| علي حمية
لم يُعر عالم أو فيلسوف أو ناقد، في عالم اللغة العربية الحديث، اهتماماً بالمصطلح بعامة والمصطلح الفلسفي بخاصة، قدر ما أعاره أنطون سعاده من اهتمام، إلى درجة يصحّ القول فيها إن كل علم أو كل فن أو كل فلسفة لا يحمل، أو لا تحمل، مصطلحات جديدة أو متجدّدة هو، أو هي، في رأي سعاده، علم ناقص أو فن ناقص أو فلسفة ناقصة، ما يعني أن أهلية هذه المعارف وجدّتها وراهنيتها مشروطة بمقدار غناها بالمصطلحات الجديدة. بهذا المعنى، يمكن القول إن سعاده هو صانع أو مبدع مفاهيم، وداعية إلى ابتكار المصطلحات في كل ما هو جديد في العلوم والمعارف قاطبة. وبهذا المعنى، أيضاً، يلتقي سعاده مع الفيلسوف الفرنسي المعاصر جيل دولوز، والأصح، القول إن هذا الأخير يلتقي مع سعاده في اكتشاف أهمية المصطلح وضرورته في كل نشاط علمي أو فلسفي أو فني. ألم يُعرّف دولوز الفلسفة بأنها فن ابتكار المفاهيم أو المصطلحات (Les Concepts)؟ أولم يكتشف سعاده عدداً هائلاً من المصطلحات: ناحتاً بعضها، مجدداً بعضها الآخر، ونافخاً الروح في عناوين كثيرة ميّتة منها؟
أَولى سعاده، إذاً، المصطلح، في الفلسفة والأدب والعلوم الاجتماعية وسائر المعارف والفنون، اهتماماً خاصاً، وذلك لغرضين:
-الأوّل، تعويض النقص في المصطلحات الحديثة في اللغة العربية، لغتنا القومية، الناجم عن فقرها في المؤلفات العلمية والاجتماعية.
-الثاني، حاجة الحركة القومية الاجتماعية التي أسّسها، في ثلاثينيات القرن الماضي، إلى مصطلحات جديدة تعبّر بواسطتها عن قضاياها ومطالبها العليا وتحمل نظرتها إلى الحياة والكون والفن.
وسعاده، كعالم اجتماع، هو مؤلف كتاب «نشوء الأمم» (1938) الذي تناول فيه تعريف الأمّة وكيفية نشوئها ومحلها في سياق التطور الإنساني وعلاقتها بمظاهر الاجتماع، وهو كتاب اجتماعي علمي بحت، أسند سعاده حقائقه إلى مصادرها الموثوقة (References)، واجتهد الاجتهاد الكلي في الوقوف على أحدث الحقائق الفنية، على ما يقول في مقدمة الكتاب.
ويبرّر دوافعه إلى تأليف هذا الكتاب بندرة المؤلفات الاجتماعية (Oeuvres Sociologiques) في اللغة العربية، إذ لم يخرج في هذه اللغة، منذ أن ألّف ابن خلدون مقدمة تاريخه المشهور ووضع أساس علم الاجتماع، مؤلف ثان في هذا العلم، فظلت أمم العالم العربي جامدة من الوجهة الاجتماعية (السوسيولوجية)، يتخبط مفكروها في قضايا أممهم تخبطاً يزيد الطين بلة. الأمر الذي دفعه إلى وضع هذا الكتاب الذي اعتبره بعض العلماء الكتاب الثاني، من نوعه، في اللغة العربية، بعد مقدمة ابن خلدون، وقد ضمّ هذا الكتاب عدداً كبيراً من المصطلحات في الفلسفة والاجتماع أهمها: «المتحد» و«الوجدان الاجتماعي» و«مبدأ الاستمرار والاطراد الفلسفي» و«ناموس العلاقة المثلثة الأضلاع» و«قانون العوامل والحالات»…إلخ.
هكذا، يكون سعاده سابقاً عصره في الإبداع الفلسفي والأدبي والسوسيولوجي، على امتداد الساحة العربية، ولا يزال، الأمر الذي دفعني إلى إماطة اللثام عن بعض مصطلحاته الفلسفية ودراسة نماذج منها.
ومن نافل القول، إن سعاده تابع، في هذا الشأن، ما بدأه، قبله، والده العلامة الدكتور خليل سعاده (1857- 1934) الذي وضع قاموسه الشهير باسم «قاموس سعاده» في مجلدين ضخمين (1765 صفحة من الحجم الكبير)، وفي اللغتين الإنكليزية والعربية، حيث ابتكر مئات المصطلحات في جميع العلوم والفنون العصرية.
بين عشرات المصطلحات الجديدة التي ابتكرها سعاده الابن أو نحتها، والمصطلحات الأخرى الموجودة، أصلاً، في العربية وحمّلها معاني جديدة، نستعرض سبعة مصطلحات هي:
(1) النظرة إلى الحياة والكون والفن
(2) فاعلية الفكر (أو) جدلية الكونية والخصوصية
(3) المدرحية
(4) الجدل أو «الديالكتيك» المدرحي
(5) مبدأ الاستمرار والاطراد الفلسفي
(7) ناموس العلاقة البيولوجية المثلثة الأضلاع [الجسم، النفس (الدماغ)، المحيط]
النظرة إلى الحياة والكون والفن
يطلق سعاده على فلسفته، أي المدرحيّة، صفة «نظرة جديدة إلى الحياة والكون والفن»، ويقول إن حزبه نشأ بنشوء هذه «النظرة الجديدة» التي عبّرت عنها مبادئ الحزب وعقيدته. ولذلك، يشكل الحزب الذي أسّس خروجاً من الفوضى إلى الاتجاه، إلى وحدة الاتجاه. و«وحدة الاتجاه تعني حتماً وحدة النظرة إلى الحياة، لأنه لا يُمكن أن نوحّد اتجاهنا إذا لم تكن لنا نظرة واحدة إلى الحياة والكون والفن» (المحاضرات العشر، ص22).
وردت هذه العبارة في صيغ مختلفة، في كتابات سعاده، منها: «النظرة الجديدة» و«نظرة شاملة في الحياة» و«نظرة إلى الحياة والكون» و«نظرة واحدة إلى الحياة والفن» و«نظرة إلى الحياة والكون والفن» إلى أن أخذت صيغتها النهائية في عبارة واحدة هي «النظرة الجديدة إلى الحياة والكون والفن»، والتي اعتمدها سعاده، رسمياً، في السنوات الأخيرة التي سبقت استشهاده.
إنّ أوّل إشارة إلى عبارة «نظرة شاملة في الحياة» جاءت في كتاب سعاده «جنون الخلود» (1942)، حيث عزا «الانحطاط في الإدراك والتصادم في النفسيات والفوضى في المنازع والتخبط في المذاهب»، لدى القسم الكبير من عامة السوريين، إلى «تشبثهم بعنعنات من التحزبات الدينية»، وعدم تعويض ذلك بـ«ثقافة وعلم» «يهبانه نظرة شاملة في الحياة ويُساعدانه على فهم الدين وتأويله على الوجه الأصح» (ص83).
ثم أخذت العبارة صيغة «نظرة واحدة إلى الحياة والفن» عندما نفى سعاده أن تكون للعالم العربي «قومية واحدة ومطالب واحدة ونظرة واحدة إلى الحياة والفن» وذلك لافتقار العالم العربي إلى «شخصية فيزيائية ونفسية واحدة» (ص247). ثم جاءت بصيغة «توحيد نظرتهم إلى الحياة» (أي نظرة الأدباء القوميين) في مقال له بعنوان «تجار الأدب في المهجر» (ص56).
وأخذت العبارة صيغتها النهائية تحت عنوان «نظرة إلى الحياة والكون والفن» في كتاب «الصراع الفكري في الأدب السوري» (1942)، في سياق حديثه عن الموسيقي الألماني الشهير ريتشارد فاغنر الذي قال عنه سعاده إن شعوره (أي فاغنر) «مستمد من نظرة النهضة الألمانية إلى الحياة والكون والفن» (ص53). بعدها، اتخذت العبارة صيغاً أخرى في الاستخدام من مثل: نظرة جديدة إلى الحياة والكون والفن، ونظرة الأمّة السورية إلى الحياة والكون والفن، ونظرة أصلية، ونظرة أساسية…إلخ.
تجدر الإشارة، هنا، إلى أن سعاده لم يستخدم قط عبارة «النظرة إلى الحياة» معرّاة أو مجرّدة من عبارتي: الكون والفن، لأنها -مجرّدة من هاتين المفردتين- لا تؤدي، عنده، الهدف المطلوب منها للأسباب التي سنأتي على ذكرها، بعد قليل.
إن عبارة «النظرة إلى الحياة»، المستعملة كثيراً في اللغة الألمانية والقاصرة عن تأدية المعنى الذي ينشده سعاده في فلسفته، هي المعادل لعبارة «فلتانشاوُنغ» (weltanschaung) الألمانية التي استعارتها لغات أوروبية أخرى للتدليل على هذه الفكرة أو النظرة إلى الحياة. وقد دخلت هذه العبارة الألمانية نطاق الاستعمال في القرن التاسع عشر، وعُني في شرحها وتفصيلها الفيلسوف الألماني فيلهلم ديلتي (1833-1911) .
إنّ ما يُميّز المدرحية عن غيرها من الفلسفات الحديثة والمعاصرة، هو أنها تطرح نفسها كـ«نظرة جديدة» إلى الحياة أو كـ«تأويل» جديد للقضايا الإنسانية المعقدة
وبينما اعتبر الكانطيون الجدد (نسبة إلى كانط) «فلتانشاوُنغ» الوظيفة الحقيقية للدين، اعتمد ديلتي المنهج الهيغلي الذي جعلها موضوع الاهتمام المشترك للدين والفن والفلسفة. وتبنى ديلتي موقف هيغل في اعتبار كل من الدين والفن والفلسفة، على اختلاف أدوارها، أدوات نقل للـ«فلتانشاوُنغ». وهنا يلتقي هيغل وديلتي وسعاده في التأكيد على عدم جواز الفصل، في كل نظرة جديدة، بين ثلاثية الحياة والكون والدين كما يسمّياها هيغل وديلتي، وثلاثية الحياة والكون والفن كما يسمّيها سعاده.
وفي كتاب «كفاحي» Mein Kampf ،(1922)، يقول أدولف هتلر إن عملية تطوير «حزب العمال الاشتراكي الألماني» (الحزب النازي) الذي تزعمه لم تكن مسألة تبنّي شعار انتخابي جديد في الحقل السياسي، بل «فلتانشاوُنغاً» جديداً كل الجدّة. ولكن الـ«فلتانشاوُنغ» الذي يتحدّث عنه هتلر ليس نظرة إلى الحياة والكون والفن «ذات أصل» كما يشترط سعاده، لأنها لو كانت كذلك لما غاب عن بال دعاتها ومفكريها وسياسييها أن المثل العليا التي تناضل من أجلها هي المثل العليا للأمة التي تعمل لانتصار قضيتها. وتختلف هذه النظرة عما جاء به سعاده وما أعلنه في مجال التطبيق من إصرار على المضي في العمل النهضوي على رغم مقاومة فئات من الشعب لهذا العمل الذي يهدف أصلاً إلى إسعاد هذه الفئات. إنّ ما يمتاز به سعاده عن غيره من مؤسسي النهضات الكبرى في العالم هو أنه لا يربط فكره ومبادئه بالأشخاص، فقد عرض مراراً أن يتبنّى خصومه مبادئ نهضته من دون الأخذ بنظامه أو الاعتراف بزعامته.
فاعلية الفكر، أو جدلية الكونية والخصوصية
في كتابه إلى شارل مالك، يطرح سعاده قضية غاية في الأهمية لم يُعطها الفلاسفة قيمة إلا في العقود الأخيرة، هي قضية العالمية والمحليّة، أو الأممية والقومية، أو ما يُعرف، اليوم، بـ«جدلية الكونية والخصوصية»، محدداً شروط تطور الفكر الفلسفي من الحيّز القومي الخاص إلى الفضاء العالمي العام، ذاهباً في القول إلى أن جودة الخطاب الفلسفي ورغبة الفيلسوف في أن يكون عالمياً عنصران لا يحددان، مجتمعين أو منفصلين، هذه السيرورة (الـprocessus) من الخصوصية المحليّة إلى الكونية، ومن القومية إلى العالمية أو الأممية. إنّ ما يحدّد هذه السيرورة، على الصعيد الفلسفي، هو ما يسميها سعاده بـ«فاعلية الفكر» التي تفرض نفسها واتجاهها على النطاق العالمي أو على جزء منه، من دون أن تتقصده أو تستهدفه أو تتوجه إليه بناء على خطة مسبقة أو ما شابه ذلك. ويعطي سعاده مثلين أو أنموذجين على شرط «الفاعلية الفكرية» التي تجعل من فكر ما فكراً عالمياً أو كونياً، ومن أدب ما أدباً عالمياً: الأوّل هو امتداد «الفكر السوري» قديماً، بواسطة الأساطير والملاحم الأدبية والشرائع، إلى اليونانيين من غير أن يخاطبهم في لغتهم أو في ديارهم أو في مصالحهم المباشرة، والثاني هو امتداد «الفكر اليوناني» إلى الأمم الغربية، وشرق المتوسط، من غير أن يتصوّر إقليماً معيّناً من أقاليم العالم ويخاطبه.
إنّ كل دعوة، مهما كان ابتداؤها أو غرضها الأخير عاماً، شاملاً لجميع النوع الإنساني، يقول سعاده، فإنّ نظرتها إلى الحياة والكون والفن يجب أن تكون منطبقة على خصائص البيئة التي تنشأ فيها واستعدادها الروحي (جنون الخلود، ص208).
وفي جوابه على سؤال: «متى يُصبح الأدب عالمياً؟» الذي طرحته مجلة «الهلال» على كبار كتاب مصر وبلاد الشام (1933)، يقول سعاده إن الأدب الصحيح يجب أن يكون الواسطة المثلى لنقل الفكر والشعور الجديدين، الصادرين عن النظرة الجديدة، إلى إحساس المجموع وإدراكه، وإلى سمع العالم وبصره، فيصير أدباً قومياً وعالمياً لأنه يرفع الأمّة إلى مستوى النظرة الجديدة ويُضيء ويحمل، في الوقت عينه، ثروة نفسية أصلية في الفكر والشعور وألوانهما إلى العالم (الصراع الفكري، ص91).
وللحقيقة، هنا، أشير، للمرة الأولى، إلى أن عبارة «مدرحي» هي لرشيد الخوري لا لسعاده، وإن استقاها الخوري من عبارة سعاده: «مادي-روحي» التي كان يستعملها في وصفه لجوانب الحياة الإنسانية، المادية والروحية. أمّا عبارة «مدرحية» فهي لسعاده وترمز إلى فلسفته التي تقول بالأساس المادي-الروحي للتطور الإنساني. يروي سعاده كيف أن رشيد سليم الخوري أخذ هذه الفكرة الفلسفية العظيمة التي كان قد شرحها، قولاً وكتابة، في مناسبات عدة، مع أن عقله (الخوري) لا يطيق إدراك عمقها وأهمية القضايا الاجتماعية التي تشتمل عليها، فمسخها وجعلها مجرّد كلام سطحي يقصد به إيجاد مقابلة استبدادية بين الأديان الثلاثة، فقال (الخوري) بأن «الدين المسيحي دين تصوري لا ينفع الدنيا لانفصاله عنها ولا الآخرة لعدم حاجتها إليه. وهو نقيض الدين اليهودي الذي هو مادي صرف. أمّا الدين الإسلامي «فمدرحي» إذا صحّ النحت والتركيب، أي مادي وروحي معاً» (المصدر نفسه، ص158).
وتجدر الإشارة إلى وجود نصوص كثيرة لسعاده، خصوصاً في كتيب «التعاليم» (1936) وكتاب «نشوء الأمم» (1938) وكتاب «الصراع الفكري في الأدب السوري» (1942)، تشرح الفكرة المدرحية من دون أن تذكر العبارة بالاسم. على أنه لم يترك مجالاً للشك، في العديد من هذه النصوص الموزعة بين المقالة الأدبية والقصة والرسالة والدراسة العلمية، في أنه يوضح فيها نظرته كفلسفة جديدة «تنقد» العالم من «تخبط» الفلسفات الماركسية والاشتراكية القومية والمادية الرأسمالية و«ضلالها»، على ما جاء في رسالته إلى أعضاء حزبه وإلى السوريين عامة، عام 1947 (ص180).
إنّ ما يُميّز المدرحية عن غيرها من الفلسفات الحديثة والمعاصرة، هو أنها تطرح نفسها كـ«نظرة جديدة» إلى الحياة أو كـ«تأويل» جديد للقضايا الإنسانية المعقدة، في حين أن الماركسية التي هي، في السياق الجدلي حول «المادية»، المعادل النظري لـ«المدرحية»، لا تكتفي بهذه الصفة، أي أن تكون، كالمدرحية، مجرّد «نظرة» جديدة أو مجرد «تأويل» جديد، بل تطرح نفسها بوصفها «معرفة»، بل «آخر» معرفة.
إن ما تطلق عليه الماركسية، إذاً، اسم «معرفة» تدعوه المدرحية «نظرة جديدة» إلى الواقع، وما تعتبره الماركسية «ثورة» في المعرفة الإنسانية، تُسمّيه المدرحية «إضافة». ولذلك، تُصنّف الماركسية كل ما سبقها من معارف بأنها «أوهام»، في حين تعتبره المدرحية «إضافة» سابقة لأن المدرحية تصرّ على أن كل معرفة يجب أن تُقيّم بحسب إضافتها إلى ما سبقها من معارف (حاماتي، هنري، أفكار، 1988).
التناقض والصراع، هنا، بين الحق والباطل، كأطروحتين متناقضتين، لا يأتي بمخرج نظري، على طريقة الديالكتيك الهيغلي أو الماركسي
وبهذا المعنى، فإنّ المدرحية تستوعب المعارف السابقة، فلا تنفيها أو تعزلها أو تلغيها كما تفعل الماركسية، وإنما توظفها في عملية التطور. ولذلك يقول سعاده: «إنّ الفكر القومي الاجتماعي (المدرحي) يمثّل مفهوماً «موحّداً» للنظريات الأساسية، الجديدة والمتنافرة» (الصراع الفكري، ص91). وعندما يقول، بهذا المعنى، أنه يُنشئ فكراً جديداً، فهذا يعني، أنه يضع قواعد جديدة تحمل منهجاً جديداً في التفكير هو، في حقيقته، «إضافة» جديدة إلى الفكر، و«تطور» جديد في المعرفة، و«قاعدة» لتطور آخر. فإذا نشأت هذه النظرة الجديدة إلى الحياة والكون والفن «أوجدت فهماً جديداً للقضايا الإنسانية، كقضية الفرد والمجتمع وقضية الحرية (…) وقضية الحق وغيرها. وبعض هذه القضايا، يكون قديماً فيتجدّد بحصول النظرة الجديدة إلى الحياة، وبعضها ينشأ بنشوء هذه النظرة» (المصدر نفسه، ص92).
الفارق كبير، إذاً، بين الماركسية أو المادية الجدلية والمدرحية، وإن كانت كلاهما، بحسب أصحابهما، تهدف إلى تحقيق الخير العام للمجتمع الإنساني. ولكن، كيف يمكن معرفة إسهام فلسفة ما في خير المجتمع الإنساني وتقدّمه حين لا تكون الإنسانية مجتمعاً واحداً ذا نظرة واحدة للخير، يسأل محمد معتوق أحد المتخصّصين في فكر سعاده («اتجاه»، العدد 21، ص165، 166)؟ صحيح أن الفلسفة الصحيحة، في نظر سعاده، هي التي تقدّم الحقيقة الخيّرة والجميلة، إلا أن سعاده، في كتابه إلى شارل مالك عام 1938، يفهم خير الإنسانية على أنه خير مجتمع رائد يمتدّ (بالحقيقة التي صنع لنفسه وبالفاعلية الفكرية التي تميّزه) إلى كل العالم، من دون أن يُخاطبه.
إنّ التوفيقية الموحاة لبعض القراء والكويتبيين في المدرحية تسلط الضوء على ديالكتيكية سعاده التي تختلف عن ديالكتيكية كل من هيغل وماركس وأتباعهما. فالمخرج النظري أو الـ Synthese في الديالكتيك السعادي يختلف عن معادله في كل من الديالكتيك الهيغلي والماركسي، فلا يدين ديالكتيك سعاده لأي من الأطروحتين المتضادتين These et Anthithese بأي فضل – اللهمّ بالحضّ على البحث عن المخرج النظري. جانب آخر من جوانب فكر سعاده الديالكتيكي هو تشديده الدائم على الناحية القيمية في أي صراع قومي أو اجتماعي، فالحرب التي تنشب بين الحق والباطل، مثلاً، لا بدّ أن تنتهي، بموجب هذا الديالكتيك، بانتصار الحق انتصاراً نهائياً على الباطل، وهذا ما يفرقه عن أشكال الديالكتيك الأخرى. فالتناقض والصراع، هنا، بين الحق والباطل، كأطروحتين متناقضتين، لا يأتي بمخرج نظري، على طريقة الديالكتيك الهيغلي أو الماركسي، مخرج وسط يتأهل لأن يُصبح مُعطى جديداً في مقابل نقيض جديد. وحده، الانتصار الحاسم والنهائي للحق على الباطل في معركة إنسانية تجري في هذا العالم، هو المخرج الوحيد أو النهائي من تناقض هاتين الأطروحتين، أو الحتمية الأكيدة التي ما بعدها حتمية!
ثم إنّ المدرحية تشترك مع المادية والروحية في صفات مشتركة، ولكنها لم تتطور من أي منهما. فمع أنها، كفلسفة، تعترف بالدور الكبير الذي قامت به الفلسفتان المادية والروحية في مقاربة قضية التطور الإنساني بالكشف، بحسب منهجيهما، عن قوانين التطور وعوامله وأطواره، إلا أنها لا تقرّ بالنظرة الآحادية، المادية أو الروحية، لكلا الفلسفتين، لاعتبارها أن التطور الإنساني هو تطور مادي-روحي معاً. ولعله انطلاقاً من هذا الفهم، ألصق سعاده صفة «الضلال» بالفلسفتين المادية والروحية اللتين أوردتا العالم مورد التهلكة، بحسب تعبيره.
وإذا كان الإنسان، في مثال آخر، يتفق وسائر الحيوان في مبدأ المحافظة على النوع وخدمة النسل، فإن ظروف تطبيق هذا المبدأ عند الإنسان يختلف عنها عند الحيوان. فمع أننا لا ننكر نصيب عوامل حفظ النوع في اجتماع الإنسان، فإن اجتماعه لا يصح أن يقابل بتجمهر الحشرات لعدم صحة أسباب هذا التجمهر عليه، فالإنسان، عكس الحشرات، غير مضطر إلى التجمهر لإقامة النسل (المصدر نفسه، ص58).
وعليه، نخلص إلى القول إن الاجتماع في الكائنات الحيّة أنواع، لكل نوع منها خصائص لا تتعداه إلى نوع آخر، وإن تطبيق الاجتماع الإنساني على مظاهر التجمهر في الحشرات والحيوانات الدنيا أو بالعكس غلط فادح سببه جهل مرتكبيه العوامل البيولوجية المختلفة في أنواع الاجتماع المختلفة.
مبدأ الاستمرار والاطراد الفلسفي
تميّز فكر سعاده بأنه رفض الحتميات، على اختلاف مسمياتها وأشكالها، كما رفض نظرية «الإنسان الأخير» و«نهاية التاريخ»، الحتميتين الجديدتين اللتين طبقت شهرتهما الآفاق مع نهاية الألفية الثانية. ومع أن هاتين النظريتين دخلتا في التداول بعد نصف قرن، تقريباً، على رحيل سعاده، فإننا نتلمس رفض سعاده لهما من السياق العام لفكره الفلسفي الذي يرفض كل ما هو «حتمي» وكل ما هو «غيبي» وكل ما هو «نهائي» وكل ما هو «أخير». فلا حدود، برأيه، للتقدم الذي يقوده الإنسان-المجتمع، صانع التاريخ ومسيّره، في آن، لأنه «كلما وصلنا إلى قمة تراءت لنا قمم أخرى»، يقول سعاده، والعالم الأجدّ «لا بدّ أن ينهض ويتأسّس على عالمنا الجديد». فخلافاً للحتمية التاريخية المادية أو الهيغلية التي أوقفت قطار التقدم عند محطة افتراضية لفردوسها الموعود: الدولة الألمانية عند هيغل والفردوس الشيوعي عند ماركس، وسقوط هذه الفرضيات، بين ليلة وضحاها، لأن الحياة لا تُعلّب، فإنّ نظرة سعاده لا تتوسل أية عمارة فلسفية أو منطقية جاهزة رغم أنه فجّر نهضة تغييرية ذات منهج فلسفي مستقل تعمل على بناء عالم جديد (رعد، إنعام، المدرحية، ص59)، فإنه، باطّراد المعرفة، اعتبر أن العالم الجديد الذي تصارع النهضة لتحقيقه هو «عالم فوق العوالم الماضية ودرجة لا بدّ منها لاطراد ارتقاء الإنسانية النفسي، ولذلك فهو عالم خالد». لكنه عالم يختلف عن أوهام «نهائية العالم» التي طلع بها فوكويوما بعد نشوة النصر، السراب الذي عاشت به الرأسمالية الغربية عند سقوط الاتحاد السوفياتي، ولم تلبث السنوات التالية أن بدّدته. إنّ عالم سعاده الجديد، كما جاء في خاتمة كتابه «الصراع الفكري في الأدب السوري» (1942)، لا يغلق الباب على التقدّم نحو «عالم أجدّ» تكون النفوس التي ارتقت إلى هذا العالم الجديد مستعدّة لتقبل عالم أجدّ، إذ كشفت مخبئات الأبد أنه سيكون ممكناً إحداث ذلك العالم، الذي لا يمكننا الآن، وإلى أمد بعيد، تصوّر موجباته وحقائقه وقضاياه، ولكننا نتصوّر، بموجب مبدأ الاستمرار والاطراد الفلسفي، أنه لا بدّ أن يكون «ذا اتصال وثيق بعالم نظرتنا الجديدة وحقائقه وقضاياه، كما أننا نرى، بموجب هذه النظرة، أن عالمها ليس شيئاً حادثاً من غير أصل، بل شيئاً غير ممكن من دون أصل جوهري تتصل حقائقه بحقائقه، فتكون الحقائق الجديدة صادرة عن الحقائق الأصلية القديمة بفهم جديد للحياة وقضاياها والكون وإمكانياته والفن ومراميه» (الصراع الفكري، ص96).
إنّ القانون الأساسي للاجتماع البشري هو «قانون العوامل والحالات» (loi des etats et des facteurs) يقول سعاده، الأمر الذي يُلزمنا، نحن، أو غيرنا، بالتعرّف إلى هذه (العوامل) لكي يكون ممكناً لنا، أو لغيرنا، التعامل مع (حالات) أوضاعنا، أو أوضاعهم، على تعدّدها واختلافها وتشابكها، ما يعني أن عوامل التطور هي نفسها فواعل التطوير. وخير مدخل إلى دراسة الفكر القومي الاجتماعي هو هذه الخطوة المنهجية: إنه فكر ذو أساس منهجي، وفي مقدمة «نشوء الأمم» يقول سعاده: «حاجة النهضة إلى هذا الأساس العلمي ماسة».
ناموس العلاقة البيولوجية المثلثة الأضلاع
إنّ الحياة البشرية، ككل حياة أخرى، يقول سعاده، تجري وفاقاً لناموس عام هو ناموس العلاقة البيولوجية المثلثة الأضلاع: الجسم، النفس (الدماغ)، المحيط. ولكن هذا لا يعني أن اشتراك الكائنات الحيّة في هذا الناموس العام يُمكن أن يُولّد اجتماعاً عاماً بين الإنسان والحيوان، وأن يكوّن متحدات عامة أو مشتركة بين أنواع الحيوان والإنسان. إنّ الناموس هو اصطلاح بشري لمجرى من مجاري الحياة أو الطبيعة القصد منه تعيين استمرار حدوث فعل أو خاصة من أفعال وخواص الحياة أو الطبيعة من دون أن يعني ذلك أن الطبيعة أو الحياة وضعت لكائناتها هذه النواميس وأمرتها بالسير عليها. وإذا كنا نستخرج النواميس من الحياة، يُضيف سعاده، فيجب أن لا نجعلها تتضارب مع المجرى الطبيعي الذي نعرّفه بها أو أن لا يحملنا على نسيان الواقع الطبيعي ونواميسه الأخرى، فالنواميس، يذهب سعاده إلى القول، لا تمحو خصائص الأنواع: فإذا كانت حياة الحيوانات المتجمهرة تجري ضمن هذا «المثلث» فحياة الإنسان أيضاً تجري ضمنه. ولكن، لا يجب لمظاهر الحيوان الاجتماعية المشابهة لمعاني ظواهر الإنسان الاجتماعية، كالاستبداد والتعاون والتفاهم والحب والتملك والتقليد وغيرها، أن تحمل بعض العلماء على التكلم عن حياة الحيوان الاجتماعية بالاصطلاحات المستعملة للتعبير عن حياة الإنسان الاجتماعية، فلا مبرّر لاعتبار مظاهر من عالم الحيوان معادلة لمظاهر عالم الإنسان وإيجاد علاقة بين تلك وهذه عن طريق بعض المشابهات النظرية العامة (نشوء الأمم،ص60).