عبد الحكيم مرزوق
للشاعر عبد الكريم الناعم تجربة تمتد لأكثر من ستين عاماً في الإبداع الأدبي أنجز فيها (39) كتاباً في الشعر ونقد الشعر وفي النقد التنظيري والتطبيقي، وكتاباً واحداً (شعر وعتابا) باللهجة المحكية البدوية، وكتاب «مدارات- سيرة زمن، من الطفولة حتى الثامن من آذار1963» ومدارات- 3 سيرة رجال، وكتباً أخرى في الأدب والثقافة والسياسة والفكر، وكُرّم عدّة مرّات.
بداياتي كانت مُتواضعة
القصيدة الأولى هل لقيت تشجيع وترحيب المحيط فكانت سبباً في الاستمرار؟
-أنا لا أعتقد أن القصيدة الأولى تفعل كلّ ذلك، لأن قصائد معظم الشعراء الأولى كانت، كما يُقال «قرزمات»، وعبر المسار الشعري يتطوّر نصّ الشاعر وتتعمّق تجاربه، وتنضج أدواته، فـ «أزهار وأساطير»، كمثال، باكورة الشاعر الكبير بدر شاكر السياب»، ليست بمستوى نصوصه في «أُنشودة المطر»، في مرحلة النّضج، والشاعر مَن يستطيع أن تكون له شخصيته، بحيث أن القارئ المؤهَّل يستطيع أن يقرأ نصًاً ما، دون ذكر اسم مُبدعه، فيقول هذا النص لفلان من الشعراء، أو يُشبه شعره، لقد كانت بداياتي، إذا كان هذا المقصود، مُتواضعة، واكتملت التجربة فيما بعد عبر مخاض طويل، ومراحل متطوّرة، مستفيدة من نفسها، وممّا كتبه الآخرون من شعراء سابقين، ومعاصرين، بل تالين.
نحن أبناء أمكنتنا
المكان عنصر مهمّ في احتضان نموّ الموهبة الشعريّة، هل كان لتأثير القرية ذلك الدور في ظهور قريحتك الشعريّة؟ وهل تعتقد أنّك لو عشت في المدينة (في البدايات) كانت ستظل تلك القريحة على ما هي؟
لا شيء يوجد خارج المكان، ونحن أبناء أمكنتنا بقدر ما نحن أبناء أزمنتنا، أنا عشتُ في القرية حتى الثانية عشرة من عمري، ومن ثمّ كنت في حمص، وجاء أهلي إليها منذ 1949، أي أن مُعظم عمري في المدينة، بيد أن علاقتي بالريف عامة، وبالبدو، فيما بعد، ظلّت متواشجة بحكم الأقرباء والأصدقاء، ومن ثمّ عبر المناطق التي علّمتُ فيها، ولستُ أتنكّر للمقولة العلم نفسيّة التي مفادها أن السنوات الخمس الأولى تنغرس عميقاً في النفس، ولذا تكثر في قصائدي مفردات السماوات المفتوحة، والطيور المهاجرة، والأغنام، والرعاة، بل حتى أعشاب تلك الأرض، والزرازير، وأفراح وأتراح تلك الأزمنة، بما كانت عليه، وثمة مفردات ريفية أخرى كثيرة، وكلّها تصلح أن تكون حجارة، أو مداميك في ذلك البناء، فعوالم الريف المفتوحة هي شعريّة بطبيعتها، بخلاف المدينة التي هي مكان البيع والشراء، والدوائر الرسميّة، والثقافة، والمدنيّة، ولا أقلّل من قيمتها، بيد أن مفرداتها الصالحة للشعر أقلّ من مفردات الأرياف بعامّة، فالمدينة كما يرى بعض النقاد أنها عالَم يصلح لـ(الرواية)، وسؤالك افتراضي، والإجابة عنه تظل في حدود التخمين، والظنّ، وكيف يجيب مسؤول عمّا لم يعشه.
ثمّة قصائد لي حملت بصمات مدينتي (حمص)، بأزقّتها، و(بسيباطاتها) التي كانت موجودة بكثرة ولم يبق منها إلا القليل، نتيجة جهل القائمين على حمايتها، ونتيجة جشع تجار البناء، المستعدين لهدم الكعبة من أجل بيعها، وثمة حضور في أكثر من قصيدة لديك الجنّ الحمصي، و«للعاصي»، و«للميماس»، ولبعض أحيائها، ولحجارة الوعر، بمعنى أني لم أكن ابن القرية وحدها، فأنا ابن كلّ الأماكن التي عملتُ فيها، من «منبج»، إلى «الفرات»، إلى بعض المدن الساحليّة، وبعض الأماكن التي زرتُها، وأغلب الأماكن كتبتُ ولو بطاقة صغيرة، ذيّلتُها بتاريخ ومكان الكتابة، حتى كأنّني أريد الانغراس في الأماكن الجميلة،
ما أهمّ المحطات المفصليّة التي مرّت بك؟
المحطات المفصليّة، المهمة، متعدّدة، على المستوى العائلي أصاب ابني البكر المرحوم الشلل بعد أن كان يقفز كالغزال، ولم يكن التلقيح معروفاً في ذلك الوقت، أو أني كنت أجهله، كان ذلك في عام 1959، وعشتُ مَراراً، ترك آثاره في شعري، ويوم توفاه اللـه اعتبرت ذلك رحمة بي وله، وهذا واضح في ديواني «أمير الخراب»ـ وفي مجموعتي «من ذاكرة النهر»، وهي قصيدة ذات مقاطع، وتُصنَّف أنها سيرة شعريّة، وقد ثمِّنت من عدد من النقاد، وعرفتُ فَقْد ابنة يافعة في ظرف حادث اصطدام سيارتين قرب بيتي، ثمّ فقد زوجتي أم الأولاد، وموت الأب، والأمّ، وبدء الأمراض في جسدي تمثّل في عمليّة قلب مفتوح، ولا أريد أن أوغل أكثر، وهذا كلّه انعكس في قصائدي، في مجموعات متعدّدة،
على المستوى السياسي الذي كنتُ ناشطاً فيه، عشتُ أفراح الوحدة بين دمشق والقاهرة، كما عشتُ ألم الانفصال، وتذوّقتُ مرارة حرب الأيام الستة عام 1967، كما شربتُ من كأس عِزّة حرب تشرين- 1973، تلك الحرب التي كتبتْ بدم الشهداء وبسالتهم أن هزيمة هذا العدو أمر ممكن، وأنا الآن، منذ نهاية حزيران 2023 وضعتُ رجلي في ركاب التاسعة والثمانين من العمر، وكلّ ما مرّ من أحداث مهمة كنتُ حاضراً فيه بشكل ما.
هل أنت راضٍ عما أنجزت أم ستغيّر في مسيرتك لو قدّر لك؟
أمّا رضاي عن إنجازاتي، فسواء كنتُ راضياً أم لا، فقد أصبحت ملكاً للتقييم النقدي، وما مضى للأسف أنه لا يُستعاد، وهنا تحضرني تلك الأجوبة التي قرأتُها لأكثر من أديب، مفادها أنهم لو تسنّى لهم أن يعدّلوا في مسار حياتهم لاستعادوها خطوة خطوة، وما أدري مَن هو الذي افتتح هذه اللازمة التي لا أرتاح لها، بالنسبة لي، كآخرين، في حياتي العاتم والمضيء، والرمادي، والمتألّق، ولو قُدِّر لي استعادة حياتي لحذفتُ كلّ المساحات العاتمة، على المستوى الشخصي والعام.
هل ستستمرّ بالأسلوب الشعري ذاته أم ستغيّره؟
أمّا هل سأستمرّ بذات الأسلوب الشعري، فقد نُشر لي، أقول نُشر لي، معظم ما نُشر إمّا أنه صادر عن اتحاد الكتاب العرب، أو عن وزارة الثقافة، ولولاهما لظلّ مكدَّسا، أو لربما توقّفت عن الكتابة، وأعترف أن المستوى ليس واحداً في جميع ما كتبت، بل هو متفاوت، ولكنني منذ قدّرت أن ما أكتبه يرقى لمستوى طموح ما، وتقييمه متروك للنقد الذي أنصفني في معظمه ممّا كُتب عنه، ظللتُ أواكب الكتابة برقابة أشدّ، وبحذر، وبانتقائيّة ترجع لذائقتي الشعريّة، وبالمناسبة أقول إن شعري يمكن تقسيمه، نقديّاً إلى شعر (ملتزم)، بحسب مفهوم الالتزام في تلك الأزمنة، فأنا ابن قضيّة هذه الأمة في الوحدة والتحرير والعدالة الاجتماعيّة، وثمّة ما تبقّى، وقد كان عن القلب، والعشق، والتّوق، واللّوَبان الصوفي، لا بمعنى الصوفيّة المهترئة، المُنسحبة من الحياة، بل بمعنى مّن يرى في مفهومها مسؤوليّة أعمق في بناء الذات، والإنسان، والمجتمع، ومقاومة الظلم حيث وُجد، وحين أعود إلى تاريخ القصيدة الذي أذيّل به قصائدي أتذكّر الحدَث الذي حرّك أعماقي للتعبير عنه، سواء أكان حدَثاً نفسيّاً، أم حدَثاً عامّاً.
ماذا يمكن أن تضيف لمسيرتك الشعريّة والحياتيّة؟
أما ماذا يمكن أن أضيف لمسيرتي الشعريّة والحياتيّة، فقد ذكرتُ أنني توقّفتُ عن كتابة الشعر، أمّا حياتيّا، فقد بلغتُ من العمر عتيّاً، وأقعدتْني السنوات عن المشاركات، والمنتديات، فأنا تعبرني الأيام، ولم أعد عابراً لها، لاسيما في الظروف الحياتية التي أحاطتْ بنا منذ إشعال حريق الخراب العربي على أيدي الدواعش وحلفائهم في الداخل والخارج، لقد أصبحتُ وأمثالي دريئة لتسديد سهام الأيام التي نعيش كوابيسها جميعاً، عدا ثلّة من المنتفعين والانتهازيين.
تعرّضت إلى مجموعة من القضايا الحياتية والنقديّة، هل جاءت تلك الكتب لإكمال رؤيتك؟
الكتب غير الشعريّة التي صدرتْ لي حتى الآن هي مدارات 1 ومدارات3، وثلاثة كتب في نقد الشعر والتنظير التطبيقي، وكتاب « شرفات للشعر والثقافة»، وفي عنوانه ما يمكن أن يشي بما فيه، ولي كتاب «حمأة الإخوان والوهّابيّة»، وفيه ما يفضح توجهاتهما، واستشهدتُ بالعديد من المراجع، ومنها ما هو كتب لأناس كانوا في قيادات «الإخوان»، وتخلّوا عنها لأسباب شرحوها، نقلتُ بعضها، ففي رأيي أنهما أخطر حركتين في العصر الحديث مناوئتين للتوجّه القومي الوحدوي، وأهمّ جوادين راهنت عليهما قوى الغرب المتصهينة،
كلّ ما كتبته كان ينبثق من صميم معاناتي، ورؤاي، في نقد الشعر والتنظير له، أو في الانتماء للتقدّم، والعدالة الاجتماعيّة، واحترام كرامة الإنسان، بمعناها الواسع، وحريّة المعتقَد.
الحكم على جودة، وصدقيّة ما كُتب
أدّت المقالة الصحفيّة دوراً مهماً في ستّينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، كيف تراها اليوم في القرن الحادي والعشرين؟ هل فقدتْ بريقها ودورها، وكيف السبيل لاستعادة دورها؟
التراجع المشار إليه ليس وقفاً على سوريّة وحدها، كما قد يُتوَهّم، بل يشمل مساحات أوسع، ولكنّه في سورية أكثر حضوراً، بسبب غياب الصحف الورقيّة نتيجة الحصار الأميركي، وانتشار الإنترنت لعب دوراً نوعيّاً، في التدهور الملحوظ، إذ صارت المواقع والصفحات بلا أي رقيب، أعني الرقيب اللغوي، والفنّي ورقيب الجودة، ولذا ترى ذلك الانحطاط لغةً، وأسلوباً، ومقاصد، يرافق ذلك إعجابات ليست أحسن حالاً، وهذا يؤدّي حُكماً إلى انهيار القيم الأدبيّة، بل يصيب حتى القيم الأخلاقيّة المتعلّقة بسوء التقييم والتمييز، وإذا كان هذا الأفق لا نستطيع التأثير فيه،.. وقد يكون وراءه أدمغة تريد تشتيت العقول، وتتفيهها، لأغراض تخدم مصالح المتلاعبين بأقوات الناس، وحرياتهم، وكراماتهم، لمصلحة شركات الإنتاج المتعدّدة الجنسيّة،.. فإن ما يعنينا أكثر هو الواقع في سوريّة، وللخروج مما نحن فيه، فبعض الأمر متعلّق بكسر الحصار الأميركي المفروض لمصلحة إسرائيل، وبعضه الآخر متعلّق بضرورة وجود إستراتيجية بعيدة المدى تشترك فيها وزارة الإعلام والثقافة واتحاد الكتاب العرب، ونقابة الصحفيين، والتربية، ونقابة الفنانين، والنقابات والتنظيمات التي في نظامها الداخلي تسمية تتعلّق بالثقافة، وجهات أخرى ذات علاقة،.. لوضع خطّة لا تظلّ حبراً على ورق.
دفاعي الذي كان عن الشعر الحديث
كنتَ واحداً من المدافعين عن الشعر الحديث، كيف تنظر إلى تلك المعارك، وما وجهة نظرك الآن، وهل تعتقد أن الزمن أثبت ما كنتَ تنادي به؟
-بعض تلك المعارك كان صاخباً، وبعضها كان وجهات نظر هي أقلّ صليلاً، ودفاعي الذي ذكرت كان عن الشعر الحديث الذي يأخذ بنظام التفعيلة، فأنا منحاز للإيقاع/ الوزن الشعري، ولا أصادر الآخرين في أن يكتبوا دون التزام بالإيقاع، وفي بعض إنتاجاتهم ما يرتقي إلى آفاق عالية بناءً، ورؤىً، وتشكيلاً، وخيالاً، أنا أشرت، في أكثر من مرّة إلى الذين لا يستطيعون كتابة بيت من الشعر يلتزم الإيقاع، ويهاجمون الإيقاع/ الوزن، ويزعمون أنه معيق للدفقة الشعريّة، وأنّه قيد، وأنا لا أُنكر أنه قيد بيد أنه قيد إبداعي، أعطني شيئاً غير موزون/ موقّع في هذا الكون، وغير مقيّد، هي وجهة نظر لا أُلزم أحداً بها، كما أنني أرفض أن يُلزمني أحد برؤاه، ولقد بيّنت في كتابي «في أقانيم الشعر-بحث في الإبداع والشكل، والحداثة، وطرائق التعبير الشعري-الإبهام- التناقض-الإيقاع، وقد صدر عن دار الذاكرة بحمص عام 1991، وبيّنت في بحث الإيقاع أنه جزء جوهري في الشعر، وشرحت قيمه النفسيّة، والجماليّة، والتعبيريّة، وأن لا إيقاعيّة خارج بنية السبب، والوتد، والفاصلة، وأنّ بعض الظلال الإيقاعيّة التي تلتقطها الأذن في نصوص نثريّة، لاسيما لدى شعراء كتبوا الشعر الإيقاعي، كما كتبوا قصيدة النثر،. تلك عائدة إلى أنها ظلّت ضمن إطار السبب والوتد والفاصلة، وهذا ينطبق حتى على آيات القرآن الكريم، لاسيما قصار السور.
سيرياهوم نيوز1-الوطن