“كنت أقف عند موقف سيف الدولة متجهاً الى الجامعة، فرأيت سرفيسين يتسابقان كما لو كانا في مضمار سرعة، أحدهما انعطف من اليمين بشكل مفاجئ وكاد أن يصدم المارّة، ثم سمعنا صراخ المعاون وهو يلوّح بيده خارج الباب المفتوح: جامعة.. جامعة.. بطريقة هستيرية، يصرخ وكأنما ينادي في معركة لا تنتهي، أما السائق الآخر فراح يزمجر ويشتم لأنه خسر راكباً سبق إليه زميله.”
بهذه الكلمات الغاضبة، يروي أحمد العزاوي، مشهداً يومياً بات مألوفاً، لكنه لا يقل فوضى أو عنفاً عن أي معركة مسلحة؛ معركة تُخاض هذه المرة على أرصفة المدينة المرهقة، لا بالبنادق، بل بالعجلات.
الراكب ضحية السباق في شوارع حلب، التي استعادت أنفاسها من رماد الحرب تواً، تتجدّد كل صباح معركة جديدة، لا قنابل ولا رصاص، بل سباق يومي محموم على راكب إضافي، وجنون مدفوع بالجشع، يدفع ثمنه المواطن من وقته وكرامته وأمانه.
“هل يُعقل أن يتحوّل الذهاب إلى الجامعة في حلب إلى مغامرة يومية؟”، يتساءل مصطفى عنجراوي، طالب في كلية العلوم، في حديثه لـ “الثورة”، ويُضيف: “أسلك طريقاً واحداً من سيف الدولة إلى الجامعة، لكنه غالباً ما يصبح طريقاً متقطّعاً؛ السائقون يتوقفون في منتصف الطريق دون مبرر، لا لشيء سوى التقاط راكب من الرصيف المنافسة بين السائقين تصل حدّ الجنون، لا مواقف رسمية، ولا التزام بالخط، فقط فوضى؛ يتوقف السرفيس حيثما يظهر راكب، ولو كان ذلك وسط الشارع أو عند مفترق مزدحم”.
يتابع بلهجة غاضبة: “المهم أن لا يسبقهم سائق آخر، حتى لو تسببوا بزحمة أو خطر، الأجرة ليست المشكلة، بل هذه الذهنية، لا احترام للوقت، ولا للراكب، ولا لأي معيار منظم، وكأننا في خدمة عشوائية بلا وجهة.. وبلا قانون”.
وفي محاولة للحصول على تفسير مباشر، توجهنا بالسؤال إلى أحد سائقي السرافيس عن سبب التوقف في منتصف الطريق وتعطيل السير، فجاء رده سريعاً، لا يخلو من التهكم والاعتراض ؛ “وهل أنت جئت لتحاسبني الآن؟! كل من في الشارع يفعل ذلك، لا أحد يلتزم، ولا أحد يُحاسَب… فلماذا أكون أنا المستثنى؟ ثم أضاف بنبرة شبه ساخطة؛ “من لم يسبق غيره، لن يحصل على ركاب.”
رقابة محدودة في مدينة بحجم حلب، تعاني من اختناق مروري، تبدو مهمة شرطة المرور في ضبط حركة السرافيس شبه مستحيلة، إذ لا يمكن لعناصرها تغطية كل شارع وزاوية وموقف، ما جعل من الالتزام بالقوانين سلوكاً انتقائياً يرتبط بوجود الشرطي من عدمه.
يقول حسين عطا لله لـ”الثورة”: إن سائقي السرافيس أصبحوا يحفظون أماكن تمركز الشرطة، ويبدؤون بالالتزام فقط عند اقترابهم منها، أما باقي المناطق، فالوضع أشبه بالفوضى المفتوحة، يتوقفون في منتصف الطريق، يعرقلون السير، يصرخون من النوافذ، ولا أحد يردعهم إلا عندما تظهر الدورية فجأة”.
“مرّات كثيرة رأيت السائق يقطع الإشارة، وآخر يقف في منتصف الشارع أمام الشرطي نفسه، فيكتفي بالقول له: (يلا مشيها، بس نزّل هالراكب بسرعة)، يعني حتى المخالفة ما عم تنكتب، فما بالك بحجز المركبة؟” يقول عمار الخطيب- طالب جامعي من كلية الآداب.
من جانبها، تؤكد رنا عبد الجواد- مدرسة في إحدى ثانويات المدينة، أن المشكلة لا تكمن في غياب الشرطة بالكامل، بل في عدم تفعيل الردع الحقيقي: “لو كانت هناك مخالفات جدية، تُطبق بحزم، لما تجرأ أحد على الوقوف وسط الطريق أو تجاوز الخط أو تغيير التسعيرة،لكن الغرامات ضعيفة، والمتابعة غير مستمرة، فكيف نتوقع التزاماً؟”.
في المقابل، يدرك كثيرون أن الضغط الهائل على الجهاز المروري، مع قلة عدد العناصر وتعدد النقاط الساخنة، يجعل مهمته معقدة ومجزّأة، ما يتطلّب حلولاً تكنولوجية وتنظيمية تتجاوز المتابعة الميدانية فقط.
تعرفة رسمية تثقل كاهل الفقراء في التاسع من شباط 2025، أصدرت وزارة النقل قراراً بتحديد تعرفة الميكروباصات داخل مدينة حلب بـ 3000 ليرة سورية للراكب، في خطوة وُصفت بأنها “مدروسة اقتصادياً”، تهدف إلى تحقيق التوازن بين دخل السائق وقدرة المواطن على الدفع. لكنّ ما اعتُبر حلاً تنظيمياً على الورق، تحوّل في الشارع إلى عبء ثقيل، خصوصاً على محدودي الدخل، يقول أبو ناصر، موظف حكومي: “راتبي لا يتجاوز 180 ألفاً، وإذا كنت أحتاج للذهاب والعودة خمسة أيام في الأسبوع، فإن أجور النقل وحدها تلتهم ما يقارب 72 ألفاً شهرياً، كيف لنا أن نعيش؟”.
ومع انخفاض سعر صرف الدولار إلى ما دون 10 آلاف ليرة، وتحسّن توفر المازوت مقارنة بالفترات السابقة، تساءل كثيرون عن سبب الإبقاء على التعرفة المرتفعة، رغم تراجع التكاليف التشغيلية؛ إلا أن المفارقة، كما يراها المواطنون، تكمن في أن هذه التسعيرة “الرسمية” أطلقت موجة من الربح السهل بين أوساط السائقين، ممن باتوا يعملون ضمن الخط أو خارجه، بحثاً عن خطوط أكثر ربحاً.
توضح لينا، طالبة في كلية الآداب بجامعة حلب لـ “الثورة” عن معاناتها مع مزاجية السائقين قائلة: “بات من الشائع أن يُنهي السائق رحلته قبل الوصول إلى نهايتها، إذا رأى أن عدد الركاب لا يكفي لتحقيق الربح المطلوب؛ قال لي أحدهم بكل بساطة: (انزلي هون، ما عاد طالع عالجامعة) “.
النقل العام ليس رفاهية في بلد ينهض من تحت ركام حرب مدمّرة، ويُعيد بناء مؤسساته خطوة بخطوة، لا يمكن التعامل مع النقل العام كملف ثانوي أو خدمة يمكن تأجيل تنظيمها.. فالسرفيس، ليس مجرد وسيلة انتقال، بل شريان حياة يومي يصل المواطن بعمله، مدرسته، دوائه، وحتى كرامته؛ يقول مصطفى الحسن.
فيما المهندس وسيم الكردي، أحد المهتمين بشؤون النقل المدني، قال: “نحن اليوم في مرحلة تأسيس دولة، وإحدى ركائزها يجب أن تكون شبكة نقل عامة عادلة ومنظمة، التسعيرة الحالية رغم أنها صادرة بقرار رسمي، لا تراعي واقع الدخل، ولا تنسجم مع حجم الفقر الذي تعانيه الفئات الأضعف، خصوصاً في مدينة خارجة من حرب طاحنة واقتصاد مرهق”.
ويُضيف: “مع موجة التطوير التي تقودها الدولة حالياً في قطاعات متعددة، لا بد من أن تطول يد الإصلاح قطاع النقل، من خلال إعادة هيكلته، وتفعيل الرقابة، وضمان العدالة في التسعيرة، بما يحفظ حق السائق من دون أن ينهك المواطن”.
اخبار سورية الوطن 2_وكالات _الثورة