عبد الله بدوي
حين يرحل الكبار، لا يرحلون فرادى. يغادرون ومعهم زمن كامل من الذاكرة والبحث والمعاناة.
في الأول من أيلول (سبتمبر) من عام 2025، أغمض المؤرخ الأكاديمي سعدون حمادة عينيه للمرة الأخيرة عن عمر ناهز الثانية والثمانين، لكن من يعرف الرجل يدرك أن ما تركه وراءه يبقيه مخلداً.
طفولة على ضفاف العاصي
خرج ابن الهرمل، من بيئة جبلية صعبة، فقيرة في مواردها، غنية بعنفوانها وشهامة أهلها. هناك، بين ضفاف العاصي وسهول البقاع الشمالي، تفتحت عيونه على أرض عطشى للعدالة، ومجتمع طالما وُضع على هامش السلطة، لكنه ظل عصياً على الانكسار. تلك البيئة هي التي أنبتت في داخله بذرة الإصرار: أن يُعيد كتابة تاريخ قومه، أن يُعيد إليهم صوتهم الذي صودر لقرون.
ولد سعدون حمادة في الهرمل، وعاش طفولته في كنف عائلة حملت قيم الكرامة والنخوة. لم يكن طريقه مفروشاً بالورود، فابن الأطراف غالباً ما يواجه نظرة التهميش منذ صغره. لكن تلك التجربة صنعت منه رجلاً صلباً، لا يقبل أن يُملى عليه ما يصدّقه أو ما يكتبه.
منذ بداياته المدرسية، كان يميل إلى التاريخ، يطرح أسئلة لا يملك أساتذته أحياناً جواباً عنها: لماذا لا نجد اسم منطقتنا في الكتب؟ لماذا نحن في الهرمل ولسنا في جبيل؟ لماذا لا يُذكر أجدادنا إلا لماماً، كأنّهم لم يكونوا هنا وهناك؟ هذه الأسئلة رافقته، وبدلاً من أن تتحول إلى عقدة، صارت وقوداً صلبة لرحلته الطويلة والمعقدة.
روايته الجديدة لتاريخ لبنان
تابع دراسته الجامعية في لبنان، ثم سافر إلى فرنسا، إلى «السوربون» تحديداً، حيث درس التاريخ بعمق، ثم اختار أن يدرس أيضاً القانون الدولي. لم يكن ذلك مجرد مصادفة، بل كان يعي أنّ التاريخ بلا قانون يظل ناقصاً، وأن الوثيقة تحتاج إلى عين قانونية تفككها وتفهم دلالاتها. عاد إلى لبنان يحمل شهادتي دكتوراه، لكنه عاد قبل ذلك محملاً برؤية: أن عليه أن يعيد قراءة تاريخ لبنان من جديد، وأن يفتش في الأرشيفات العثمانية والأوروبية والكنسية ليكشف ما تم طمسه.
منذ أن بدأ مشروعه البحثي، أدرك أن الطريق لن يكون سهلاً. فهو لا يكتب تاريخاً «مقبولاً» متفقاً عليه، بل يفتح جروحاً قديمة، غير أنّ ذلك لم يجعله يتردد. في إسطنبول، غاص في دفاتر النفوس العثمانية والفرمانات الرسمية. في مكتبات أوروبا، قلب أوراق القناصل الذين كتبوا تقاريرهم عن جبل لبنان وجبل عامل والبقاع. في الأديرة والكنائس، قرأ المخطوطات التي احتفظت بها بكركي والدوائر المارونية. ومن كل ذلك، جمع ما يقرب من 845 وثيقة، صارت لاحقاً أعمدة بناء روايته الجديدة لتاريخ لبنان.
نتائج بحثه لم تكن عابرة. بل كانت نتائج تصدم القارئ لأنها تقلب ما اعتاد أن يراه في كتب المدرسة. قال حمادة، مستنداً إلى الوثائق: إن لبنان في القرن السابع عشر لم يكن كما صُوِّر لنا. كان الشيعة فيه مكوّناً أساسياً، وربما المكوّن الأكبر.
ففي دفتر النفوس العثماني لعام 1686 مثلاً، كان عدد السكان 256746، بينهم 98 ألف شيعي (38%)، و76 ألف سني (30%)، و44 ألف مسيحي (18%)، و35 ألف درزي (13%). هذه ليست أرقاماً اخترعها أو نسباً توقّعها، بل أرقام رسمية وردت في دفاتر الدولة العثمانية.
دور الشيعة لم يكن هامشياً
أكثر ما أصر عليه حمادة هو أن دور الشيعة في لبنان لم يكن هامشياً. لقد كانوا حكاماً في مناطق واسعة، من جبل عامل إلى بعلبك والبقاع، بل حتى في جبل لبنان.
وفي إحدى المراحل، كان الحاكم الشيعي هو الذي يثبّت البطريرك الماروني في موقعه عبر مرسوم رسمي، ويمنحه الحقوق ويحدّد له الواجبات. بل إن إحدى الوثائق تشير إلى أنه اشترط عليه الالتزام بشرع النبي محمد والإمام علي. مثل هذه الوقائع تُعيد رسم صورة مختلفة كلياً للعلاقات بين الطوائف في تلك المرحلة.
مَن سمع بثورة 1685؟
ومن أعظم ما كشفه حمادة أيضاً ثورة عام 1685، التي انطلقت من جبل لبنان (الذي كان يُعرف يومها ببلاد سرحان نسبة إلى القائد الشيعي سرحان) ثم امتدت إلى جبل عامل والبقاع. كانت ثورة ضد السلطة العثمانية التي رآها الشيعة حاكماً مغتصباً لا شرعية له.
قاد سرحان التمرد بعدما فشلت مفاوضاته مع السلطنة، التي رفضت التراجع عن سياستها القاسية تجاه الشيعة، فكان رد الفعل أن اندلعت الثورة، وانتشرت في مناطق واسعة، واستمرت حتى عام 1710.
لم تكن مجرد فورة غضب، بل مشروعاً سياسياً هدفه أن يحكم الشيعة أنفسهم وأن يمتنعوا عن دفع الضرائب للباب العالي. وقد أطلق عليها لاحقاً اسم «جمهورية العصاة الحرة» التي بقيت حتى عام 1760 حين شنّ العثمانيون حملة عسكرية كبرى للقضاء عليها.
تزوير معركة عنجر الشهيرة
هذه القراءة لم ترُق لكثيرين، فهي تناقض الرواية الكلاسيكية التي حصرت تاريخ لبنان بالشوف والمعنيين والشهابيين. لكن حمادة لم يكن يبالي. كان يقول: هذه وثائق، ومَن شاء أن يعترض، فليواجه الوثيقة بوثيقة. بل إنه كشف بالتفصيل كيف جرى تزوير معركة عنجر الشهيرة.
ففي حين صُوِّرت على أنها مواجهة بين فخر الدين الكبير والعثمانيين، أثبت أنّ المعركة كانت بين العثمانيين والأمراء الحرافشة بقيادة الأمير منذر الحرفوش، وأن فخر الدين نفسه قاتل إلى جانب العثمانيين. هذه النتيجة، التي تدعمها وثائق عثمانية وتقارير قناصل فرنسيين، تعني أنّ ما تعلمناه عن «بطل لبناني» يواجه السلطنة يحتاج إلى إعادة نظر جذرية.
مؤرّخ الوثائق
هكذا كان حمادة: لا يجامل، ولا يكتب لإرضاء أحد. أراد أن يكتب كما تقول الوثيقة، لا كما يرغب الناس أن يسمعوا. وهذا ما جعله يوصف بأنه مؤرّخ الوثائق. لم يكن يكتفي بالرواية الشفوية، ولا بالقصائد الزجلية التي اعتاد البعض أن يملؤوا بها فراغ التاريخ، بل كان يسعى إلى النص الأصلي، إلى الأرشيف. وربما لهذا السبب كانت أبحاثه صادمة، لكنها في الوقت نفسه مقنعة.
أثبت أنّ فخر الدين نفسه
قاتل إلى جانب العثمانيين
إلى جانب أبحاثه، أصدر حمادة عدداً من المؤلفات البارزة، على رأسها كتابه الضخم «تاريخ الشيعة في لبنان» الذي صدر في مجلدين. هذا الكتاب تحديداً صار علامة فارقة كونه حاز به المجد من طرفيه، إذ نال «الجائزة العالمية للكتاب» في طهران عام 2015، متفوقاً على آلاف الأعمال من مختلف أنحاء العالم، وكان العمل العربي الوحيد الذي فاز.
أما في الجانب الآخر، فقد نشرت إنجازه هذا جامعة «يال» الأميركية، وهو إنجاز قلّ نظيره لمؤرخ لبناني. هذه الجائزة لم تكن مجرد وسام على صدره، بل شهادة عالمية بأن جهده لم يذهب سدى، وأن ما قدّمه يضيف إلى المكتبة الإنسانية كلها.
مقاوم من نوع آخر
الحديث عن سعدون حمادة ليس حديثاً عن باحث أكاديمي فقط، بل عن مقاوم من نوع آخر. فالمقاومة ليست دائماً بالسلاح، بل قد تكون بالقلم والوثيقة. هو الذي جعل من إعادة كتابة التاريخ شكلاً من أشكال المقاومة. كان يعرف أنّ ما يقوم به ليس مجرد دراسة علمية، بل فعل دفاع عن هوية وذاكرة.
وحين نقرأ عبارته الشهيرة «افتح يا تاريخ لبنان»، نفهم أنه لم يكن ينظر إلى الوثائق على أنها أوراق ميتة، بل كنوز حية تكشف حقيقة حاولوا إخفاءها.
برحيله، أصدر «المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى» بياناً وصفه فيه بالمؤرخ الكبير، وأشار إلى أن لبنان والعالم العربي فقدا علماً من أعلام التاريخ الاجتماعي والسياسي والفكري. وهذا الوصف ليس مجاملة، بل حقيقة يدركها كل من قرأ له. لقد أعطى للهرمل وللبقاع وللشيعة في لبنان صوتاً لم يكن مسموعاً. لم يسمح أن تبقى منطقتهم هامشاً في السرد الوطني، بل جعلها جزءاً من المتن.
وربما لهذا يمكن أن نقول إن حمادة لم يكن فقط مؤرخاً، بل كان رمزاً من رموز المقاومة، لأنه قاوم النسيان والطمس، وأثبت أن للتاريخ وجوهاً أخرى لا تقل أصالة عما كُتب وتداول.
اليوم، ونحن نودّعه، نشعر أنّ فراغاً كبيراً يتركه خلفه. لكنه في الوقت نفسه يترك إرثاً لا يموت: كتبه، أبحاثه، وثائقه، طريقته في النظر إلى التاريخ. ترك لنا وصية مفتوحة: أن نواصل ما بدأه، أن نفتح نحن أيضاً تاريخ لبنان ونقرأه من جديد. لنكمل كتابة صفحاته الناصعة بحبر علمائنا ودماء شهدائنا من دون خوف، ومن دون مساومة، لأنّ الأمة التي لا تعرف تاريخها وتصنع حاضرها محكوم بالضرورة على مستقبلها بالاندثار والزوال.
الكبير، سعدون حمادة، سيبقى اسمه محفوراً كمؤرخ لم يكتب ما يريده الحاكم ولا ما يرضي الناس، بل ما قالته الوثائق.
وسيظل الرجل الذي حمل الهرمل في قلبه، ولبنان كله في عقله، وكتب بالصدق والشجاعة سطوراً لن يمحوها الزمن
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار