*بقلم:د.محمد سيد أحمد
على الرغم من عدم التعافي التام، وعلى الرغم من نصيحة الأطباء بالبعد عن القلق والتوتر والعصبية، إلا أنّ المقولة الشعبية المأثورة التي تقول «إنّ الطبع يغلب التطبع» يبدو أنها صحيحة إلى حدّ كبير في حالتي، فلم أتعوّد على الراحة أو إعطاء العقل إجازة كما يفعل كثيرون ذلك بنجاح، لذلك لم أتوقف طوال الوقت سواء كنت بالمشفى أو بعد العودة للبيت عن متابعة الأحداث السياسية الجارية سواء محلياً أو إقليمياً أو دولياً، وبما أنني أؤمن بفقه الأولويات في التعاطي والتفاعل مع الأحداث والقضايا السياسية المثارة والتي تشغل الرأي العام سواء داخلياً أو خارجياً، فقد كانت قضية سد النهضة المزعوم هي القضية التي طفت على السطح مجدداً خلال هذا الأسبوع باعتبارها أحد أهمّ ملفات الأمن القومي المصري الساخنة.
ومن خلال المتابعة المستمرّة لمواقع التواصل الاجتماعي (السوشيال ميديا) لاحظت العديد من النشطاء والسياسيين يحاولون الحديث عن أزمة السد، وتراوحت الكتابات وردود الأفعال عليها بين متفائلين ومتشائمين، وبعيداً عن التعاطي العاطفي المتفائل والمتشائم مع القضية يمكن تصنيف الكتابات الأقرب للعقلانيّة إلى نوعين الأول يميل إلى إدانة الدولة والمفاوض المصري ويحاول أن يطرح بعض البيانات والمعلومات حول خطورة السد على حياة المصريين، وأن هناك مؤامرة تستهدف الأمن القومي المصري تشارك فيها العديد من القوى الدولية والإقليمية، وبعض هؤلاء يحاولون تقديم أدلة وبراهين علمية عبر خبراء وعلماء أجانب متخصصين في بناء السدود يؤكدون على أن بناء السد بهذه المواصفات يمثل في حد ذاته عملاً عدائياً ضد مصر لأنه ليس بهدف توليد الكهرباء كما يدّعي الإثيوبيون، بل هو سد يستهدف تخزين المياه بهدف التحكم فيها وبيعها لمن يدفع في المستقبل، وهو ما يجعل مصر رهينة للإرادة الإثيوبية ومَن يقف خلفها.
ومن بين هذه الكتابات مَن يذهبون إلى ما هو أبعد من ذلك حيث يعتبرون أن أي محاولة لاكتمال البناء تمثل ضرراً بالغاً على الأمن القومي المصري، فيقولون إنه حتى لو تمّ توقيع اتفاق دولي ملزم للإثيوبيين يضمن لمصر والسودان حصصهما التاريخية في مياه النيل الأزرق، مَن الذي يضمن بعد اكتمال بناء السد بنفس المواصفات التي فرضها الإثيوبي استمرار التزام من سيأتي في المستقبل بهذا الاتفاق، ومن سيضمن عدم استهداف السد بعد اكتماله وتشغيله وبالتالي سيكون هذا الاستهداف مدمراً للسودان ومصر.
ويدين الطرح السابق بشقيه الدولة والمفاوض المصري في استهلاك وتضييع الوقت مع الإثيوبيين ويرى أصحاب تلك الكتابات أن الرؤية الاستراتيجية للأمن القومي المصري غائبة لدى المسؤولين عن إدارة الملف، وهناك من يتطرف ليصف المفاوض المصري بالمغلول الأيدي، والمستسلم للأمر الواقع، والذي لن يفعل شيئاً، وبالتالي يصدر هؤلاء بكتاباتهم التي تبدو عقلانية الإحباط للرأي العام الذي يتابع كتاباتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وبالطبع لا يرى هؤلاء حل غير تدمير السد عبر عمل عسكريّ مهما كانت العواقب، حيث يؤكدون أنّ عواقب الحرب ستكون أهون من عواقب استكمال بناء السد حتى مع الوصول لاتفاق دولي ملزم لإثيوبيا.
أما النوع الثاني من الكتابات التي يمكن وصفها بالعقلانية فهي لبعض الكتاب والسياسيين الذين يقيّمون الوضع بموضوعية شديدة، محاولين إنصاف الدولة والمفاوض المصري الذي لم ينشأ هذا الوضع، ولم يكن موجوداً منذ اللحظة الأولى لعملية بناء السد المزعوم، ويحاول أنصار تلك الكتابات رفع الروح المعنوية للرأي العام، فعلى الرغم من إدراكهم كل المخاطر المحتملة لعملية بناء السد، إلا أنهم يؤمنون بقدرات الأجهزة السيادية للدولة المصرية التي تدير ملفات الأمن القومي باقتدار تاريخياً، ويؤكد هؤلاء على أن أجهزة الدولة المصرية لا تعمل بشكل عشوائي، بل تمتلك خبرات علمية متنوعة وكبيرة وتعلم كل كبيرة وصغيرة فيما يتعلق بعملية ومراحل بناء السد، وما يترتب على عملية البناء من أضرار يمكن أن تصيب حصة مصر التاريخية من مياه النيل.
ويرى أنصار هذه الكتابات أن عملية التفاوض ومحاولة الوصول لاتفاق دولي ملزم لإثيوبيا لا يمكن أن تكون عبثية، خاصة أن القيادة السياسية المصرية أكدت أنها لن تسمح بأي حال من الأحوال الإضرار بحصة مصر من مياه النيل، وأن مياه النيل خط أحمر، ومن يشك في قدراتنا على حماية أمننا القومي فليقترب ليرى الرد بعينه، لكن الدولة المصرية تحاول أولاً استنفاد كل مراحل التفاوض مع إثيوبيا، وثانياً وضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته وواجباته، ثم ثالثاً وحين تسد كلّ الأبواب وتفشل كل المحاولات السلمية يكون الخيار الأصعب.
لذلك نقول لكل من يحاولون إثارة الرأي العام عبر كتاباتهم، ويحاولون دق طبول الحرب في غير موعدها، نحن على ثقة تامة بمن يديرون ملفات الأمن القومي المصري وعلى رأسها ملف سد النهضة، ونعلم جيداً امتلاكهم لكل البيانات والمعلومات الفنية وغير الفنية حول السد، والتي تفوق ما تمتلكونه أنتم، لكن في إدارة ملفات الأمن القومي المسكوت عنه يكون أكبر بكثير من المعلن والمعلوم للرأي العام، فالأمن القومي يخضع لحسابات دقيقة لا مجال لمناقشاتها عبر وسائل الإعلام، خاصة مواقع التواصل الاجتماعي التي استباحت الحديث عن قضايا الأمن القومي المصري ومنها قضية السد دون حسيب أو رقيب، اللهم بلغت اللهم فاشهد.
(سيرياهوم نيوز-صفحة الكاتب17-6-2021)