب والسلم، لأن الإنسان قد يحارب وقد لا يحارب. لكن في النتيجة يعاد في هذا العالم أحياناً، من باب إسقاط الفرض، سؤال الحرب وفق السياق الأخلاقي. وهو السؤال ذاته الذي دارت حوله المناقشات والمناظرة التاريخية بين أينشتاين وفرويد، وإن بقي الاتفاق على كينونة الحرب وأسبابها. سؤال «نهاية الحرب» يظل يتجدد، حتى وإن لم يبرد سلاح المعركة في الثكنات بعد، ولم يدخل الصدأ صداه في خرطوم المدافع الثقيلة، ولم يرجع المحارب المثخن بالجراح إلى بيته، ولا تزال نيران الحروب، باردة وحارة، تعتلي اهتمام الشاشات قبل أن تبدأ الحروب أو تنتهي من دون تحقيق الانتصارات. بل إنه السؤال الأوّل بعد إطلاق أوّل رصاصة في أرض الميدان.
وقف المواجهة العسكرية لا يعني انتهاء الحرب، فتظل تبعاتها الدولية والداخلية مستمرة، لا سيما مع التغييرات التي طرأت على طبيعة الحروب المعاصرة
وعليه، فإن فهم هذه الطبيعة المزدوجة للحرب تسهم في تحقيق أهداف الدولة وصانع القرار. لأنه في النتيجة الفشل العسكري هو فشل منظومة السياسة قبل منظومة القوة العسكرية، وأخطاء الحسابات السياسية ستؤدي إلى عواقب وخيمة، يعبّر عنها الفرنسي دينيس ديدرو بأن «الحرب مرض التشنج العصبي في الجسم السياسي». ويبقى سؤال «نهاية الحرب» سؤالاً سياسياً بالدرجة الأساس. يلفت كلاوزفيتز إلى ذلك بالإشارة إلى أن الخطوط الرئيسية، التي تتقدّم على أساسها الأحداث العسكرية، هي الخطوط السياسية التي تستمر طوال الحرب إلى السلام اللاحق لإنهاء الحرب. لهذا، فإن المناقشات الأساسية في نهاية الحروب تغلّف تفكير النخبة بعد ظهور النتائج الأوّلية لنهاية اللعبة، وربما توضع السيوف في غمدها، أو ترسل للمعامل من أجل حدّها وإعدادها لبداية دورة الحروب الجديدة، وفي الوقت ذاته هي لحظة البحث عن تسويات للتوصل إلى حلول أو تسوية سياسية في ذروة ضباب الحرب.
وقف المواجهة العسكرية لا يعني انتهاء الحرب، فتظل تبعاتها الدولية والداخلية مستمرة، لا سيما مع التغييرات التي طرأت على طبيعة الحروب المعاصرة، والتي انعكست على الدراسات الأمنية النقدية التي تشكك في أي تمييز سهل بين الحرب والسلام. إذ كان بالإمكان إعلان النصر في القرون الماضية عبر الانتصار في ميدان المعركة، فكيف لنا اليوم أن نتصوّر نهاية الحروب بالنظر إلى الأشكال الضبابية التي تحوّلت إليها الحرب اللانهائية. وهذا ما يحصل أمامنا في الحرب الروسية، فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن تهمل الجغرافيا في هذه الحرب، لكون الترتيبات الأمنيّة واحدةً من أهم أسباب الحرب الجارية حالياً، وهذا العامل الجغرافي سيضع عنصر قوة جديداً بحكم تواجد الروس على الأرض في معادلة مدن التفاوض أو الوساطات المقبلة. في المقابل، لن تكون الشروط التي سوف يمليها الكرملين سهلة، خصوصاً ملف توسيع حلف «الناتو». ومن الواضح للمراقب أن طبيعة الحرب أبعد من أن تكون نزاعاً على مجرّد أرض. قناعات صنّاع القرار قد تختلف، فقد تقنع دولة متحاربة بالمطالبة بشكل أو بآخر في مفاوضات السلام، وقد ترفض دولة ما التفاوض على شروط محدودة. وبدلاً من ذلك، تسعى بإصرار لتحقيق النصر.
وربما إن سؤال نهاية الحرب في أوكرانيا يعتمد على القدرة الروسية على إمكانية إجابة السؤال التالي: هل لروسيا القوة لإنهاء النظام الأوروبي الذي واجهته أساساً منذ سقوط جدار برلين، بالتالي تحوير الأهداف، ليس فقط عدم انضمام أوكرانيا إلى «الناتو»، ولكن عدم وجود «الناتو» في أوكرانيا، ممّا يعني عدم وجود تعاون عسكري مع أوكرانيا، أي حدود ما قبل 1997، والهدف الأسمى إيصال رسالة لكل دول الطوق الاستراتيجي الروسي بأن السعي للحصول على عضوية «الناتو» سيكون انتحاراً سياسياً.